في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

15

ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا . .

فهي وصية لجنس الإنسان كله ، قائمة على أساس إنسانيته ، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى وراء كونه إنسانا . وهي وصية بالإحسان مطلقة من كل شرط ومن كل قيد . فصفة الوالدية تقتضي هذا الإحسان بذاتها ، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى كذلك . وهي وصية صادرة من خالق الإنسان ، وربما كانت خاصة بهذا الجنس أيضا . فما يعرف في عالم الطير أو الحيوان أو الحشرات وما إليها أن صغارها مكلفة برعاية كبارها . والمشاهد الملحوظ هو فقط تكليف فطرة هذه الخلائق أن ترعى كبارها صغارها في بعض الأجناس . فهي وصية ربما كانت خاصة بجنس الإنسان .

وتتكرر في القرآن الكريم وفي حديث الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] الوصية بالإحسان إلى الوالدين . ولا ترد وصية الوالدين بالأولاد إلا نادرة ، ولمناسبة حالات معينة . ذلك أن الفطرة وحدها تتكفل برعاية الوالدين للأولاد ، رعاية تلقائية مندفعة بذاتها لا تحتاج إلى مثير . وبالتضحية النبيلة الكاملة العجيبة التي كثيرا ما تصل إلى حد الموت - فضلا على الألم - بدون تردد ، ودون انتظار عوض ، ودون من ولا رغبة حتى في الشكران ! أما الجيل الناشيء فقلما يتلفت إلى الخلف . قلما يتلفت إلى الجيل المضحي الواهب الفاني . لأنه بدوره مندفع إلى الأمام ، يطلب جيلا ناشئا منه يضحي له بدوره ويرعاه ! وهكذا تمضي الحياة !

والإسلام يجعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بنائه ؛ والمحضن الذي تدرج فيه الفراخ الخضر وتكبر ؛ وتتلقى رصيدها من الحب والتعاون والتكافل والبناء . والطفل الذي يحرم من محضن الأسرة ينشأ شاذا غير طبيعي في كثير من جوانب حياته - مهما توفرت له وسائل الراحة والتربية في غير محيط الأسرة - وأول ما يفقده في أي محضن آخر غير محضن الأسرة ، هو شعور الحب . فقد ثبت أن الطفل بفطرته يحب أن يستأثر وحده بأمه فترة العامين الأولين من حياته . ولا يطيق أن يشاركه فيها أحد . وفي المحاضن الصناعية لا يمكن أن يتوفر هذا . إذ تقوم الحاضنة بحضانة عدة أطفال ، يتحاقدون فيما بينهم ، على الأم الصناعية المشتركة ، وتبذر في قلوبهم بذرة الحقد فلا تنمو بذرة الحب أبدا . كذلك يحتاج الطفل إلى سلطة واحدة ثابتة تشرف عليه فترة من حياته كي يتحقق له ثبات الشخصية . وهذا ما لا يتيسر إلا في محضن الأسرة الطبيعي . فأما في المحاضن الصناعية فلا تتوفر السلطة الشخصية الثابتة لتغير الحاضنات بالمناوبة على الأطفال . فتنشأ شخصياتهم مخلخلة ، ويحرمون ثبات الشخصية . . والتجارب في المحاضن تكشف في كل يوم عن حكمة أصيلة في جعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع السليم ، الذي يستهدف الإسلام إنشاءه على أساس الفطرة السليم .

ويصور القرآن هنا تلك التضحية النبيلة الكريمة الواهبة التي تتقدم بها الأمومة ، والتي لا يجزيها أبدا إحسان من الأولاد مهما أحسنوا القيام بوصية الله في الوالدين :

( حملته أمه كرها ، ووضعته كرها ، وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) . .

وتركيب الألفاظ وجرسها يكاد يجسم العناء والجهد والضنى والكلال : ( حملته أمه كرها . ووضعته كرها ) . . لكأنها آهة مجهد مكروب ينوء بعبء ويتنفس بجهد ، ويلهث بالأنفاس ! إنها صورة الحمل وبخاصة في أواخر أيامه ، وصورة الوضع وطلقه وآلامه !

ويتقدم علم الأجنة فإذا به يكشف لنا في عملية الحمل عن جسامة التضحية ونبلها في صورة حسية مؤثرة . .

إن البويضة بمجرد تلقيحها بالخلية المنوية تسعى للالتصاق بجدار الرحم . وهي مزودة بخاصية أكالة . تمزق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله ؛ فيتوارد دم الأم إلى موضعها ، حيث تسبح هذه البويضة الملقحة دائما في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات ؛ وتمتصه لتحيا به وتنمو . وهي دائمة الأكلان لجدار الرحم . دائمة الامتصاص لمادة الحياة . والأم المسكينة تأكل وتشرب وتهضم وتمتص ، لتصب هذا كله دما نقيا غنيا لهذه البويضة الشرهة النهمة الأكول ! وفي فترة تكوين عظام الجنين يشتد امتصاصه للجير من دم الأم فتفتقر إلى الجير . ذلك أنها تعطي محلول عظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير ! وهذا كله قليل من كثير !

ثم الوضع ، وهو عملية شاقة ، ممزقة ، ولكن آلامها الهائلة كلها لا تقف في وجه الفطرة ولا تنسي الأم حلاوة الثمرة . ثمرة التلبية للفطرة ، ومنح الحياة نبتة جديدة تعيش ، وتمتد . . بينما هي تذوي وتموت !

