ثم يرسم مشهد تنفيذ إبراهيم وإسماعيل للأمر الذي تلقياه من ربهما بإعداد البيت وتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود . . يرسمه مشهودا كما لو كانت الأعين تراهما اللحظة وتسمعهما في آن :
( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم . ربنا واجعلنا مسلمين لك ، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ، وأرنا مناسكنا وتب علينا ، إنك أنت التواب الرحيم . ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويزكيهم ، إنك أنت العزيز الحكيم ) . . إن التعبير يبدأ بصيغة الخبر . . حكاية تحكى :
( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ) . .
وبينما نحن في انتظار بقية الخبر ، إذا بالسياق يكشف لنا عنهما ، ويرينا إياهما ، كما لو كانت رؤية العين لا رؤيا الخيال . إنهما أمامنا حاضران ، نكاد نسمع صوتيهما يبتهلان :
( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم . ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم . . ربنا . . )
فنغمة الدعاء ، وموسيقى الدعاء ، وجو الدعاء . . كلها حاضرة كأنها تقع اللحظة حية شاخصة متحركة . . وتلك إحدى خصائص التعبير القرآني الجميل . رد المشهد الغائب الذاهب ، حاضرا يسمع ويرى ، ويتحرك ويشخص ، وتفيض منه الحياة . . إنها خصيصة " التصوير الفني " بمعناه الصادق ، اللائق بالكتاب الخالد .
وماذا في ثنايا الدعاء ؟ إنه أدب النبوة ، وإيمان النبوة ، وشعور النبوة بقيمة العقيدة في هذا الوجود . وهو الأدب والإيمان والشعور الذي يريد القرآن أن يعلمه لورثة الأنبياء ، وأن يعمقه في قلوبهم ومشاعرهم بهذا الإيحاء :
( ربنا تقبل منا . إنك أنت السميع العليم ) . .
إنه طلب القبول . . هذه هي الغاية . . فهو عمل خالص لله . الاتجاه به في قنوت وخشوع إلى الله . والغاية المرتجاة من ورائه هي الرضى والقبول . . والرجاء في قبوله متعلق بأن الله سميع للدعاء . عليهم بما وراءه من النية والشعور .
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّآ إِنّكَ أَنتَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ }
يعني تعالى ذكره بقوله : وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ واذكروا إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت . والقواعد جمع قاعدة ، يقال للواحدة من قواعد البيت قاعدة ، وللواحدة من قواعد النساء وعجائزهن قاعد ، فتلغى هاء التأنيث لأنها فاعل من قول القائل : قعدت عن الحيض ، ولا حظّ فيه للذكورة ، كما يقال : امرأة طاهر وطامث ، لأنه لا حظّ في ذلك للذكور . ولو عنى به القعود الذي هو خلاف القيام لقيل قاعدة ، ولم يجز حينئذٍ إسقاط هاء التأنيث . وقواعد البيت : أساسه .
ثم اختلف أهل التأويل في القواعد التي رفعها إبراهيم وإسماعيل من البيت ، أهما أحدثا ذلك ، أم هي قواعد كانت له قبلهما ؟ فقال قوم : هي قواعد بيت كان بناه آدم أبو البشر بأمر الله إياه بذلك ، ثم درس مكانه وتعفى أثره بعده حتى بوأه الله إبراهيم عليه السلام ، فبناه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء ، قال : قال آدم : يا ربّ إني لا أسمع أصوات الملائكة قال : بخطيئتك ، ولكن اهبط إلى الأرض وابن لي بيتا ، ثم احْفُفْ به كما رأيت الملائكة تحفّ ببيتي الذي في السماء . فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أَجْبُل : من حراء ، وطور زَيْتا ، وطور سِينا ، وجبل لبنان ، والجودي ، وكان رَبَضُه من حراء فكان هذا بناء آدم حتى بناه إبراهيم بعد .
حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ } قال : القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك .
