{ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا * رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا }
يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله من الشرع العظيم والأخبار الصادقة ما أوحى إلى هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفي هذا عدة فوائد :
منها : أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل ، بل أرسل الله قبله من المرسلين العدد الكثير والجم الغفير فاستغراب رسالته لا وجه له إلا الجهل والعناد .
ومنها : أنه أوحى إليه كما أوحى إليهم من الأصول والعدل الذي اتفقوا عليه ، وأن بعضهم يصدق بعضا ويوافق بعضهم بعضا .
ومنها : أنه من جنس هؤلاء الرسل ، فليعتبره المعتبر بإخوانه المرسلين ، فدعوته دعوتهم ؛ وأخلاقهم متفقة ؛ ومصدرهم واحد ؛ وغايتهم واحدة ، فلم يقرنه بالمجهولين ؛ ولا بالكذابين ولا بالملوك الظالمين .
ومنها : أن في ذكر هؤلاء الرسل وتعدادهم من التنويه بهم ، والثناء الصادق عليهم ، وشرح أحوالهم مما يزداد به المؤمن إيمانا بهم ومحبة لهم ، واقتداء بهديهم ، واستنانا بسنتهم ومعرفة بحقوقهم ، ويكون ذلك مصداقا لقوله : { سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } { سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ } { سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ } { سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ }
فكل محسن له من الثناء الحسن بين الأنام بحسب إحسانه . والرسل -خصوصا هؤلاء المسمون- في المرتبة العليا من الإحسان .
ولما ذكر اشتراكهم بوحيه ذكر تخصيص بعضهم ، فذكر أنه آتى داود الزبور ، وهو الكتاب المعروف المزبور الذي خص الله به داود عليه السلام لفضله وشرفه ، وأنه كلم موسى تكليما ، أي : مشافهة منه إليه لا بواسطة حتى اشتهر بهذا عند العالمين فيقال : " موسى كليم الرحمن " .
روي عن عبد الله بن عباس : أن سبب هذه الآية أن ُسكيناً الحبر وعدي بن زيد قالا : يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر شيئاً بعد موسى ، ولا أوحي إليه ، فنزلت هذه الآية تكذيباً لقولهما ، وقال محمد بن كعب القرظي : لما أنزل الله { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء } [ النساء : 153 ] إلى آخر الآيات ، فتليت عليهم وسمعوا الخبر بأعمالهم الخبيثة قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ولا على موسى ولا على عيسى وجحدوا جميع ذلك فأنزل الله { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء }{[4374]} والوحي : إلقاء المعنى في خفاء ، وعرفه في الأنبياء بواسطة جبريل عليه السلام ، وذلك هو المراد بقوله { كما أوحينا } أي بملك ينزل من عند الله ، و { نوح } أول الرسل في الأرض إلى أمة كافرة ، وصرف نوح مع العجمة والتعريف لخفته ، و { إبراهيم } عليه السلام هو الخليل ، { وإسماعيل } ابنه الأكبر وهو الذبيح في قول المحققين وهو أبو العرب ، { وإسحاق } ابنه الأصغر { ويعقوب } هو ولد إسحاق هو إسرائيل ، { والأسباط } : بنو يعقوب ، يوسف وإخوته ، { وعيسى } هو المسيح ، { وأيوب } هو المبتلى الصابر ، { ويونس } هو ابن متى ، وروى ابن جماز عن نافع : يونس بكسر النون ، وقرأ ابن وثاب والنخعي - بفتحها ، وهي كلها لغات ، { وهارون } هو ابن عمران ، { وسليمان } هو النبي الملك ، و { داود } : أبوه ، وقرأ جمهور الناس «زَبوراً » بفتح الزاي ، وهو اسم كتاب داود تخصيصاً ، وكل كتاب في اللغة فهو زبور من حيث تقول زبرت الكتاب إذا كتبته ، وقرأ حمزة وحده «زُبوراً » بضم الزاي ، قال أبو علي : يحتمل أن يكون جمع زبر{[4375]} ، أوقع على المزبور اسم الزبر ، كما قالوا : ضرب الأمير ، ونسج اليمن ، وكما سمي المكتوب كتاباً ، ويحتمل أن يكون جمع زبور على حذف الزيادة ، كما قالوا : ظريف وظروف{[4376]} وكروان وكروان وورشان وورشان{[4377]} ، ونحو ذلك مما جمع بحذف الزيادة ، ويقوي هذا الوجه أن التكسير مثل التصغير ، وقد اطرد هذا المعنى في تصغير الترخيم نحو أزهر وزهير ، وحارث وحريث ، وثابت وثبيت ، فالجمع مثله في القياس إن كان أقل منه في الاستعمال .