ثم الرضاع والرعاية . حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها في اللبن ، وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية . وهي مع هذا وذلك فرحة سعيدة رحيمة ودود . لا تمل أبدا ولا تكره تعب هذا الوليد . وأكبر ما تتطلع إليه من جزاء أن تراه يسلم وينمو . فهذا هو جزاؤها الحبيب الوحيد !

فأنى يبلغ الإنسان في جزاء هذه التضحية ، مهما يفعل . وهو لا يفعل إلا القليل الزهيد ?

وصدق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقد جاءه رجل كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها ، فسأل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] هل أديت حقها ? فأجابه : " لا ، ولا بزفرة واحدة " .

ويخلص من هذه الوقفة أمام الوصية بالوالدين ، واستجاشة الضمائر بصورة التضحية النبيلة ممثلة في الأم ، إلى مرحلة النضج والرشد ، مع استقامة الفطرة ، واهتداء القلب :

( حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال : رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ، وأن أعمل صالحا ترضاه ، وأصلح لي في ذريتي ، إني تبت إليك ، وإني من المسلمين ) . .

وبلوغ الأشد يتراوح بين الثلاثين والأربعين . والأربعون هي غاية النضج والرشد ، وفيها تكتمل جميع القوى والطاقات ، ويتهيأ الإنسان للتدبر والتفكر في اكتمال وهدوء . وفي هذه السن تتجه الفطرة المستقيمة السليمة إلى ما وراء الحياة وما بعد الحياة . وتتدبر المصير والمآل .

ويصور القرآن هنا خوالج النفس المستقيمة ، وهي في مفرق الطريق ، بين شطر من العمر ولى ، وشطر يكاد آخره يتبدى . وهي تتوجه إلى الله :

( رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ) . .

دعوة القلب الشاعر بنعمة ربه ، المستعظم المستكثر لهذه النعمة التي تغمره وتغمر والديه قبله فهي قديمة العهد به ، المستقل المستصغر لجهده في شكرها . يدعو ربه أن يعينه بأن يجمعه كله : ( أوزعني ) . . لينهض بواجب الشكر ؛ فلا يفرق طاقته ولا اهتمامه في مشاغل أخرى غير هذا الواجب الضخم الكبير .

( وأن أعمل صالحا ترضاه ) . .

وهذه أخرى . فهو يطلب العون للتوفيق إلى عمل صالح ، يبلغ من كماله وإحسانه أن يرضاه ربه . فرضى ربه هو الغاية التي يتطلع إليها . وهو وحده الرجاء الذي يأمل فيه .

( وأصلح لي في ذريتي ) . .

وهذه ثالثة . وهي رغبة القلب المؤمن في أن يتصل عمله الصالح في ذريته . وأن يؤنس قلبه شعوره بأن في عقبه من يعبد الله ويطلب رضاه . والذرية الصالحة أمل العبد الصالح . وهي آثر عنده من الكنوز والذخائر . وأروح لقلبه من كل زينة الحياة . والدعاء يمتد من الوالدين إلى الذرية ليصل الأجيال المتعاقبة في طاعة الله .

وشفاعته إلى ربه . شفاعته التي يتقدم بها بين يدي هذا الدعاء الخالص لله ، هي التوبة والإسلام :

( إني تبت إليك وإني من المسلمين ) . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَوَصّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتّىَ إِذَا بَلَغَ أَشُدّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِيَ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِيَ أَنْعَمْتَ عَلَيّ وَعَلَىَ وَالِدَيّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرّيّتِيَ إِنّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } .

يقول تعالى ذكره : ووصينا ابن آدم بوالديه الحسن في صحبته إياهما أيام حياتهما ، والبرّ بهما في حياتهما وبعد مماتهما .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : إحسانا فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة «حُسْنا » بضمّ الحاء على التأويل الذي وصفت . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة إحْسانا بالألف ، بمعنى : ووصيناه بالإحسان إليهما ، وبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب ، لتقارب معاني ذلك ، واستفاضة القراءة بكل واحدة منهما في القرّاء .

وقوله : حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْها وَوَضَعَتْهُ كُرْها يقول تعالى ذكره : ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا برّا بهما ، لما كان منهما إليه حملاً ووليدا وناشئا ، ثم وصف جلّ ثناؤه ما لديه من نعمة أمه ، وما لاقت منه في حال حمله ووضعه ، ونبهه على الواجب لها عليه من البرّ ، واستحقاقها عليه من الكرامة وجميل الصحبة ، فقال : حَمَلَتْهُ أُمّهُ يعني في بطنها كرها ، يعني مشقة ، وَوَضَعَتْهُ كُرْها يقول : وولدته كرها يعني مشقة . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْها وَوَضَعَتْهُ كُرْها يقول : حملته مشقة ، ووضعته مشقة .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والحسن ، في قوله : حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْها وَوَضَعَتْهُ كُرْها قالا : حملته في مشقة ، ووضعته في مشقة .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْها قال : مشقة عليها .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : كُرْها فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة «كَرْها » بفتح الكاف . وقرأته عامة قرّاء الكوفة كُرْها بضمها ، وقد بيّنت اختلاف المختلفين في ذلك قبل إذا فتح وإذا ضمّ في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .

