فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ مَا لَكُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِيّٖ وَلَا شَفِيعٍۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} (4)

{ اللهُ الَّذِي خَلَقَ } أي أوجد وأبدع { السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } على التوزيع كما يأتي في سورة فصلت ، وقد تقدم تفسير هذه الآية في الأعراف وغيرها ، والمراد من ذكرها هنا تعريفهم كمال قدرته ، وعظيم صنعه ليسمعوا القرآن ويتأملوه . قال الحسن الأيام هنا هي من أيام الدنيا ، وقيل :مقدار اليوم ألف سنة من سني الدنيا ، قاله الضحاك ، فعلى هذا المراد بالأيام هنا هي من أيام الآخرة لا من أيام الدنيا ، وليست ثم للترتيب في قوله :

{ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } بل بمعنى الواو ، والعرش في اللغة سرير الملك والمراد به هنا الجسم النوراني المحيط بالعالم كله ، وهذا الاستواء في سبع مواضع من القرآن الكريم والأصل الراجح أن نعتقد ما ورد به القرآن ولا نؤوله ولا نصرفه عن وجهه وهو نص وظاهر في أن الله تعالى فوق العرش بائن من خلقه بالمعنى الذي يليق بجنابه الأقدس الأعلى وتأويله إخراج النص أو الظاهر عن معناه وهذا لا يجوز قطعا إلا عند وجود ما يساويه أو يتقدم عليه ويعارضه ودونه خرط القتاد .

وقد اختلف الناس في هذا على أربعة عشر قولا : أولاها بالصواب مذهب سلف الأمة وأئمتها ، أنه استوى عليه بلا كيف ، مع تنزيهه عما لا يجوز عليه ، والآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة جدا ، وهي تغني عن غيرها . وردت الجهمية هذه الصفة الثابتة له سبحانه ، وتبعها المعتزلة ، ورد عليهم الحافظ ابن القيم في إعلام الموقعين بثمانية عشر وجها ، يطول ذكرها ، وقد جمع أهل العلم فيها سيما أهل القرآن وأصحاب الحديث مباحث ، بل رسائل ، بل كتبا ، طولوها بذكر الأدلة النقلية ، بل العقلية ، والمسألة أوضح من أن تلتبس على عارف ، وأبين من أن يحتاج فيها إلى التطويل ، ولكن لما وقعت فيها تلك القلاقل والزلازل بين بعض الطوائف الإسلامية الحق الصراح فيها ، وأطال سيما الحنابلة وأهل الحديث ، فلهم في ذلك الفتن الكبرى ، والملاحم العظمى ، وما زالوا هكذا في عصر بعد عصر إلى يومنا هذا ، والحق ما عرفناك من مذهب السلف الصالح ، فالاستواء على العرش ، وكونه تعالى فوق الخلق عاليا عليهم ، قد نطق به القرآن الكريم في مواطن يكثر حصرها ، ويطول نشرها ، وكذلك صرح به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غير حديث ، بل هذا مما يجده كل فرد من أفراد الناس في نفسه ، ويحسه في فطرته ، وتجذبه إليه طبيعته ، كما تراه في كل من استغاث بالله سبحانه ، والتجأ إليه ، ووجه دعاءه إلى جنابه الرفيع ، وعزه المنيع ، فإنه يشير عند ذلك بكفه ، أو يرمي بطرفه ، يستوي في ذلك عند عروض أسباب الأدعية ، وحدوث بواعث الاستغاثة ، ووجود مقتضيات الانزعاج ، وظهور دواعي الالتجاء ، عالم الناس وجاهلهم ، وباديهم وحاضرهم ، والماشي على طريقة السلف والمقتدي بأهل التأويل من الخلف .

فالسلامة والنجاة في إمرار ذلك على الظاهر والإذعان بأن الاستواء والاستقرار{[1372]} والكون في الفوق ثابتة على ما نطق به الكتاب والسنة من دون تكييف ، ولا تعطيل ، ولا تشبيه ، ولا تمثيل والمؤول غير مقتد بالسلف ، ولا واقف في طريق النجاة ولا معصوم عن الخطأ ، ولا سالك في جادة السلامة والاستقامة . قال في حجة الله البالغة : واستطال هؤلاء الخائضون على معشر أهل الحديث وسموهم مجسمة مشبهة ، وقالوا هم المستترون بالكيفية ، وقد وضح علي وضوحا بينا أن استطالتهم هذه ليست بشيء وأنهم مخطئون في مقالتهم ، رواية ودراية ، وخاطئون في طعنهم أئمة الهدى انتهى .

{ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ } أي ليس لكم من دون الله أو من دون عذابه { مِن وَلِيٍّ } يواليكم ، ويرد عنكم عذابه { وَلا شَفِيعٍ } يشفع لكم عنده { أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ } تذكر تدبر وتفكر ، وتسمعون هذه المواعظ سماع من يفهم ويعقل ، حتى تنتفعوا بها وتؤمنوا ، ولما بين سبحانه خلق السموات والأرض وما بينهما ، بين تدبيره لأمرها فقال : { يُدَبِّرُ } أي يحكم { الأَمْرَ }


[1372]:يذهب أنصار مذهب الخلف إلى التأويل واستهجان مذهب السلف مع التسليم بأنه أسلم فيقولون مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم وناهيك بهذا من شطط، ويقابلهم في الطرف الآخر بعض دعاة مذهب السلف؛ فتند بهم أحيانا قوة الاندفاع في الدفاع عن مذهب السلف فينحرفون إلى التفسير الذي يقابل التأويل عند خصومهم، ومن هذا تعبير المؤلف بكلمة الاستقرار كعطف تفسير الاستواء وهي كلمة لعمر الحق ليس لها أصل في الروايات القرآنية أو الحديثية في الاستواء، ومذهب السلف أبلغ ما ورد فيه قول مالك بن أنس: الاستواء معلوم، والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة أهو الاستقرار في الكلام المؤلف يوهم بالكيف والتجسيم حاشاه. المطيعي.