وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك . إذن لارتاب المبطلون . .
وهكذا يتتبع القرآن الكريم مواضع شبهاتهم حتى الساذج الطفولي منها . فرسول الله صلى الله عليه وسلم عاش بينهم فترة طويلة من حياته ، لا يقرأ ولا يكتب ؛ ثم جاءهم بهذا الكتاب العجيب الذي يعجز القارئين الكاتبين . ولربما كانت تكون لهم شبهة لو أنه كان من قبل قارئا كاتبا . فما شبهتهم وهذا ماضيه بينهم ?
ونقول : إنه يتتبع مواضع شبهاتهم حتى الساذج الطفولي منها . فحتى على فرض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قارئا كاتبا ، ما جاز لهم أن يرتابوا . فهذا القرآن يشهد بذاته على أنه ليس من صنع البشر . فهو أكبر جدا من طاقة البشر ومعرفة البشر ، وآفاق البشر . والحق الذي فيه ذو طبيعة مطلقة كالحق الذي في هذا الكون . وكل وقفة أمام نصوصه توحي للقلب بأن وراءه قوة ، وبأن في عباراته سلطانا ، لا يصدران عن بشر !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَما كُنْتَ يا محمد تَتْلُوا يعني تقرأ مِنْ قَبْلِهِ يعني من قبل هذا الكتاب الذي أنزلته إليك مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطّهُ بِيَمِينِكَ يقول : ولم تكن تكتب بيمينك ، ولكنك كنت أمّيّا إذا لارْتابَ المُبْطِلُونَ يقول : ولو كنت من قبل أن يُوحَى إليك تقرأ الكتاب ، أو تخطه بيمينك ، إذن لارتاب : يقول : إذن لشكّ بسبب ذلك في أمرك ، وما جئتهم به من عند ربك من هذا الكتاب الذي تتلوه عليهم المبطلون القائلون إنه سجع وكهانة ، وإنه أساطير الأوّلين . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَما كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ ، وَلا تَخُطّهُ بِيَمِينِكَ إذا لارْتابَ المُبْطِلُونَ قال : كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أمّيا لا يقرأ شيئا ولا يكتب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله وَما كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ ، وَلا تَخُطّهُ بِيَمِينِكَ قال : كان نبيّ الله لا يقرأ كتابا قبله ، ولا يخطه بيمينه قال : كان أُمّيا ، والأميّ : الذي لا يكتب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن إدريس الأودي ، عن الحكم ، عن مجاهد وَما كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ ، وَلا تَخُطّهُ بِيَمِينِكَ قال : كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يخطّ بيمينه ، ولا يقرأ كتابا ، فنزلت هذه الاَية .
وبنحو الذي قلنا أيضا في قوله إذا لارْتابَ المُبْطِلُونَ قالوا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة إذا لارْتابَ المُبْطِلُونَ إذن لقالوا : إنما هذا شيء تعلّمه محمد صلى الله عليه وسلم وكتبه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله إذا لارْتابَ المُبْطِلُون قال قريش .
{ وما كنت تتلو ما من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك } فإن ظهور هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم الشريفة أمي لم يعرف بالقراءة والتعلم خارق للعادة ، وذكر اليمين زيادة تصوير للمنفي ونفي للتجوز في الإسناد . { إذا لارتاب المبطلون } أي لو كنت ممن يخط ويقرأ لقالوا لعله تعلمه أو التقطه من كتب الأولين الأقدمين ، وإنما سماهم مبطلين لكفرهم أو لارتيابهم بانتفاء وجه واحد من وجوه الإعجاز المكاثرة ، وقيل لارتاب أهل الكتاب لوجدانهم نعتك على خلاف ما في كتبهم فيكون إبطالهم باعتبار الواقع دون المقدر .
ثم بين تعالى الحجة على «المبطلين » المرتابين ما وضح أن مما يقوي نزول هذا القرآن من عند الله أن محمداً صلى الله عليه وسلم جاء به في غاية الإعجاز والطول والتضمن للغيوب وغير ذلك وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ولا يتلو كتاباً ولا يخط حرفاً ولا سبيل له إلى العلم ، فإنه لو كان ممن يقرأ { لارتاب المبطلون } وكان لهم في ارتيابهم متعلق ، وأما ارتيابهم مع وضوح هذه الحجة فظاهر فساده ، وقال مجاهد : كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمداً لا يخط ولا يقرأ كتاباً فنزلت هذه الآية ، وذكر النقاش في تفسير هذه الآية عن الشعبي أنه قال : ما مات النبي صلى الله عليه وسلم حتى كتب وأسند أيضاً حديثاً إلى أبي كبشة السلولي مضمنه أنه عليه السلام قرأ صحيفة لعيينة بن حصن وأخبر بمعناها .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا كله ضعيف ، وقول الباجي رحمه الله منه{[9264]} .