وقال آخرون : بل هي قواعد بيت كان الله أهبطه لاَدم من السماء إلى الأرض ، يطوف به كما كان يطوف بعرشه في السماء ، ثم رفعه إلى السماء أيام الطوفان ، فرفع إبراهيم قواعد ذلك البيت . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، عن عبد الله بن عمرو قال : لما أهبط الله آدم من الجنة قال : إني مهبط معك أو منزل معك بيتا يطاف حوله ، كما يطاف حول عرشي ، ويصلّى عنده ، كما يصلّى عند عرشي . فلما كان زمن الطوفان رفع ، فكانت الأنبياء يحجّونه ولا يعلمون مكانه ، حتى بوأه الله إبراهيم وأعلمه مكانه ، فبناه من خمسة أجبل : من حراء ، وثبير ، ولبنان ، وجبل الطور ، وجبل الخمر .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسماعيل بن علية ، قال : حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، قال : لما أهبط آدم ، ثم ذكر نحوه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا هشام بن حسان ، عن سوار ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : لما أهبط الله آدم من الجنة كان رجلاه في الأرض ورأسه في السماء ، يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم ، يأنس إليهم ، فهابته الملائكة حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها ، فخفضه إلى الأرض فلما فَقد ما كان يسمع منهم ، استوحش حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته ، فوُجّه إلى مكة ، فكان موضع قدمه قرية وخطوه مفازةً ، حتى انتهى إلى مكة . وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة ، فكانت على موضع البيت الاَن ، فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان ، فرفعت تلك الياقوتة ، حتى بعث الله إبراهيم فبناه ، فذلك قول الله : { وَإِذْ بَوّأْنا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ } .
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : وضع الله البيت مع آدم حين أهبط الله آدم إلى الأرض ، وكان مهبطه بأرض الهند ، وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض ، فكانت الملائكة تهابه ، فنقص إلى ستين ذراعا . فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم فشكا ذلك إلى الله تعالى فقال الله : يا آدم إني قد أهبت إليك بيتا تطوف به كما يطاف حول عرشي ، وتصلّي عنده كما يصلّى عند عرشي . فانطلق إليه آدم فخرج ، ومُدّ له في خطوه ، فكان بين كل خطوتين مفازة ، فلم تزل تلك المفاوز بعد ذلك ، فأتى آدم البيت وطاف به ومن بعده من الأنبياء .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أبان : أن البيت أُهبط ياقوتة واحدة أو درّة واحدة ، حتى إذا أغرق الله قوم نوح رفعه وبقي أساسه ، فبوأه الله لإبراهيم ، فبناه بعد ذلك .
وقال آخرون : بل كان موضع البيت ربوة حمراء كهيئة القبة . وذلك أن الله لما أراد خلق الأرض علا الماءَ زَبْدَةٌ حمراءُ أو بيضاءُ ، وذلك في موضع البيت الحرام . ثم دحا الأرض من تحتها ، فلم يزل ذلك كذلك حتى بوأه الله إبراهيم ، فبناه على أساسه . وقالوا : على أركان أربعة في الأرض السابعة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال جرير بن حازم ، حدثني حميد بن قيس ، عن مجاهد ، قال : كان موضع البيت على الماء قبل أن يخلق الله السماوات والأرض ، مثل الزّبْدَةِ البيضاء ، ومن تحته دُحيت الأرض .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال عطاء وعمرو بن دينار : بعث الله رياحا فصفّقَت الماء ، فأبرزت في موضع البيت عن حَشَفَةٍ كأنها القبة ، فهذا البيت منها فلذلك هي أمّ القرى . قال ابن جريج : قال عطاء : ثم وَتَدَها بالجبال كي لا تُكْفأ بمَيْدٍ ، فكان أول جبل «أبو قبيس » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن حفص بن حميد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : وضع البيت على أركان الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام ، ثم دُحيت الأرض من تحت البيت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن هارون بن عنترة ، عن عطاء بن أبي رباح ، قال : وجدوا بمكة حجرا مكتوبا عليه : «إني أنا الله ذو بَكّة بنيته يوم صنعت الشمس والقمر ، وحففته بسبعة أملاك حَفّا » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : حدثني عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد وغيره من أهل العلم : أن الله لما بَوّأَ إبراهيم مكان البيت ، خرج إليه من الشام ، وخرج معه بإسماعيل وأمه هَاجَر ، وإسماعيلُ طفلٌ صغير يرضع ، وحُملوا فيما حدثني على البُراق ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم . فخرج وخرج معه جبريل ، فقال : كان لا يمرّ بقرية إلا قال : أبهذه أُمرت يا جبريل ؟ فيقول جبريل : امْضِهْ حتى قدم به مكة ، وهي إذ ذاك عِضَاهُ سلَم وسَمُر يربّها أناس يقال لهم العماليق خارج مكة وما حولها ، والبيت يومئذٍ ربوة حمراء مَدِرَة ، فقال إبراهيم لجبريل : أههنا أمرت أن أضعهما ؟ قال : نعم فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه ، وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا ، فقال : { رَبّ إِنّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرّمِ } إلى قوله : { لَعَلّهُمْ يَشْكُرُونَ } .
