هؤلاء القوم الذين نزل الله الكتاب لينذرهم به رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] كانوا يشركون مع الله آلهة أخرى . فهنا يبدأ ببيان صفة الله التي يعرفون بها حق ألوهيته سبحانه ، ويميزون بها بين من يستحق هذا الوصف العظيم : ( الله )ومن لا يستحقونه ولا يجوز أن يقرنوا إلى مقام الله رب العالمين :
( الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، ثم استوى على العرش ، ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع . أفلا تتذكرون ? يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون . ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم . الذي أحسن كل شيء خلقه ، وبدأ خلق الإنسان من طين . ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين . ثم سواه ونفخ فيه من روحه ، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة . قليلا ما تشكرون ) . .
ذلك هو الله ، وهذه هي آثار ألوهيته ودلائلها . هذه هي في صفحة الكون المنظور . وفي ضمير الغيب المترامي وراء إدراك البشر المحدود . وفي نشأة الإنسان وأطواره التي يعرفها الناس ، والتي يطلعهم عليها الله في كتابه الحق المبين .
( الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ) . .
والسماوات والأرض وما بينهما هي هذه الخلائق الهائلة التي نعلم عنها القليل ونجهل عنها الكثير . . هي هذا الملكوت الطويل العريض الضخم المترامي الأطراف ، الذي يقف الإنسان أمامه مبهورا مدهوشا متحيرا في الصنعة المتقنة الجميلة المنسقة الدقيقة التنظيم . . هي هذا الخلق الذي يجمع إلى العظمة الباهرة ، الجمال الأخاذ . الجمال الحقيقي الكامل ، الذي لا يرى فيه البصر ، ولا الحس ، ولا القلب ، موضعا للنقص ؛ ولا يمل المتأمل التطلع إليه مهما طالت وقفته ؛ ولا يذهب التكرار والألفة بجاذبيته . المتجددة العجيبة . ثم هي هذه الخلائق المنوعة ، المتعددة الأنواع والأجناس والأحجام والأشكال والخواص والمظاهر والاستعدادات والوظائف ، الخاضعة كلها لناموس واحد ، المتناسقة كلها في نشاط واحد ، المتجهة كلها إلى مصدر واحد تتلقى منه التوجيه والتدبير ، وتتجه إليه بالطاعة والاستسلام .
والله . . هو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما . . فهو الحقيق - سبحانه - بهذا الوصف العظيم . .
( خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ) . .
وليست هي قطعا من أيام هذه الأرض التي نعرفها . فأيام هذه الأرض مقياس زمني ناشى ء من دورة هذه الأرض حول نفسها أمام الشمس مرة ، تؤلف ليلا ونهارا على هذه الأرض الصغيرة الضئيلة ، التي لا تزيد على أن تكون هباءة منثورة في فضاء الكون الرحيب ! وقد وجد هذا المقياس الزمني بعد وجود الأرض والشمس . وهو مقياس يصلح لنا نحن أبناء هذه الأرض الصغيرة الضئيلة !
أما حقيقة هذه الأيام الستة المذكورة في القرآن فعلمها عند الله ؛ ولا سبيل لنا إلى تحديدها وتعيين مقدارها . فهي من أيام الله التي يقول عنها : ( وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ) . .
تلك الأيام الستة قد تكون ستة أطوار مرت بها السماوات والأرض وما بينهما حتى انتهت إلى ما هي عليه . أو ستة مراحل في النشأة والتكوين . أو ستة أدهار لا يعلم ما بين أحدها والآخر إلا الله . . وهي على أية حال شيء آخر غير الأيام الأرضية التي تعارف عليها أبناء الفناء . فلنأخذها كما هي غيبا من غيب الله لا سبيل إلى معرفته على وجه التحديد . إنما يقصد التعبير إلى تقرير التدبير والتقدير في الخلق ، وفق حكمة الله وعلمه . وإحسانه لكل شيء خلقه في الزمن والمراحل والأطوار المقدرة لهذا الخلق العظيم .
والاستواء على العرش رمز لاستعلائه على الخلق كله . أما العرش ذاته فلا سبيل إلى قول شيء عنه ، ولا بد من الوقوف عند لفظه . وليس كذلك الاستواء . فظاهر أنه كناية عن الاستعلاء . ولفظ . . ثم ، لا يمكن قطعا أن يكون للترتيب الزمني ، لأن الله سبحانه - لا تتغير عليه الأحوال . ولا يكون في حال أو وضع - سبحانه - ثم يكون في حال أو وضع تال . إنما هو الترتيب المعنوي . فالاستعلاء درجة فوق الخلق ، يعبر عنها هذا التعبير .
وفي ظلال الاستعلاء المطلق يلمس قلوبهم بالحقيقة التي تمسهم :
( ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع ) . .
وأين ? ومن ? وهو سبحانه المسيطر على العرش والسماوات والأرض وما بينهما ? وهو خالق السماوات والأرض وما بينهما ? فأين هو الولي من دونه ? وأين هو الشفيع الخارج على سلطانه ?
وتذكر هذه الحقيقة يرد القلب إلى الإقرار بالله ، والإتجاه إليه وحده دون سواه .
القول في تأويل قوله تعالى : { اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكّرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : المعبود الذي لا تصلح العبادة إلاّ له أيها الناس الّذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ وَما بَيْنَهُما من خلق فِي سِتّةِ أيّامٍ ثم استوى على عرشه في اليوم السابع بعد خلقه السموات والأرض وما بينهما . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتّةِ أيّامٍ ثُمّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ في اليوم السابع . يقول : مالكم أيها الناس إله إلاّ من فعل هذا الفعل ، وخلَق هذا الخَلْق العجيب في ستة أيام .