استأنفتْ هذه الآياتُ الردّ على سؤال اليهود أن يُنَزّل عليهم كتاباً من السماء ، بعد أن حُمقوا في ذلك بتحميق أسلافهم : بقوله : { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } [ النساء : 153 ] ، واستُطردت بينهما جمل من مخالفة أسلافهم ، وما نالهم من جرّاء ذلك ، فأقبل الآن على بيان أنّ إنزال القرآن على محمّد صلى الله عليه وسلم لم يكن بِدْعاً ، فإنّه شأن الوحي للرسل ، فلم يقدح في رسالتهم أنَّهم لم ينزّل عليهم كتاب من السماء .
والتأكيد ( بإنّ ) للاهتمام بهذا الخبر أو لتنزيل المردود عليهم منزلة من ينكر كيفيّة الوحي للرسل غير موسى ، إذ لم يَجْروا على موجب علمهم حتّى أنكروا رسالة رسول لم يُنْزل إليه كتاب من السماء .
والوحي إفادة المقصود بطريق غير الكلام ، مثل الإشارة قال تعالى : { فخرج على قومه من المحراب فأوحَى إليهم أن سبّحوا بكرة وَعَشِيّاً } [ مريم : 11 ] . وقال داوود بن جرير :
يَرْمُون بالخُطب الطِوالِ وتارةً *** وَحْيُ اللواحِظِ خيفَةَ الرقباء
والتشبيه في قوله : { كما أوحينا إلى نوح } تشبيه بجنس الوحي وإن اختلفت أنواعه ، فإنّ الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان بأنواع من الوحي ورد بيانها في حديث عائشة في الصحيح عن سؤال الحارث بن هشام النّبيء صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي بخلاف الوحي إلى غيره ممّن سمّاهم الله تعالى فإنّه يحتمل بعض من الأنواع ، على أنّ الوحي للنبيء صلى الله عليه وسلم كان منه الكتاب القرآن ولم يكن لبعض من ذكر معه كتاب . وعدّ الله هنا جمعاً من النبيئين والمرسلين وذكر أنّه أوحي إليهم ولم يختلف العلماء في أنّ الرسل والأنبياء يُوحى إليهم .
وإنَّما اختلفت عباراتهم في معنى الرسول والنبي . ففي كلام جماعة من علمائنا لا نجد تفرقة ، وأنّ كلّ نبيء فهو رسول لأنَّه يوحى إليه بما لا يخلو من تبليغه ولو إلى أهل بيته . وقد يكون حال الرسول مبتدأ بنبؤة ثمّ يعقبها إرساله ، فتلك النبوة تمهيد الرسالة كما كان أمر مبدإ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنَّه أخبر خديجة ، ونزل عليه : { وأنذر عشيريتك الأقربين } [ الشعراء : 214 ] . والقول الصحيح أنّ الرسول أخصّ ، وهو من أوحي إليه مع الأمر بالتبليغ ، والنبي لا يؤمر بالتبليغ وإن كان قد يبلّغ على وجه الأمر بالمعروف والدعاء للخير ، يعني بدون إنذار وتبشير . وورد في بعض الأحاديث : الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، وعدّ الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً . وقد ورد في حديث الشفاعة ، في الصحيح : أنّ نوحاً عليه السلام أوّل الرسل . وقد دَلَّت آيات القرآن على أنّ الدّين كان معروفاً في زمن آدم وأنّ الجزاء كان معلوماً لهم ، فقد قَرّب ابنَا آدَمَ قرباناً ، وقال أحدهما للآخر{ إنَّما يتقبّل الله من المتّقين } [ المائدة : 27 ] ، وقال له : { إني أخاف الله ربّ العالمين إني أريد أن تَبوء بإثمي وإثمك فتكونَ من أصحاب النّار وذلك جزاءُ الظّالمين } [ المائدة : 28 ، 29 ] . ودلّ على أنَّه لم يكن يومئذٍ بينهم من يأخذ على يد المعتدي وينتصف للضعيف من القويّ ، فإنَّما كان ما تعلّموه من طريقة الوعظ والتعليم وكانت رسالة عائليَة .