قال ابن حميد : قال سلمة : قال ابن إسحاق : ويزعمون والله أعلم أن ملكا من الملائكة أتى هاجر أمّ إسماعيل ، حين أنزلهما إبراهيم مكة قبل أن يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت ، فأشار لهما إلى البيت ، وهو ربوة حمراء مَدِرَة ، فقال لهما : هذا أول بيت وضع في الأرض ، وهو بيت الله العتيق ، واعلمي أن إبراهيم وإسماعيل هما يرفعانه . فالله أعلم .
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا هشام بن حسان ، قال : أخبرني حميد ، عن مجاهد ، قال : خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة ، وأركانه في الأرض السابعة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، قال : أخبرني بشر بن عاصم ، عن ابن المسيب ، قال : حدثنا كعب أن البيت كان غُثَاءَةً على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين سنة ، ومنه دُحيت الأرض . قال : وحدثنا عن عليّ بن أبي طالب أن إبراهيم أقبل من أرمينية معه السكينة ، تدله على تبوّىء البيت كما تتبوأ العنكبوت بيتها . قال : فرفعت عن أحجار تطيقه أو لا تطيقه ثلاثون رجلاً . قال : قلت يا أبا محمد ، فإن الله يقول : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ } قال : كان ذاك بعد .
والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن إبراهيم خليله أنه وابنه إسماعيل رفعا القواعد من البيت الحرام . وجائز أن يكون ذلك قواعد بيت كان أهبطه مع آدم ، فجعله مكان البيت الحرام الذي بمكة . وجائز أن يكون ذلك كان القبة التي ذكرها عطاء مما أنشأه الله من زَبَد الماء . وجائز أن يكون كان ياقوتة أو درّة أُهبطا من السماء . وجائز أن يكون كان آدم بناه ثم انهدم حتى رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل . ولا علم عندنا بأيّ ذلك كان من أَيَ لأن حقيقة ذلك لا تُدرك إلا بخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بالنقل المستفيض ، ولا خبر بذلك تقوم به الحجة فيجب التسليم لها ، ولا هو إذ لم يكن به خبر على ما وصفنا مما يدل عليه بالاستدلال والمقاييس فيمثل بغيره ، ويستنبط علمه من جهة الاجتهاد ، فلا قول في ذلك هو أولى بالصواب ما قلنا . والله تعالى أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا } .
يعني تعالى ذكره بذلك : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإسْمَاعِيلُ } يقولان : { رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا } وذكر أن ذلك كذلك في قراءة ابن مسعود ، وهو قول جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : يبنيان وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى بها إبراهيمَ ربّه ، قال : { رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا إِنّكَ أنْتَ السّميعُ العَلِيمُ ، رَبّنا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمِينَ لَكَ وَمِنْ ذُرّيّتِنَا أُمّةً مُسْلِمَةً لَكَ ، رَبّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج عن ابن جريج ، قال : أخبرني ابن كثير ، قال : حدثنا سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وإسْمَاعِيلُ } قال : هما يرفعان القواعد من البيت ، ويقولان : { رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا إِنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِيمُ } قال : وإسماعيل يحمل الحجارة على رقبته والشيخ يبني .
فتأويل الآية على هذا القول : { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل } قائلَيْنِ : ربنا تقبل منا .
وقال آخرون : بل قائل ذلك كان إسماعيل .
فتأويل الآية على هذا القول : { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت } ، وإذ يقول إسماعيل : ربنا تقبل منا . فيصير حيئنذٍ إسماعيل مرفوعا بالجملة التي بعده ، و«يقول » حينئذٍ خبر له دون إبراهيم .