هذا استدلال بصفة الأمية المعروف بها الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتُها على أنه موحى إليه من الله أعظم دلالة وقد ورد الاستدلال بها في القرآن في مواضع كقوله : { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } [ الشورى : 52 ] وقوله : { فقد لبثتُ فيكم عُمراً من قَبْلِه أفلا تَعْقِلون } [ يونس : 16 ] .
ومعنى : { ما كنت تتلو من قبله من كتاب } أنك لم تكن تقرأ كتاباً حتى يقول أحد : هذا القرآن الذي جاء به هو مما كان يتلوه من قبل .
و { لا تَخُطُّهُ } أي لا تكتب كتاباً ولو كنت لا تتلوه ، فالمقصود نفي حالتي التعلم ، وهما التعلم بالقراءة والتعلّم بالكتابة استقصاء في تحقيق وصف الأمية فإن الذي يحفظ كتاباً ولا يعرف يكتب لا يُعدّ أمياً كالعلماء العمي ، والذي يستطيع أن يكتب ما يُلقى إليه ولا يحفظ علماً لا يُعدّ أمياً مثل النُسَّاخ فبانتفاء التلاوة والخط تحقق وصف الأمية .
و { إذن } جواب وجزاء لشرط مقدّر ب ( لو ) لأنه مفروض دل عليه قوله : { وما كنت تتلو } { ولا تُخطه } . والتقدير : لو كنت تتلو قبله كتاباً أو تخطه لارتاب المبطلون . ومجيء جواب { إذن } مقترناً باللام التي يغلب اقتران جواب ( لو ) بها دليل على أن المقدر شرط ب ( لو ) كما في قول قُريظ العنبري :
لو كُنتُ من مازن لم تستبح إبلي *** بنو اللقيطة من ذهل ابن شيبانا
إذَنْ لقام بنصري معشر خشن *** عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
قال المرزوقي في « شرح الحماسة » : ( إذن ) هو أنه أخرج البيت الثاني مُخرج جواب قائل قال له : ولو استباحوا إبلك ماذا كان يفعل بنو مازن ؟ فقال :
ويجوز أن يكون أيضاً : إذن لقام ، جواب ( لو ) كأنه أجيب بجوابين . وهذا كما تقول : لو كنتَ حراً لاستقبحت ما يفعله العبيد إذن لاستحسنت ما يفعله الأحرار . يعني يجوز أن تكون جملة : إذن لقام ، بدَلاً من جملة : لم تستبح . وقد تقدم الكلام على نظيره في قوله تعالى : { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لَذَهَب كل إله بما خلق } في سورة [ المؤمنين : 91 ] . والارتياب : حصول الريب في النفس وهو الشك .
ووجه التلازم بين التلاوة والكتابة المتقدمين على نزول القرآن ، وبين حصول الشك في نفوس المشركين أنه لو كان ذلك واقعاً لاحتمل عندهم أن يكون القرآن من جنس ما كان يتلوه من قبلُ من كتب سالفة وأن يكون مما خطَّه من قبل من كلام تلّقاه فقام اليوم بنشره ويدعو به . وإنما جعل ذلك موجب ريب دون أن يكون موجب جَزم بالتكذيب لأن نظم القرآن وبلاغته وما احتوى عليه من المعاني يبطل أن يكون من نوع ما سبق من الكتب والقصص والخطب والشعر ، ولكن ذلك لما كان مستدعياً تأملاً لم يمنع من خطور خاطر الارتياب على الإجمال قبل إتمام النظر والتأمل بحيث يكون دوام الارتياب بهتاناً ومكابرة .
وتقييد تخطه بقيد { بيمينك } للتأكيد لأن الخط لا يكون إلاّ باليمين فهو كقوله : { ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] .
ووصف المكذبين بالمبطلين منظور فيه لحالهم في الواقع لأنهم كذبوا مع انتفاء شبهة الكذب فكان تكذيبهم الآن باطلاً ، فهم مبطلون متوغلون في الباطل ، فالقول في وصفهم بالمبطلين كالقول في وصفهم بالكافرين .