ونوح هو أوّل الرسل ، وهو نوح بن لامَك ، والعرب تقول : لَمَك بن متوشالح بن أخنوخ . ويسمّيه المصريون هُرمس ، ويسمّيه العرب إدريس بن يارد بن مَهْلَلْئِيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم ، حسب قول التَّوْراة . وفي زمنه وقع الطّوفان العظيم . وعاش تسعمائة وخمسين سنة ، وقيل تسعمائة وتسعين سنة ، والقرآن أثبت ذلك . وقد مات نوح قبل الهجرة بثلاثة آلاف سنة وتسعمائة سنة وأربع وسبعين سنة على حسب حساب اليهود المستمَدّ مِن كتابهم .
وإبراهيم هو الخليل ، إبراهيم بن تارح والعرب تسمّيه آزر بن ناحور بن ساروغ بن أرعو بن فالغ بن عابر بن شالح بن قينان بن أرفخشد بن سام بن نوح . ولد سنة2893 قبل الهجرة ، في بلد أوُر الكلدانيين ، ومات في بلاد الكنعانيين ، وهي سوريا ، في حبرون حيث مدفنه الآن المعروف ببلد الخليل سنة2718 قبل الهجرة .
وإسماعيل هو ابن إبراهيم مِن الجارية المصرية هَاجَر . توفِّي بمكة سنة2686 قبل الهجرة تقريباً . وكان إسماعيل رسولاً إلى قومه الذين حلّ بينهم من جُرهم وغيرهم ، وإلى أبنائه وأهله ، قال تعالى : { واذكر في الكتاب إسماعيل إنّه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيّا } [ مريم : 54 ] .
وإسحاق هو ابن إبراهيم مِن سارة ابنة عمّه ، توفّي قبل الهجرة سنة2613 ، وكان إسحاق نبيّاً مؤيّداً لشرع أبيه إبراهيم ولم يجىء بشرع .
ويعقوب هو ابن إسحاق ، الملقّبُ بإسرائيل . توفّي سنة2586 قبل الهجرة . وكان يعقوب نبيّاً مؤيّداً لِشرع إبراهيم ، قال تعالى : { ووصى بها إبراهيم بَنيه ويعقوب } [ البقرة : 132 ] ولم يجىء بشرع جديد .
والأسباط هم أسباط إسحاق ، أي أحفاده ، وهم أبناء يعقوب اثنا عشر ابناً : روبين ، وشمعون ، وجاد ، ويهوذا ، ويساكر ، وزَبُولُون ، ويوسف ، وبنيامين ، ومنسَّى ، ودَان ، وأَشير ، وثَفتالي . فأمّا يوسف فكان رسولاً لقومه بمصر . قال تعالى خطاباً لبني إسرائيل على لسان مؤمن بني إسرائيل ، أو خطاباً من الله { ولقد جاءكم يوسفُ من قبلُ بالبيِّنات فما زِلْتُمْ في شكّ ممّا جاءكم به حتّى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً } [ غافر : 34 ] . وأمّا بقية الأسباط فكان كلّ منهم قائماً بدعوة شريعة إبراهيم في بنِيه وقومه . والوحي إلى هؤلاء متفاوت .