وقوله : ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَليّ وَلا شَفِيعٍ يقول : ما لكم أيها الناس دونه وليّ يلي أمركم وينصركم منه إن أراد بكم ضرّا ، ولا شفيع يشفع لكم عنده إن هو عاقبكم على معصيتكم إياه ، يقول : فإياه فاتخذوا وليا ، وبه وبطاعته فاستعينوا على أموركم فإنه يمنعكم إذا أراد منعكم ممن أرادكم بسوء ، ولا يقدر أحد على دفعه عما أراد بكم هو ، لأنه لا يقهره قاهر ، ولا يغلبه غالب أفَلا تَتَذَكّرُونَ يقول تعالى ذكره : أفلا تعتبرون وتتفكّرون أيها الناس ، فتعلموا أنه ليس لكم دونه وليّ ولا شفيع ، فتفردوا له الألوهة ، وتخلصوا له العبادة ، وتخلعوا ما دونه من الأنداد والاَلهة .
{ الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش } مر بيانه في " الأعراف " . { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } { ما لكم } إذا جاوزتم رضا الله أحد ينصركم ويشفع لكم ، أو { ما لكم } سواه ولي ولا شفيع بل هو الذي يتولى مصالحكم وينصركم في مواطن نصركم على أن الشفيع متجوز به للناصر ، فإذا خذلكم لم يبق لكم ولي ولا ناصر . { أفلا تتذكرون } بمواعظ الله تعالى .
وقوله تعالى : { في ستة أيام } يقضي بأن يوماً من أيام الجمعة بقي لم يخلق فيه شيء ، وتظاهرت الأحاديث الصحاح أن الخلق ابتدىء يوم الأحد ، وخلق آدم يوم الجمعة آخر الأشياء فهذا مستقيم مع هذه الآية .
ووقع في كتاب مسلم أن الخلق ابتدىء يوم السبت ، فهذا يخالف الآية اللهم إلا أن يكون أراد في الآية جميع الأشياء غير آدم ، ثم يكون يوم الجمعة هو الذي لم يخلق فيه شيء مما بين السماء والأرض ، لأن آدم لم يكن حينئذ مما بينهما ، وقد تقدم القول في قوله : { استوى على العرش } بما فيه كفاية ، و { ثم } في هذا الموضع لترتيب الجمل لأن الاستواء كان بعد أن لم يكن ، وهذا على المختار في معنى { استوى } ونفي «الشفاعة » محمول على أحد وجهين : إما عن الكفرة وإما نفي الشفعاء من ذاتهم على حد شفاعة الدنيا لأن شفاعة الآخرة إنما هي بعد إذن من الله تعالى .
لما كان الركن الأعظم من أركان هدى الكتاب هو إثبات الوحدانية للإله وإبطال الشرك عُقب الثناء على الكتاب بإثبات هذا الركن .
وجيء باسم الجلالة مبتدأ لإحضاره في الأذهان بالاسم المختص به قطعاً لدابر عقيدة الشريك في الإلهية ، وخَبَرُ المبتدأ جملة { ما لكم من دونه من وليّ ولا شفيع } ، ويكون قوله : { الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما صفة لاسم الجلالة .
وجيء باسم الموصول للإيماء إلى وجه بناء الخبر وأنه الانفراد بالربوبية لجميع الخلائق في السماوات والأرض وما بينهما ، ومن أولئك المشركون المعنيون بالخبر ، والخطاب موجه إلى المشركين على طريقة الالتفات .
والوليّ : مشتق من الولاء ، بمعنى : العهد والحلف والقرابة . ومن لوازم حقيقة الولاء النصر والدفاع عن المولَى . وأُريد بالولي : المشارك في الربوبية .
والشفيع : الوسيط في قضاء الحوائج من دفع ضرّ أو جلب نفع . والمشركون زعموا أن الأصنام آلهة شركاء لله في الإلهية ثم قالوا : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] وقالوا : { ما نعبدهم إلا لِيُقَرِّبونا إلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] .
و { مِن } في قوله { من دونه } ابتدائية في محل الحال من ضمير { لكم } ، و ( دون ) بمعنى غَير ، و { مِن } في قوله { من ولي } زائدة لتأكيد النفي ، أي : لا وليّ لكم ولا شفيع لكم غير الله فلا ولاية للأصنام ولا شفاعة لها إبطالاً لما زعموه لأصنامهم من الوصفين إبطالاً راجعاً إلى إبطال الإلهية عنها . وليس المراد أنهم لا نصير لهم ولا شفيع إلا الله لأن الله لا ينصرهم على نفسه ولا يشفع لهم عند نفسه ، قال الله تعالى : { ذلك بأن الله مولَى الذين ءامنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم } [ محمد : 11 ] وقال : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } [ البقرة : 255 ] .
وتقدم تفسير نظيره { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } وبيان تأويل { ثم استوى على العرش } في سورة الأعراف ( 54 ) .
وفُرّع على هذا الدليل إنكارٌ على عدم تدبرهم في ذلك وإهمالهم النظر بقوله : { أفلا تتذكرون } فهو استفهام إنكاري . والتذكر : مشتق من الذُكر الذي هو بضم الذال وهو التفكر والنظر بالعقل .