وقوله : وحَمْلُهُ وفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرا يقول تعالى ذكره : وحمل أمه إياه جنينا في بطنها ، وفصالها إياه من الرضاع ، وفطمها إياه ، شرب اللبن ثلاثون شهرا .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَفِصَالُهُ ، فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار غير الحسن البصري : وحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ بمعنى : فاصلته أمه فصالاً ومفاصلة . وذُكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأه : «وحَمْلُهُ وَفَصْلُهُ » بفتح الفاء بغير ألف ، بمعنى : وفصل أمه إياه .

والصواب من القول في ذلك عندنا ، ما عليه قرّاء الأمصار ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، وشذوذ ما خالفه .

وقوله : حتى إذَا بَلَغَ أشُدّهُ اختلف أهل التأويل في مبلغ حدّ ذلك من السنين ، فقال بعضهم : هو ثلاث وثلاثون سنة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : أشدّه : ثلاث وثلاثون سنة ، واستواؤه أربعون سنة ، والعذر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة حتى إذَا بَلَغَ أشُدّهُ قال : ثلاثا وثلاثين .

وقال آخرون : هو بلوغ الحلم . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مجالد ، عن الشعبيّ ، قال : الأشدّ : الحلم إذا كتبت له الحسنات ، وكتبت عليه السيئات .

وقد بيّنا فيما مضى الأشدّ جمع شدّ ، وأنه تناهي قوّته واستوائه . وإذا كان ذلك كذلك ، كان الثلاث والثلاثون به أشبه من الحلم ، لأن المرء لا يبلغ في حال حُلمه كمال قواه ، ونهاية شدّته ، فإن العرب إذا ذكرت مثل هذا من الكلام ، فعطفت ببعض على بعض جعلت كلا الوقتين قريبا أحدهما من صاحبه ، كما قال جلّ ثناؤه : إنّ رَبّكَ يَعْلَمُ أنّكَ تَقُومُ أدنى مِنْ ثُلُثَي اللّيْل وَنِصْفَهُ ولا تكاد تقول أنا أعلم أنك تقوم قريبا من ساعة من الليل وكله ، ولا أخذت قليلاً من مال أو كله ، ولكن تقول : أخذت عامة مالي أو كله ، فكذلك ذلك في قوله : حتى إذَا بَلَغَ أشُدّهُ وَبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً لا شكّ أن نسق الأربعين على الثلاث والثلاثين أحسن وأشبه ، إذ كان يُراد بذلك تقريب أحدهما من الاَخر من النسق على الخمس عشرة أو الثمان عشرة .

وقوله : وَبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً ذلك حين تكاملت حجة الله عليه ، وسير عنه جهالة شبابه وعرف الواجب لله من الحقّ في برّ والديه . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً وقد مضى من سيء عمله .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً ، قالَ رَبّ أوْزِعْنِي حتى بلغ مِنَ المُسْلِمِينَ وقد مضى من سيء عمله ما مضى .

وقوله : قالَ رَبّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِي أنْعَمْتَ عَليّ وَعَلى وَالِدَيّ يقول تعالى ذكره : قال هذا الإنسان الذي هداه الله لرشده ، وعرف حقّ الله عليه فيما ألزمه من برّ والديه رَبّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ يقول : أغرني بشكر نعمتك التي أنعمت عليّ في تعريفك إياي توحيدك وهدايتك لي للإقرار بذلك ، والعمل بطاعتك وَعَلىَ وَالِدَيّ من قبلي ، وغير ذلك من نعمك علينا ، وألهمني ذلك . وأصله من وزعت الرجل على كذا : إذا دفعته عليه . وكان ابن زيد يقول في ذلك ما :

حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ قال : اجعلني أشكر نعمتك ، وهذا الذي قاله ابن زيد في قوله : ربّ أوْزِعْنِي وإن كان يؤول إليه معنى الكلمة ، فليس بمعنى الإيزاع على الصحة .

وقوله : وأنْ أعمَلَ صَالِحا تَرْضَاهُ يقول تعالى ذكره : أوزعني أن أعمل صالحا من الأعمال التي ترضاها ، وذلك العمل بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .

وقوله : وأصْلِحْ لي في ذُرّيّتِي يقول : وأصلح لي أموري في ذرّيتي الذين وهبتهم ، بأن تجعلهم هداة للإيمان بك ، واتباع مرضاتك ، والعمل بطاعتك ، فوصاه جلّ ثناؤه بالبرّ بالاَباء والأمهات والبنين والبنات . وذُكر أن هذه الاَية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه .

وقوله : إنّي تُبْتُ إلَيْكَ وَإنّي مِنَ المُسْلِمِينَ يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هذا الإنسان : إنّي تُبْتُ إلَيْكَ يقول : تبت من ذنوبي التي سلفت مني في سالف أيامي إليك وَإنّي مِنَ المُسْلِمِينَ يقول : وإني من الخاضعين لك بالطاعة ، المستسلمين لأمرك ونهيك ، المنقادين لحكمك .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

وقوله تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه } يريد النوع ، أي هكذا مضت شرائعي وكتبي لأنبيائي ، فهي وصية من الله في عباده .