ثم اختلف أهل التأويل في الذي رفع القواعد بعد إجماعهم على أن إبراهيم كان ممن رفعها ، فقال بعضهم : رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَعَهِدْنَا إلى إبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ أنْ طَهّرَا بَيْتِيَ للطّائِفِينَ } قال : فانطلق إبراهيم حتى أتى مكة ، فقام هو وإسماعيل وأخذا المعاول لا يدريان أين البيت ، فبعث الله ريحا يقال لها ريح الخَجُوج ، لها جناحان ورأس في صورة حية . فكنست لهما ما حول الكعبة ، وعن أساس البيت الأول ، واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس فذلك حين يقول : { وَإِذْ بَوّأنا لإبراهيم مَكانَ البَيْتِ } . فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن قال إبراهيم لإسماعيل : يا بني اطلب لي حجرا حسنا أضعه ههنا قال : يا أبت إني كسلان تعب قال : عليّ بذلك فانطلق فطلب له حجرا فجاءه بحجر ، فلم يرضه ، فقال : ائتني بحجر أحسن من هذا فانطلق يطلب له حجرا وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند ، وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل الثّغامة ، وكان آدم هبط به من الجنة فاسودّ من خطايا الناس ، فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن ، فقال : يا أبت من جاء بهذا ؟ فقال : من هو أنشط منك . فبنياه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عمرو بن عبد الله بن عتبة ، عن عبيد بن عمير الليثي ، قال : بلغني أن إبراهيم وإسماعيل هما رفعا قواعد البيت .
وقال آخرون : بل رفع قواعد البيت إبراهيم ، وكان إسماعيل يناوله الحجارة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن ثابت الرازي ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة ، يزيد أحدهما على الاَخر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : جاء إبراهيم وإسماعيل يبري نَبْلاً قريبا من زمزم . فلما رآه قام إليه ، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد ، والولد بالوالد ، ثم قال : يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر ، قال : فاصنع ما أمرك ربك قال : وتعينني ؟ قال : وأعينك . قال : فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا وأشار إلى الكعبة ، والكعبة مرتفعة على ما حولها . قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت . قال : فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة ، وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له ، فقام عليه وهو يبني ، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان : رَبّنا تَقَبلْ مِنّا إِنّكَ أنْتَ السمِيعُ العَلِيمُ حتى دَوّرَ حول البيت .
حدثنا ابن بشار القزاز ، قال : حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد أبو عليّ الحنفي ، قال : حدثنا إبراهيم بن نافع قال : سمعت كثير بن كثير يحدّث عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : جاء يعني إبراهيم فوجد إسماعيل يصلح نَبْلاً من وراء زمزم ، قال إبراهيم : يا إسماعيل إن الله ربك قد أمرني أن أبني له بيتا فقال له إسماعيل : فأطِعْ ربك فيما أمرك فقال له إبراهيم : قد أمرك أن تعينني عليه . قال : إذا أفعل . قال : فقام معه ، فجعل إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجارة ، ويقولان : { رَبنا تَقَبّلْ مِنا إنكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِيمُ } ، فلما ارتفع البنيان وضعف الشيخ عن رفع الحجارة ، قام على حجر فهو مقام إبراهيم فجعل يناوله ويقولان : { رَبنا تَقَبلْ مِنّا إنكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِيمُ } .
وقال آخرون : بل الذي رفع قواعد البيت إبراهيم وحده وإسماعيل يومئذ طفل صغير . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مصرف ، عن عليّ ، قال : لما أمر إبراهيم ببناء البيت ، خرج معه إسماعيل وهاجر . قال : فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة فيه مثل الرأس ، فكلّمه فقال : يا إبراهيم ابْنِ على ظلي أو على قَدْري ولا تزد ولا تنقص فلما بنى ( خرج ) وخلف إسماعيل وهاجر ، فقالت هاجر : يا إبراهيم إلى من تَكِلُنا ؟ قال : إلى الله . قالت : انطلق فإنه لا يضيعنا . قال : فعطش إسماعيل عطشا شديدا . قال : فصعدت هاجر الصفا فنظرت فلم تر شيئا ، ثم أتت المروة فنظرت فلم تر شيئا ، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئا ، حتى فعلت ذلك سبع مرّات فقالت : يا إسماعيل مُتْ حيث لا أراك فأتته وهو يَفْحَص برجله من العطش . فناداها جبريل ، فقال لها : من أنت ؟ فقالت : أنا هاجر أمّ ولد إبراهيم . قال : إلى من وكلكما ؟ قالت : وكلنا إلى الله . قال : وكلكما إلى كافٍ . قال : ففَحَص الأرض بأصبعه فنبعت زمزم ، فجعلت تحبس الماء . فقال : دَعِيهِ فإنها رَوَاءٌ .