وعيسى هو عيسى ابن مريم ، وُلد من غير أب قبل الهجرة سنة622 . ورفع إلى السماء قبلها سنة589 . وهو رسول بشرع ناسخ لبعض أحكام التّوراة . ودامت دعوته إلى الله ثلاث سنين .
وأيوب هو نبيء . قيل : إنّه عربي الأصل من أرض عُوص ، في بلاد أَدوم ، وهي من بلاد حَوران ، وقيل ، هو أيوب بن ناحور أخي إبراهيم ، وقيل : اسمه عوض ، وقيل : هو يوباب ابن حفيد عيسو .
وقيل : كان قبل إبراهيم بمائة سنة . والصحيح أنَّه كان بعد إبراهيم وقبل موسى في القرن الخامس عشر قبل المسيح ، أي في القرن الحادي والعشرين قبل الهجرة . ويقال : إنّ الكتاب المنسوب إليه في كتب اليَهود أصله مؤلف باللغة العربيّة وأنّ موسى عليه السّلام نقله إلى العبرانيّة على سبيل الموعظة ، فظنّ كثير من الباحثين في التّاريخ أنّ أيوب من قبيلة عربيّة . وليس ذلك ببعيد . وكان أيوب رسولاً نبيّا . وكان له صاحب اسمه اليفاز اليماني هو الّذي شدّ أزره في الصبر ، كما سنذكره في موضعه . وإنّما منع اسمه من الصرف إذ لم يكن من عرب الحجاز ونجد ؛ لأنّ العرب اعتبرت القبائل البعيدة عنها عجماً ، وإن كان أصلهم عربياً ، ولذلك منعوا ثمودَ من الصرف إذ سكنوا الحِجر .
ويونس هو ابن متَّى من سبط زبولون من بني إسرائيل ، بعثه الله إلى أهل نَيْنوَى عاصمة الأشوريين ، بعد خراب بيت المقدس ، وذلك في حدود القرن الحادي عشر قبل الهجرة .
وهارون أخو موسى بن عمران توفّي سنة 1972 قبل الهجرة وهو رسول مع موسى إلى بني إسرائيل .
وسليمانُ هو ابن داود . كان نبيّاً حاكماً بالتّوراة وَمَلِكاً عظيماً . توفّي سنة1597 قبل الهجرة . وممّا أوحى الله به إليه ما تضمّنه كتاب « الجامعة » وكتاب « الأمثال من الحكمة والمواعظ » ، وهي منسوبة إلى سليمان ولم يقل فيها إنّ الله أوحاها إليه ؛ فعلمنا أنّها كانت موحى بمعانيها دون لفظها .
وداود أبُو سليمان هو داود بن يسي ، توفّي سنة1626 قبل الهجرة ، بعثه الله لنصر بني إسرائيل . وأنزل عليه كتاباً فيه مواعظ وأمثال ، كان بنو إسرائيل يترنّمون بفصوله ، وهو المسمّى بالزبور . وهو مصدر على وزن فَعول مثل قَبول . ويقال فيه : زبُور بضم الزاي أي مصدراً مثل الشُّكور ، ومعناه الكتابة ويسمّى المكتوب زَبوراً فيجمع على الزّبر ، قال تعالى : { بالبيّنات والزبر } [ آل عمران : 184 ] . وقد صار علماً بالغلبة في لغة العرب على كتاب داود النبي ، وهو أحد أسفار الكتاب المقدّس عند اليهود .
وعُطفت جملة { وآتينا داوود زبورا } على { أوحينا إليك } . ولم يعطف اسم داود على بقيّة الأسماء المذكورة قبله للإيماء إلى أنّ الزبور موحى بأن يكون كتاباً .
وقرأ الجمهور { زَبورا } بفتح الزاي ، وقرأه حمزة وخلف بضمّ الزاي .