وقرأ جمهور القراء : «حُسْناً » بضم الحاء وسكون السين ، ونصبه على تقدير وصيناه ليفعل أمراً ذا حسن ، فكأن الفعل تسلط عليه مفعولاً ثانياً . وقرأ علي بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن وعيسى : «حَسَناً » بفتح الحاء والسين ، وهذا كالأول ومحتمل كونهما مصدرين كالبُخل والبَخل{[10302]} ، ومحتمل ، أن يكون هذا الثاني اسماً لا مصدراً ، أي ألزمناه بهما فعلاً حسناً{[10303]} . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «إحساناً » ، ونصب هذا على المصدر الصريح والمفعول الثاني في المجرور ، والباء متعلقة ب { وصينا } أو بقوله : «إحساناً »{[10304]} .

وبر الوالدين واجب بهذه الآية وغيرها ، وعقوقهما كبيرة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : كل شيء بينه وبين الله حجاب إلا شهادة أن لا إله إلا الله ودعوة الوالدين{[10305]} .

قال القاضي أبو محمد : : ولن يدعوا إلا إذا ظلمهما الولد ، فهذا الحديث في عموم قوله عليه السلام : «اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب »{[10306]} .

ثم عدد تعالى على الأبناء منن الأمهات وذكر الأم في هذه الآيات في أربع مراتب ، والأب في واحدة ، جمعهما الذكر في قوله : { بوالديه } ، ثم ذكر الحمل للأم ثم الوضع لها ثم الرضاع الذي عبر عنه بالفصال ، فهذا يناسب ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر ، والربع للأب ، وذلك إذ قال له رجل : يا رسول الله من أبر ؟ «قال : أمك ، قال ثم من ؟ قال : ثم أمك ، قال ثم من ؟ قال : ثم أمك ، قال ثم من ؟ قال : أباك »{[10307]} .

وقوله : { كرهاً } معناه في ثاني استمرار الحمل حين تتوقع حوادثه ، ويحتمل أن يريد في وقت الحمل ، إذ لا تدبير لها في حمله ولا تركه ، وقال مجاهد والحسن وقتادة : المعنى حملته مشقة ووضعته مشقة .

وقرأ أكثر القراء : «كُرهاً » بضم الكاف . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة والأعرج : «كَرهاً » بفتح الكاف ، وقرأ بهما معاً مجاهد وأبو رجاء وعيسى . قال أبو علي وغيره : هما بمعنى ، الضم الاسم ، والفتح المصدر . وقالت فرقة : الكره بالضم : المشقة ، والكره بالفتح هو الغلبة والقهر ، وضعفوا على هذا قراءة الفتح . قال بعضهم : لو كان «كَرهاً » لرمت به عن نفسها ، إذ الكره القهر والغلبة ، والقول الذي قدمناه أصوب .

وقرأ جمهور الناس : «وفصاله » وذلك أنها مفاعلة من اثنين ، كأنه فاصل أمه وفاصلته . وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري : «وفصله » ، كأن الأم هي التي فصلته .

وقوله : { ثلاثون شهراً } يقتضي أن مدة الحمل والرضاع هذه المدة ، لأن في القول حذف مضاف تقديره : ومدة حمله وفصاله ، وهذا لا يكون إلا بأن يكون أحد الطرفين ناقصاً ، وذلك إما بأن تلد المرأة لستة أشهر وترضع عامين ، وإما بأن تلد لتسعة على العرف وترضع عامين غير ربع العام ، فإن زادت مدة الحمل نقصت مدة الرضاع ، وبالعكس فيترتب من هذا أن أقل مدة الحمل ستة أشهر .

وأقل ما يرضع الطفل عام وتسعة أشهر ، وإكمال العامين هو لمن أراد أن يتم الرضاعة ، وهذا في أمر الحمل هو مذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجماعة من الصحابة ومذهب مالك رحمه الله .

واختلف الناس في الأشد : فقال الشعبي وزيد بن أسلم : البلوغ إذا كتبت عليه السيئات وله الحسنات . وقال ابن إسحاق : ثمانية عشر عاماً ، وقيل عشرون عاماً ، وقال ابن عباس وقتادة : ثلاثة وثلاثون عاماً ، وقال الجمهور من النظار : ثلاثة وثلاثون . وقال هلال بن يساف وغيره : أربعون ، وأقوى الأقوال ستة وثلاثون ، ومن قال بالأربعين قال في الآية إنه أكد وفسر الأشد بقوله : { وبلغ أربعين سنة } .

قال القاضي أبو محمد : وإنما ذكر تعالى الأربعين ، لأنها حد للإنسان في فلاحه ونجابته ، وفي الحديث : «إن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب فيقول : بأبي وجه لا يفلح »{[10308]} وقال أيمن بن خريم الأسدي : [ الطويل ]

إذا المرء وفّى الأربعين ولم يكنْ . . . له دون ما يأتي حياء ولا ستر

فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى . . . وإن جر أسباب الحياة له العمر{[10309]}

وفي مصحف ابن مسعود : «حتى إذا استوى أشده وبلغ أربعين سنة »{[10310]} وقوله : { أوزعني } معناه : ادفعني عن الموانع وازجرني عن القواطع لأجل أن أشكر نعمتك{[10311]} ، ويحتمل أن يكون { أوزعني } بمعنى اجعل حظي ونصيبي ، وهذا من التوزيع والقوم الأوزاع ، ومن قوله توزعوا المال ، ف «أن » على هذا مفعول صريح . وقال ابن عباس { نعمتك } في التوحيد . و : { صالحاً ترضاه } الصلوات . والإصلاح في الذرية كونهم أهل طاعة وخيرية ، وهذه الآية معناها أن هكذا ينبغي للإنسان أن يفعل ، وهذه وصية الله للإنسان في كل الشرائع .

