نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَمَا كُنتَ تَتۡلُواْ مِن قَبۡلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذٗا لَّٱرۡتَابَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ} (48)

ولما أشار إلى أن المنكر لأصل الوحي متوغل في الكفر ، دل على ذلك بحال المنزل إليه صلى الله عليه وسلم فقال مسلياً له : { وما } أي أنزلناه إليك والحال أنك ما { كنت تتلوا } أي تقرأ مواصلاً مواظباً في وقت ما .

ولما كان المراد نفي التلاوة عن كثير الزمن الماضي وقليله ، أدخل الجار فقال { من قبله } أي هذا الكتاب الذي أنزلناه إليك ؛ وأكد استغراق الكتب فقال : { من كتاب } أصلاً { ولا تخطه } أي تجدد وتلازم خطه ؛ وصور الخط وأكده بقوله : { بيمينك } أي التي هي أقوى الجارحتين ، وعبر بذلك إشارة إلى أنه لا تحدث الريبة في أمره لعاقل إلا بالمواظبة لمثل ذلك مواظبة قوية ينشأ عنها ملكة ، فكيف إذا لم يحصل أصل الفعل ، ولذلك قال : { إذاً } أي إذ لو كان شيء من هذه المواظبة في التلاوة أو الخط التي يحصل بها الدربة المورثة للملكة { لارتاب } أي لساغ أن تكلف أنفسهم الدخول في الريب أي الشك { المبطلون* } أي هؤلاء الذين ينكرون الوحي إليك من أهل الكتاب ومن العرب ، ويقولون : هو سجع وكهانة وشعر وأساطير الأولين ، العريقون في وصف الإبطال ، أي الدخول في الباطل ، فكانوا يجدون مطعناً ، فتقول العرب : لعله أخذه من كتب الأقدمين ، ويقول الكتابيون : المبشر به عندنا أمي . ولكنه لم يكن شيء من قراءة ولا خط كما هو معروف من حالك فضلاً عن المواظبة لشيء منهما ، فلا ريبة في صدقك في نسبته إلى الله تعالى ، وإذا انتفت الريبة من أصلها صح نفي ما عندهم منها ، لأنه لما لم يكن لهم في الواقع شبهة ، عدت ريبتهم عدماً ، وسموا مبطلين على تقدير هذه الشبهة ، لقيام بقية المعجزات القاطعة بالرسالة ، القاضية بالصدق ، كما قضت بصدق أنبيائهم مع أنهم يكتبون ويقرؤون ، وكتبهم لم تنزل للإعجاز ، فصح أنهم يلزمهم الاتصاف بالإبطال بالارتياب على كل تقدير من تقديري الكتابة والقراءة وعدمهما ، لأن العمدة على المعجزات .