حدثنا عباد ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن خالد بن عرعرة أن رجلاً قام إلى عليّ فقال : ألا تخبرني عن البيت ؟ أهو أول بيت وضع في الأرض ؟ فقال : لا ، ولكن هو أول بيت وضع في البركة مقامُ إبراهيم ، ومن دخله كان آمنا ، وإن شئت أنبأتك كيف بني إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابْنِ لي بيتا في الأرض ، قال : فضاق إبراهيم بذلك ذرعا ، فأرسل الله السكينة وهي ريح خَجُوجٌ ، ولها رأَسان ، فأتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إلى مكة ، فتطوّتْ على موضع البيت كتَطَوّي الحَجَفَة ، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقرّ السكينة . فبنى إبراهيم وبقي حجر ، فذهب الغلام يبغي شيئا ، فقال إبراهيم : لا ، ابغي حجرا كما آمرك قال : فانطلق الغلام يلتمس له حجرا ، فأتاه فوجده قد ركّب الحجر الأسود في مكانه فقال : يا أبت من أتاك بهذا الحجر ؟ قال : أتاني به من لم يتّكل على بنائك جاء به جبريل من السماء . فأتماه .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا سعيد ، عن سماك ، سمعت خالد بن عرعرة يحدّث عن عليّ بنحوه .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة وحماد بن سلمة وأبو الأحوص كلهم عن سماك ، عن خالد بن عرعرة ، عن عليّ بنحوه .
فمن قال : رفع القواعد إبراهيم وإسماعيل ، أو قال رفعها إبراهيم وكان إسماعيل يناوله الحجارة . فالصواب في قوله أن يكون المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل ، ويكون الكلام حينئذٍ : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإسْمَاعِيلُ } يقولان : رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا .
وقد كان يحتمل على هذا التأويل أن يكون المضمر من القول لإسماعيل خاصة دون إبراهيم ، ولإبراهيم خاصة دون إسماعيل لولا ما عليه عامة أهل التأويل من أن المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل جميعا .
وأما على التأويل الذي روي عن عليّ أن إبراهيم هو الذي رفع القواعد دون إسماعيل ، فلا يجوز أن يكون المضمر من القول عند ذلك إلا لإسماعيل خاصة .
والصواب من القول عندنا في ذلك أن المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل ، وأن قواعد البيت رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا وذلك أن إبراهيم وإسماعيل إن كانا هما بنياهما ورفعاها فهو ما قلنا ، وإن كان إبراهيم تفرّد ببنائها ، وكان إسماعيل يناوله ، فهما أيضا رفعاها لأن رفعها كان بهما من أحدهما البناء ومن الاَخر نَقْلُ الحجارة إليها ومعونة وضع الأحجار مواضعها . ولا تمتنع العرب من نسبة البناء إلى من كان بسببه البناء ومعونته . وإنما قلنا ما قلنا من ذلك لإجماع جميع أهل التأويل على أن إسماعيل معنيّ بالخبر الذي أخبر الله عنه وعن أبيه أنهما كانا يقولانه ، وذلك قولهما : { رَبّنَا تَقَبّلْ مِنّا إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ العَلِيمُ } فمعلوم أن إسماعيل لم يكن ليقول ذلك إلا وهو إما رجل كامل ، وإما غلام قد فهم مواضع الضرّ من النفع ، ولزمته فرائض الله وأحكامه . وإذا كان في حال بناء أبيه ، ما أمره الله ببنائه ورفعه قواعد بيت الله كذلك ، فمعلوم أنه لم يكن تاركا معونة أبيه ، إما على البناء ، وإما على نقل الحجارة . وأيّ ذلك كان منه فقد دخل في معنى من رفع قواعد البيت ، وثبت أن القول المضمر خبر عنه وعن والده إبراهيم عليهما السلام .
فتأويل الكلام : { وَإِذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } يقولان : ربنا تقبل منا عملنا وطاعتنا إياك وعبادتنا لك في انتهائنا إلى أمرك الذي أمرتنا به في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه إنك أنت السميع العليم . وفي إخبار الله تعالى ذكره أنهما رفعا القواعد من البيت وهما يقولان : رَبّنا تَقَبّلْ مِنّا إِنّكَ أَنْتَ السّمِيعُ العَلِيمُ دليل واضح على أن بناءهما ذلك لم يكن مسكنا يسكنانه ولا منزلاً ينزلانه ، بل هو دليل على أنهما بنياه ورفعا قواعده لكل من أراد أن يعبد الله تقرّبا منهما إلى الله بذلك ولذلك قالا : { رَبّنا تَقَبّلْ منّا } . ولو كانا بنياه مسكنا لأنفسهما لم يكن لقولهما : تقبل منا وجه مفهوم ، لأنه كانا يكونان لو كان الأمر كذلك سائلين أن يتقبل منهما ما لا قربة فيه إليه ، وليس موضعهما مسألة الله قبول ، ما لا قربة إليه فيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { إنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِيمُ } .
وتأويل قوله : إِنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِيمُ إنك أنت السميع دعاءنا ومسألتنا إياك قبول ما سألناك قبوله منا من طاعتك في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه ، العليم بما في ضمائر نفوسنا من الإذعان لك في الطاعة والمصير إلى ما فيه لك الرضا والمحبة ، وما نُبدي ونُخفي من أعمالنا . كما :
حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني أبو كثير ، قال : حدثنا سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { تَقَبّلْ مِنّا إنّكَ أنْتَ السّمِيعُ العَلِيمُ } يقول : تقبل منا إنك سميع الدعاء .
{ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت } حكاية حال ماضية ، و{ القواعد } جمع قاعدة وهي الأساس صفة غالبة من القعود ، بمعنى الثبات ، ولعله مجاز من المقابل للقيام ، ومنه قعدك الله ، ورفعها البناء عليها فإنه ينقلها عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع ، ويحتمل أن يراد بها سافات البناء فإن كل ساف قاعدة ما يوضع فوقه ويرفعها بناؤها . وقيل المراد رفع مكانته وإظهار شرفه بتعظيمه ، ودعاء الناس إلى حجه ، وفي إبهام القواعد وتبيينها تفخيم لشأنها . { وإسماعيل } كان يتناوله الحجارة ، ولكنه لما كان له مدخل في البناء عطف عليه . وقيل : كانا يبنيان في طرفين ، أو على التناوب . { ربنا تقبل منا } أي يقولان ربنا تقبل منا ، وقد قرئ به والجملة حال منهما . { إنك أنت السميع } لدعائنا { العليم } بنياتنا .
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }( 127 )
المعنى واذكر إذ ، و { القواعد } جمع قاعدة وهي الأساس ، وقال الفراء : «هي الجدر » .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا تجوز( {[1255]} ) ، والقواعد من النساء جمع قاعد وهي التي قعدت عن الولد وحذفت تاء التأنيث لأنه لا دخول للمذكر فيه ، هذا قول بعض النحاة ، وقد شذ حذفها مع اشتراك المذكر بقولهم ناقة ضامر( {[1256]} ) ، ومذهب الخليل أنه متى حذفت تاء التأنيث زال الجري على الفعل وكان ذلك على النسب .
و { البيت } هنا الكعبة بإجماع ، واختلف بعد( {[1257]} ) رواة القصص : فقيل إن آدم أمر ببنائه ، فبناه ، ثم دثر ودرس حتى دل عليه إبراهيم فرفع قواعده ، وقيل : إن آدم هبط به من الجنة ، وقيل : إنه لما استوحش في الأرض حين نقص طوله وفقد أصوات الملائكة أهبط إليه وهو كالدرة ، وقيل : كالياقوتة ، وقيل : إن البيت كان ربوة حمراء ، وقيل بيضاء ، ومن تحته دحيت الأرض ، وإن إبراهيم ابتدأ بناءه بأمر الله ورفع قواعده .
و الذي يصح من هذا كله أن الله أمر إبراهيم برفع قواعد البيت( {[1258]} ) ، وجائز ِقدمه وجائز أن يكون ذلك ابتداء ، ولا يرجح شيء من ذلك إلا بسند يقطع العذر ، وقال عبيد بن عمير( {[1259]} ) : رفعها إبراهيم وإسماعيل معاً ، وقال ابن عباس : رفعها إبراهيم ، وإسماعيل يناوله الحجارة ، وقال علي بن أبي طالب : رفعها إبراهيم ، وإسماعيل طفل صغير .
قال القاضي أبو محمد : ولا يصح هذا عن علي رضي الله عنه ، لأن الآية والآثار تردهُ ، { وإسماعيل } عطف على { إبراهيم } ، وقيل هو مقطوع على الابتداء وخبره فيما بعد ، قال الماوردي : { إسماعيل } أصله اسمع يا إيل .
قال القاضي أبو محمد وهذا ضعيف ، وتقدير الكلام : يقولان ربنا تقبل ، وهي في قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود كذلك بثبوت «يقولان » ، وقالت فرقة : التقدير وإسماعيل يقول ربنا ، وحذف لدلالة الظاهر عليه ، وكل هذا يدل على أن إسماعيل لم يكن طفلاً في ذلك الوقت ، وخصّا هاتين الصفتين لتناسبهما مع حالهما ، أي { السميع } لدعائنا و { العليم } بنياتنا .