وقال الطبري : وذُكر أن هذه الآية من أولها نزلت في شأن أبي بكر الصديق ، ثم هي تتناول من بعده ، وكان رضي الله عنه قد أسلم أبواه ، فلذلك قال : { وعلى والدي } ، وفي هذا القول اعتراض بأن هذه الآية نزلت بمكة لا خلاف في ذلك ، وأبو قحافة أسلم عام الفتح فإنما يتجه هذا التأويل على أن أبا بكر كان يطمع بإيمان أبويه ويرى مخايل ذلك فيهما ، فكانت هذه نعمة عليهما أن ليسا ممن عسى{[10312]} في الكفر ولج وحتم عليه ثم ظهر إيمانهما بعد ، والقول بأنها عامة في نوع الإنسان لم يقصد بها أبو بكر ولا غيره أصح{[10313]} ، وباقي الآية بين إلى قوله : { من المسلمين } .


[10302]:مثل: الشُّغل والشَّغل، ذكر ذلك أبو الفتح في المحتسب.
[10303]:قال ابن جني: فهو اسم صفة لا مصدر، ونصبه(وصيناه به)؛ لأنه يفيد مفاد: ألزمناه الحسن في أبويه، وإن شئت قلت: هو منصوب بفعل غير هذا، لا بنفس هذا، فيكون منصوبا بنفس ألزمناه، لا بنفس وصيناه؛ لأنه في معناه.
[10304]:يرفض أبو حيان في البحر ذلك ويقول:"لا يصح أن يتعلق بـ[إحسانا]؛ لأنه مصدر بحرف مصدري والفعل؛ فلا يتقدم معموله عليه، ولأن"أحسن" لا يتعدى بالباء، إنما يتعدى باللام؛ تقول: أحسنت لزيد، ولا تقول: أحسنت بزيد على معنى أن الإحسان يصل إليه".
[10305]:وروى أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:(ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده)، أما الحديث بهذا اللفظ الذي ذكره المؤلف فقد رواه ابن النجار عن أنس رضي الله عنه، وقد ذكره الإمام السيوطي في الجامع الصغير، ورمز له بأنه ضعيف.
[10306]:أخرجه البخاري في الجهاد والزكاة والمظالم والمغازي، ومسلم في الإيمان، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والدارمي في الزكاة، ومالك في موطئه في دعوة المظلوم، وأحمد في مسنده(1-322،3-153)، ولفظه كما جاء في البخاري في كتاب المظالم، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال:(اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب).
[10307]:رواه البخاري ومسلم، واللفظ فيهما:(من أحق الناس بحسن صحابتي؟).
[10308]:لم أقف على هذا الحديث، ولم يذكره من المفسرين في هذا الموقع غير ابن عطية إلا صاحب البحر المحيط.
[10309]:أيمن بن خريم بن فاتك الأسدي، له ترجمة في الأغاني، والإصابة، وتهذيب ابن عساكر، ومعنى "وفّى الأربعين": أكملها، و"ما يأتي": ما يفعل من الأشياء، يفعل ما يريد دون خجل أو تستر من الناس، ولا تنفس عليه، أي لا تحسده على ما ارتضى لنفسه من الأمور مهما طال عمره.
[10310]:قال الفراء:"والمعنى فيه كالمعنى في قراءتنا؛ لأنه جائز في العربية أن تقول: لما وُلد لك وأدركت مدرك الرجال عققت وفعلت، والإدراك قبل الولادة".
[10311]:من ذلك قول النابغة الذبياني: على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما أصح والشيب وازع؟ وقول الآخر: ولما تلاقينا جرت من جفوننا دموع وزعنا غربها بالأصابع فإن المعنى فيهما الكف والدفع، ولكن الطبري يرى أن المعنى: أغرني بشكر نعمتك التي أنعمت عليّ في تعريفك إياي توحيدك وهدايتك لي للاقرار بذلك، وأصله من "وزعت الرجل على كذا، إذا دفعته عليه"، وقال القرطبي: أوزعني: ألهمني.
[10312]:عسى هنا بمعنى كبِر، جاء في اللسان:"عسا الشيخ يعسو….:كبِر، مثل عتا، ويقال للشيخ إذا ولى وكبر: عتا يعتو عتيا، وعسا يعسو مثله".
[10313]:في الآية ثلاثة أقوال: الأول أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد ذكر ذلك الواحدي في "أسباب النزول" من رواية عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما بدون سند، وقال السيوطي في "الدر المنثور":"أخرج ابن عساكر من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنهما...، والثاني أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، والثالث أنها عامة، وهذا ما رجحه المؤلف رحمه الله.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

{ وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه إحسانا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهرا }

تطلب بعض المفسرين وجه مناسبة وقوع هذه الآية عقب التي قبلها ، وذكر القرطبي عن القشيري أن وجه اتصال الكلام بعضه ببعض أن المقصود بيان أنه لا يبعد أن يستجيب بعض الناس للنبيء صلى الله عليه وسلم ويكفر به بعضهم كما اختلف حال الناس مع الوالدين . وقال ابن عساكر : لما ذكر الله التوحيد والاستقامة عطف الوصية بالوالدين كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن . وكلا هذين القولين غير مقنع في وجه الاتصال . ووجه الاتصال عندي أن هذا انتقال إلى قول آخر من أقوال المشركين وهو كلامهم في إنكار البعث وجدالهم فيه فإن ذلك من أصول كفرهم بمحل القصد من هذه الآيات قوله : { والذي قال لوالديه أفَ لكما إلى قوله : { خاسرين } [ الأحقاف : 17 ، 18 ] .

وصيغ هذا في أسلوب قصة جدال بين والدين مؤمنين ووَلد كافر ، وقصة جدال بين ولد مؤمن ووالدين كافرين لأن لذلك الأسلوب وقعا في أنفس السامعين مع ما روي أن ذلك إشارة إلى جدال جرى بين عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق قبل إسلامه وبين وَالديه كما سيأتي . ولذلك تعيّن أن يكون ما قبله توطئة وتمهيداً لذكر هذا الجدال .

وقد روى الواحدي عن ابن عبّاس أن قوله : { ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً } إلى قوله : { يوعدون } [ الأحقاف : 15 ، 16 ] نزل في أبي بكر الصديق . وقال ابن عطية وغير واحد : نزلت في أبي بكر وأبيه ( أبي قحافة ) وأمه ( أم الخير ) أسلم أبواه جميعاً . وقد تكررت الوصاية ببر الوالدين في القرآن وحرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عديدة فكان البر بالوالدين أجلى مظهراً في هذه الأمة منه في غيرها وكان من بركات أهلها بحيث لم يبلغ بر الوالدين مبلغاً في أمة مبلغه في المسلمين . وتقدم { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا } في سورة العنكبوت ( 8 ) .

والمراد بالإنسان الجنس ، أي وصينا الناس وهو مراد به خصوص الناس الذين جاءتهم الرسل بوصايا الله والذين آمنوا وعملوا الصالحات وذلك هو المناسب لقوله في آخرها { أولئك الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا } [ الأحقاف : 16 ] الآية .

وكذلك هو فيما ورد من الآيات في هذا الغرض كما في سورة العنكبوت وفي سورة لقمان بصيغة واحدة .

والحُسن : مصدر حَسُن ، أي وصيناه بحُسن المعاملة . وقرأه الجمهور كذلك . وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف { إحسانا } . والنصب على القراءتين إما بنزع الخافض وهو الباء وإما بتضمين { وصيْنَا } معنى : ألزمنا .

والكره : بفتح الكاف وبضمها مصدر أكره ، إذا امتعض من شيء ، أي كان حمله مكروهاً لها ، أي حالة حمله وولادته لذلك . وقرأ الجمهور { كَرها } في الموضعين بفتح الكاف . وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر ويعقوب بضم الكاف في الموضعين .

وانتصب { كرها } على الحال ، أي كارهة أو ذات كَره .

والمعنى : أنها حملته في بطنها متعبَة من حمله تعباً يجعلها كارهة لأحوال ذلك الحمل . ووضعته بأوجاع وآلام جعلتها كارهة لوضعه . وفي ذلك الحمل والوضع فائدة له هي فائدة وجوده الذي هو كمال حال الممكن وما ترتب على وجوده من الإيمان والعمل الصالح الذي به حصول النعم الخالدة .

وأشير إلى ما بعد الحمل من إرضاعه الذي به علاج حياته ودفع ألم الجوع عنه وهو عمل شاق لأمه فذُكرت مدة الحمل والإرضاع لأنها لطولها تستدعي صبرَ الأم على تحمل كلفة الجنين والرضيع .

والفصال : الفطام ، وذكر الفصال لأنه انتهاء مدة الرضاع فذكر مبدأ مدة الحمل بقوله : { وحملُه } وانتهاءُ الرضاع بقوله : { وفصالُه } . والمعنى : وحمله وفصاله بينهما ثلاثون شهراً . وقرأ يعقوب { وفصْله } بسكون الصاد ، أي فصله عن الرضاعة بقرينة المقام .

ومن بديع معنى الآية جمع مدة الحمل إلى الفصال في ثلاثين شهراً لتُطابق مختلف مدد الحمل إذ قد يكون الحمل ستة أشهر وسبعة أشهر وثمانية أشهر وتسعة وهو الغالب ، قيل : كانوا إذا كان حمل المرأة تسعة أشهر وهو الغالب أرضعتْ المولود أحد وعشرين شهراً ، وإذا كان الحمل ثمانية أشهر أرضعت اثنين وعشرين شهراً ، وإذا كان الحمل سبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهراً ، وإذا كان الحمل ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهراً ، وذلك أقصى أمد الإرضاع فعوضوا عن نقص كل شهر من مدة الحمل شهراً زائداً في الإرضاع لأن نقصان مدة الحمل يؤثر في الطفل هزالاً .

