ويستطرد السياق في مواجهة أهل الكتاب - واليهود منهم في هذا الموضع خاصة - وموقفهم من رسالة محمد [ ص ] وزعمهم أن الله لم يرسله ، وتفريقهم بين الرسل ، وتعنتهم وهم يطلبون أمارة على رسالته : كتابا ينزله عليهم من السماء . . فيقرر أن الوحي للرسول ليس بدعا ، وليس غريبا ، فهو سنة الله في إرسال الرسل جميعا ، من عهد نوح إلى عهد محمد . وكلهم رسل أرسلوا للتبشير والإنذار ؛ اقتضت هذا رحمة الله بعبادة ، وأخذه الحجة عليهم ، وإنذاره لهم قبل يوم الحساب . . وكلهم جاءوا بوحي واحد ، لهدف واحد ؛ فالتفرقة بينهم تعنت لا يستند إلى دليل . . وإذا أنكروا هم وتعنتوا فإن الله يشهد - وكفى به شاهدا - والملائكة يشهدون .
( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ، وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان ، وآتينا داود زبورا . ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك ، وكلم الله موسى تكليما . . رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل . وكان الله عزيزا حكيمًا ) . .
فهو إذن موكب واحد يتراءى على طريق التاريخ البشري الموصول ، ورسالة واحدة بهدى واحد للإنذار والتبشير . . موكب واحد يضم هذه الصفوة المختارة من بين البشر : نوح . وإبراهيم . وإسماعيل . وإسحاق . ويعقوب . والأسباط . وعيسى . وأيوب . ويونس . وهارون . وسليمان . وداود . وموسى . . .
{ إِنا أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىَ نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَىَ وَأَيّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : إنّا أوْحَيْنا إلَيْكَ كمَا أوْحَيْنا إلى نُوحٍ : إنا أرسلنا إليك يا محمد بالنبوّة كما أرسلنا إلى نوح وإلى سائر الأنبياء الذين سميتهم لك من بعده والذين لم أسمهم لك . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن منذر الثوريّ ، عن الربيع بن خُثَيْم في قوله : إنّا أوْحَيْنا إلَيْكَ كمَا أوْحَيْنا إلى نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِنْ بَعْدِه قال : أوحى إليك كما أوحى إلى جميع النبيين من قبله .
وذكر أن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن بعض اليهود لما فضحهم الله بالاَيات التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذلك من قوله : يَسْئَلُكَ أهْلُ الكِتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ فتلا ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء بعد موسى . فأنزل الله هذه الاَيات تكذيبا لهم ، وأخبر نبيه والمؤمنين به أنه قد أنزل عليه بعد موسى وعلى من سماهم في هذه الاَية وعلى آخرين لم يسمهم . كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، وحدثنا ابن حيمد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : ثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال سُكَيْن وعديّ بن زيد : يا محمد ما نعلم الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى ، فأنزل الله في ذلك من قولهما : إنّا أوْحَيْنا إلَيْكَ كمَا أوْحَيْنا إلى نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِنْ بَعْدِه . . . إلى آخر الاَيات .
وقال آخرون : بل قالوا : لما أنزل الله الاَيات التي قبل هذه في ذكرهم ما أنزل الله على بشر من شيء ، ولا على موسى ، ولا على عيسى ، فأنزل الله جلّ ثناؤه : وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أنْزَلَ اللّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ولا على موسى ، ولا على عيسى . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القُرَظيّ ، قال : أنزل الله : يَسْئَلُكَ أهْلُ الكِتابِ أنْ تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كِتابا مِنَ السّماءِ . . . إلى قوله : وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتانا عَظِيما ، فلما تلاها عليهم يعني على اليهود وأخبرهم بأعمالهم الخبيثة ، جحدوا كلّ ما أنزل الله ، وقالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ، ولا على موسى ، ولا على عيسى ، وما أنزل الله على نبيّ من شيء . قال : فحل حُبْوَته ، وقال : ولا على أحد فأنزل الله جلّ ثناؤه : وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إذْ قَالُوا مَا أنْزَلَ اللّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ .
وأما قوله : وآتَيْنا دَاوُدَ زَبُورا فإن القراء اختلفت في قراءته ، فقرأته عامة قرّاء أمصار الإسلام غير نفر من قرّاء الكوفة : وآتَيْنا دَاوُدَ زَبُورا بفتح الزاي على التوحيد ، بمعني : وآتينا داود الكتاب المسمى زبورا . وقرأ ذلك بعض قرّاء الكوفيين : «وآتَيْنا دَاوُدَ زُبُورا » بضمّ الزاي جمع زُبُر ، كأنهم وجهوا تأويله : وآتينا داود كتبا وصحفا مزبورة ، من قولهم : زَبَرْت الكتاب أَزْبُرُه زَبْرا ، وذَبَرْته أَذْبُرُه ذَبْرا : إذا كتبته .
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندنا ، قراءة من قرأ : وآتَيْنا دَاوُدَ زَبُورا بفتح الزاي على أنه اسم الكتاب الذي أوتيه داود ، كما سمى الكتاب الذي أوتيه موسى التوراة ، والذي أوتيه عيسى الإنجيل ، والذي أوتيه محمد الفرقان ، لأن ذلك هو الاسم المعروف به ما أوتي داود ، وإنما تقول العرب زَبور داود ، وبذلك يعرف كتابه سائر الأمم .
{ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } جواب لأهل الكتاب عن اقتراحهم أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، واحتجاج عليهم بأن أمره في الوحي كسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . { وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان } خصهم بالذكر مع اشتمال النبيين عليهم تعظيما لهم ، فإن إبراهيم أول أولي العزم منهم وعيسى آخرهم ، والباقين أشرف الأنبياء ومشاهيرهم . { وآتينا داود زبورا } وقرأ حمزة { زبورا } بالضم وهو جمع زبر . بمعنى مزبور .
روي عن عبد الله بن عباس : أن سبب هذه الآية أن ُسكيناً الحبر وعدي بن زيد قالا : يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر شيئاً بعد موسى ، ولا أوحي إليه ، فنزلت هذه الآية تكذيباً لقولهما ، وقال محمد بن كعب القرظي : لما أنزل الله { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء } [ النساء : 153 ] إلى آخر الآيات ، فتليت عليهم وسمعوا الخبر بأعمالهم الخبيثة قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ولا على موسى ولا على عيسى وجحدوا جميع ذلك فأنزل الله { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء }{[4374]} والوحي : إلقاء المعنى في خفاء ، وعرفه في الأنبياء بواسطة جبريل عليه السلام ، وذلك هو المراد بقوله { كما أوحينا } أي بملك ينزل من عند الله ، و { نوح } أول الرسل في الأرض إلى أمة كافرة ، وصرف نوح مع العجمة والتعريف لخفته ، و { إبراهيم } عليه السلام هو الخليل ، { وإسماعيل } ابنه الأكبر وهو الذبيح في قول المحققين وهو أبو العرب ، { وإسحاق } ابنه الأصغر { ويعقوب } هو ولد إسحاق هو إسرائيل ، { والأسباط } : بنو يعقوب ، يوسف وإخوته ، { وعيسى } هو المسيح ، { وأيوب } هو المبتلى الصابر ، { ويونس } هو ابن متى ، وروى ابن جماز عن نافع : يونس بكسر النون ، وقرأ ابن وثاب والنخعي - بفتحها ، وهي كلها لغات ، { وهارون } هو ابن عمران ، { وسليمان } هو النبي الملك ، و { داود } : أبوه ، وقرأ جمهور الناس «زَبوراً » بفتح الزاي ، وهو اسم كتاب داود تخصيصاً ، وكل كتاب في اللغة فهو زبور من حيث تقول زبرت الكتاب إذا كتبته ، وقرأ حمزة وحده «زُبوراً » بضم الزاي ، قال أبو علي : يحتمل أن يكون جمع زبر{[4375]} ، أوقع على المزبور اسم الزبر ، كما قالوا : ضرب الأمير ، ونسج اليمن ، وكما سمي المكتوب كتاباً ، ويحتمل أن يكون جمع زبور على حذف الزيادة ، كما قالوا : ظريف وظروف{[4376]} وكروان وكروان وورشان وورشان{[4377]} ، ونحو ذلك مما جمع بحذف الزيادة ، ويقوي هذا الوجه أن التكسير مثل التصغير ، وقد اطرد هذا المعنى في تصغير الترخيم نحو أزهر وزهير ، وحارث وحريث ، وثابت وثبيت ، فالجمع مثله في القياس إن كان أقل منه في الاستعمال .