ومن بديع هذا الطيّ في الآية أنها صالحة للدلالة على أن مدة الحمل قد تكون دون تسعة أشهر ولولا أنها تكون دون تسعة أشهر لحددته بتسعة أشهر لأن الغرض إظهار حق الأم في البر بما تحملته من مشقة الحمل فإن مشقة مدة الحمل أشدّ من مشقة الإرضاع فلولا قصد الإيماء إلى هذه الدلالة لكان التحديد بتسعة أشهر أجدرَ بالمقام . وقد جعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه هذه الآية مع آية سورة البقرة ( 233 ) { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } دليلاً على أن الوضع قد يكون لستة أشهر ، ونسب مثله إلى ابن عباس . ورووا عن معمر بن عبد الله الجهني قال : تزوج رجل منا امرأة من جهينة فولدت لتمام ستة أشهر فانطلق زوجها إلى عثمان بن عفان فذكر له فبعث إليها عثمان ، فلما أتي بها أمر برجمها فبلغ ذلك عَليّاً فأتاه فقال : أما تقرأ القرآن قال : بلى . قال : أما سمعت قوله : { وحملهُ وفصاله ثلاثون شهراً } ، وقال : { حولين كامِلين } فلم نجده بَقي إلا ستة أشهر . فرجع عثمان إلى ذلك وهو استدلال بني على اعتبار أن شمول الصور النادرة التي يحتملها لفظ القرآن هو اللائق بكلام علاّم الغيوب الذي أنزله تبياناً لكل شيء من مثل هذا .

وتقدم الكلام على أحكام الحمل في سورة البقرة .

{ حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أوزعنى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى والدي وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه وَأَصْلِحْ لِي فِى ذريتى إِنَّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ المسلمين } .

{ حتى } ابتدائية ومعناها معنى فاء التفريع على الكلام المتقدم ، وإذ كانت { حتى } لا يفارقها معنى الغاية كانت مؤذنة هنا بأن الإنسان تدرج في أطواره من وقت فصاله إلى أن بلغ أشده ، أي هو موصًى بوالديه حسناً في الأطوار الموالية لفصاله ، أي يوصيه وليّه في أطوار طفولته ثم عليه مراعاة وصية الله في وقت تكليفه .

ووقوع { إذا } بعد { حتى } ليرتب عليها توقيت ما بعد الغاية من الخبر ، أي كانت الغاية وقت بلوغه الأشدّ ، وقد تقدمت نظائر ذلك قريباً وبعيداً منها قوله تعالى : { حتى إذا فشلتم } في سورة آل عمران ( 152 ) .

ولما كان إذا } ظرفاً لزمن مستقبل كان الفعل الماضي بعدها منقلباً إلى الاستقبال ، وإنما صيغ بصيغة الماضي تشبيهاً للمؤكد تحصيله بالواقع ، فهو استعارة .

و { إذا } تجريد للاستعارة ، والمعنى : حتى يبلغ أشده ، أي يستمر على الإحسان إليهما إلى أن يبلغ أشده فإذا بلغه { قال رب أوزِعْني } ، أي طلب العون من الله على زيادة الإحسان إليهما بأن يلهمه الشكر على نعمه عليه وعلى والديه . ومن جملة النعم عليه أن ألهمه الإحسان لِوالديه . ومن جملة نعمه على والديه أن سخر لهما هذا الولد ليحسن إليهما ، فهاتان النعمتان أول ما يتبادر عن عموم نعْمة الله عليه وعلى والديه لأن المقام للحديث عنهما .

وهذا إشارة إلى أن الفعل المؤقت ببلوغ الأشد وهو فعل { قال ربّ أوزعني } من جملة ما وُصِي به الإنسان ، أي أن يحسن إلى والديه في وقت بلوغه الأشد . فالمعنى : ووصينا الإنسان حُسناً بوالديه حتى في زمن بلوغه الأشد ، أي أن لا يفتر عن الإحسان إليهما بكل وجه حتى بالدعاء لهما . وإنما خص زمان بلوغه الأشد لأنه زمن يكثر فيه الكلف بالسعي للرزق إذ يكون له فيه زوجة وأبناء وتكثر تكاليف المرأة فيكون لها فيه زوج وبيت وأبناء فيكونان مظنة أن تشغلهما التكاليف عن تعهد والديهما والإحسان إليهما فنبها بأن لا يفتُرا عن الإحسان إلى الوالدين .

ومعنى { قال ربّ أوزعني } أنه دعا ربه بذلك ، ومعناه : أنه مأمور بالدعاء إليهما بأنه لا يشغله الدعاء لنفسه عن الدعاء لهما وبأنه يحسن إليهما بظهر الغيب منهما حين مناجاته ربه ، فلا جرم أن إحسانه إليهما في المواجهة حاصل بفحوى الخطاب كما في طريقة الفحوى في النهي عن أذاهما بقوله تعالى : { فلا تقل لهما أف } [ الإسراء : 23 ] .

وحاصل المعنى : أن الله أمر بالإحسان إلى الوالدين في المشاهدة والغيبة وبجميع وسائل الإحسان الذي غايته حصول النفع لهما ، وهو معنى قوله تعالى : { وقل رب ارحمهما كما رَبَّياني صغيرا } [ الإسراء : 24 ] وأن الله لمّا أمر بالدعاء للأبوين وعد بإجابته على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لقوله : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم بثه في صدور الرجال ، وولد صالح يدعو له بخير " وما شُكر الولد ربه على النعمة التي أنعمها الله على والديه إلا من باب نيابته عنهما في هذا الشكر ، وهو من جملة العمل الذي يؤديه الولد عن والديه .

وفي حديث الفضل بن عباس أن المرأة الخثعمية قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع « إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفيجزِىءُ أن أحُجّ عنه ، قال : " نعم حُجِّي عنه " ، وهو حج غير واجب على أبيها لعجزه .

والأشُدّ : حالة اشتداد القوى العقلية والجسدية وهو جمع لم يسمع له بمفرد . وقيل مفرده : شِدّة بكسر الشين وهاء التأنيث مثل نعمة جمعها أنْعُم ، وليس الأشد اسماً لعدد من سني العمر وإنما سِنُو العمر مظنة للأشُدّ . ووقتُه ما بعد الثلاثين سنة وتمامه عند الأربعين سنة ولذلك عطف على { بلَغ أشده } قوله : { وبلغ أربعين سنة } أي بلغ الأشد ووصل إلى أكمله فهو كقوله تعالى : { ولما بلغ أشده واستوى } [ القصص : 14 ] ، وتقدم في سورة يوسف ، وليس قوله : { وبلغ أربعين سنة } تأكيداً لقوله { بلغ أشده } لأن إعادة فعل بلغ تبعد احتمال التأكيد وحرف العطف أيضاً يبعد ذلك الاحتمال .

و { أوزعني } : ألهمني . وأصل فعل أوزع الدلالة على إزالة الوَزْع ، أي الانكفاف عن عمل ما ، فالهمزة فيه للإزالة ، وتقدم في سورة النمل .

و { نعمتك } اسم مصدر مضاف يعمّ ، أي ألهمني شكر النعم التي أنعمت بها علي وعلى والدي من جميع النعم الدينية كالإيمان والتوفيق ومن النعم الدنيوية كالصحة والجِدة .

وما ذكر من الدعاء لذريته بقوله : { وأصلح لي في ذريتي } استطراد في أثناء الوصاية بالدعاء للوالدين بأن لا يغفل الإنسان عن التفكر في مستقبله بأن يصرف عنايته إلى ذريته كما صرفها إلى أبويه ليكون له من إحسان ذريته إليه مثل ما كان منه لأبويه وإصلاح الذرية يشمل إلهامهم الدعاء إلى الوالد .

وفي إدماج تلقين الدعاء بإصلاح ذريته مع أن سياق الكلام في الإحسان إلى الوالدين إيماء إلى أن المرء يلقى من إحسان أبنائه إليه مثل ما لقي أبواه من إحسانه إليهما ، ولأن دعوة الأب لابنه مرجوة الإجابة . وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن : دعوة الوالد على ولده ، ودعوة المسافر ، ودعوة المظلوم " ، وفي رواية « لولده » وهو حديث حسن متعددة طرقه .

واللام في { وأصلح لي } لام العلة ، أي أصلح في ذريتي لأجلي ومنفعتي كقوله تعالى :

{ ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] . ونكتة زيادة هذا في الدعاء أنه بعد أن أشار إلى نعم الله عليه وعلى والديه تعرض إلى نفحات الله فسأله إصلاح ذريته وعرَّض بأن إصلاحهم لفائدته ، وهذ تمهيد لبساط الإجابة كأنه يقول : كما ابتدأتني بنعمتك وابتدأت والديّ بنعمتك ومتعتهما بتوفيقي إلى برهما ، كَمِّلْ إنعامك بإصلاح ذريتي فإن إصلاحهم لي . وهذه ترقيات بديعة في درجات القرب .

ومعنى ظرفية { في ذريتي } أن ذريته نزلت منزلة الظرف يَستقر فيه ما هو به الإصلاح ويحتوي عليه ، وهو يفيد تمكن الإصلاح من الذرية وتغلغله فيهم . ونظيره في الظرفية قوله تعالى : { وجعلها كلمة باقية في عقبه } [ الزخرف : 28 ] .

وجملة { إني تبت إليك } كالتعليل للمطلوب بالدعاء تعليل توسل بصلة الإيمان والإقرار بالنعمة والعبودية . وحرف ( إنَّ ) للاهتمام بالخبر كما هو ظاهر ، وبذلك يستعمل حرف ( إنَّ ) في مقام التعليل ويغني غناء الفاء .

والمراد بالتوبة : الإيمان لأنه توبة من الشرك ، وبكونه من المسلمين أنه تبع شرائع الإسلام وهي الأعمال . وقال : { من المسلمين } دون أن يقول : وأسلمت كما قال : { تُبت إليك } لما يؤذن به اسم الفاعل من التلبس بمعنى الفعل في الحال وهو التجدد لأن الأعمال متجددة متكررة ، وأما الإيمان فإنما يحصل دفعة فيستقر لأنه اعتقاد ، وفيه الرعي على الفاصلة . هذا وجه تفسير الآية بما تعطيه تراكيبها ونظمها دون تكلف ولا تحمّل ، وهي عامة لكل مسلم أهل لوصاية الله تعالى بوالديه والدعاء لهما إن كانا مؤمنين .