تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلٗا صَٰلِحٗا فَأُوْلَـٰٓئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمۡ حَسَنَٰتٖۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (70)

{ إِلَّا مَنْ تَابَ } عن هذه المعاصي وغيرها بأن أقلع عنها في الحال وندم على ما مضى له من فعلها وعزم عزما جازما أن لا يعود ، { وَآمَنَ } بالله إيمانا صحيحا يقتضي ترك المعاصي وفعل الطاعات { وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا } مما أمر به الشارع إذا قصد به وجه الله .

{ فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } أي : تتبدل أفعالهم وأقوالهم التي كانت مستعدة لعمل السيئات تتبدل حسنات ، فيتبدل شركهم إيمانا ومعصيتهم طاعة وتتبدل نفس السيئات التي عملوها ثم أحدثوا عن كل ذنب منها توبة وإنابة وطاعة تبدل حسنات كما هو ظاهر الآية .

وورد في ذلك حديث الرجل الذي حاسبه الله ببعض ذنوبه فعددها عليه ثم أبدل مكان كل سيئة حسنة فقال : : يا رب إن لي سيئات لا أراها هاهنا " والله أعلم .

{ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا } لمن تاب يغفر الذنوب العظيمة { رَحِيمًا } بعباده حيث دعاهم إلى التوبة بعد مبارزته بالعظائم ثم وفقهم لها ثم قبلها منهم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلٗا صَٰلِحٗا فَأُوْلَـٰٓئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمۡ حَسَنَٰتٖۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (70)

{ إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } بأن يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة ويثبت مكانها لواحق طاعتهم ، أو يبدل ملكة المعصية في النفس بملكة الطاعة . وقيل بأن يوفقه لأضداد ما سلف منه ، أو بأن يثبت له بدل كل عقاب ثوابا . { وكان الله غفورا رحيما } فلذلك يعفو عن السيئات ويثبت على الحسنات .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلٗا صَٰلِحٗا فَأُوْلَـٰٓئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمۡ حَسَنَٰتٖۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (70)

وقوله { إلا من تاب } الآية لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عامل في الكافر والزاني واختلفوا في القاتل من المسلمين ، فقال جمهور العلماء له التوبة وجعلت هذه الفرقة قاعدتها قوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }{[8884]} [ النساء : 48 ] فجعل القاتل في المشيئة كسائر التائبين من الذنوب ، ويتأولون الخلود الذي في آية القتل في سورة النساء{[8885]} بمعنى الدوام إلى مدة كخلد الدول ونحوه ، وروى أبو هريرة في أن التوبة لمن قتل حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم{[8886]} ، وقيل إن هذه الآية نزلت في وحشي قاتل حمزة ، وقاله سعيد بن جبير ، وقال ابن عباس وغيره لا توبة للقاتل ، قال ابن عباس وهذه الآية إنما أريد بالتوبة فيها المشركون وذلك أنها لما نزلت { إلا من تاب } الآية ، ونزلت { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله }{[8887]} [ الزمر : 53 ] ، فما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح فرحه بها وبسورة الفتح{[8888]} ، وقال غير ابن عباس ممن قال بأن لا توبة للقاتل إن هذه الآية منسوخة بآية سورة النساء قاله زيد بن ثابت ، ورواه أيضاً سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وقال أبو الجوزاء صحبت ابن عباس ثلاث عشرة سنة فما شيء من القرآن إلا سألته عنه فما سمعته يقول إن الله تعالى يقول لذنب لا أغفره وقوله تعالى : { يبدل الله سيئاتهم حسنات } .

معناه يجعل أعمالهم بدل معاصيهم الأول طاعة فيكون ذلك سبباً لرحمة الله إياهم قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن ، ورد على من قال هو في يوم القيامة ، وقد ورد حديث في كتاب مسلم من طريق أبي يقتضي أن الله تعالى يبدل يوم القيامة لمن يريد المغفرة من الموحدين بدل سيئات حسنات ، وذكره الترمذي والطبري وهذا تأويل ابن المسيب في هذه الآية .

قال القاضي أبو محمد : وهو معنى كرم العفو ، وقرأ ابن أبي عبلة «يبْدِل » بسكون الباء وتخفيف الدال .


[8884]:من الآية 48 من سورة النساء. وتكررت في الآية 116 من السورة نفسها.
[8885]:وهي قوله تعالى في الآية 93: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما}.
[8886]:الحديث الذي يشير إليه أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه بسند ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العتمة ثم انصرفت، فإذا امرأة عند بابي، فقالت: جئتك أسألك عن عمل عملته هل ترى لي منه توبة؟ قلت: وما هو.؟ قالت: زنيت وولد لي وقتلته. قلت: لا ولا كرامة، فقامت وهي تقول: واحسرتاه، أيخلق هذا الجسد للنار؟ فلما صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الصبح من تلك الليلة قصصت عليه أمر المرأة، قال: وما قلت لها؟ قلت: لا ولا كرامة، قال: بئس ما قلت، أما كنت تقرأ هذه الآية {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر...} إلى قوله: {إلا من تاب} الآية، قال أبو هريرة: فخرجت فما بقيت دار بالمدينة ولا خطة إلا وقفت عليها فقلت: إن كانت فيكم المرأة التي جاءت أبا هريرة فلتأت ولتبشر، فلما انصرفت من العشي إذا هي عند بابي، فقلت: أبشري، إني ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم ما قلت وما قلت لك فقال: بئس ما قلت، أما كنت تقرأ هذه الآية؟ وقرأتها عليها، فخرت ساجدة وقالت: أحمد الله الذي جعل لي توبة ومخرجا، أشهد أن هذه الجارية (لجارية معها وابن لها) حران لوجه الله، وإني قد تبت مما عملت.
[8887]:من الآية 53 من سورة الزمر.
[8888]:أخرجه بلفظ آخر في أوله ابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلٗا صَٰلِحٗا فَأُوْلَـٰٓئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمۡ حَسَنَٰتٖۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمٗا} (70)

الاستثناء من العموم الذي أفادته { مَن } الشرطية في قوله : { ومَن يفعل ذلك } [ الفرقان : 68 ] . والتقدير : إلاّ مَن تاب فلا يضاعف له العذاب ولا يخلد فيه ، وهذا تطمين لنفوس فريق من المؤمنين الذين قد كانوا تلبسوا بخصال أهل الشرك ثم تابوا عنها بسبب توبتهم من الشرك ، وإلا فليس في دعوتهم مع الله إلهاً آخر بعد العنوان عنهم بأنهم عباد الرحمن ثناءٌ زائد .

وفي « صحيح مسلم » : عن ابن عباس « أن ناساً من أهل الشرك قَتلوا فأكثروا وزَنَوا فأكثروا ، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لَحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارةً فنزلت : { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } [ الفرقان : 68 ] الآية ، والمعنى : أنه يعفى عنه من عذاب الذنوب التي تاب منها ، ولا يخطر بالبال أنه يعذب عذاباً غير مضاعف وغيرَ مخلَّد فيه ، لأن ذلك ليس من مجاري الاستعمال العربي بل الأصل في ارتفاع الشيء المقيَّد أن يقصد منه رفعه بأسره لا رفع قيوده ، إلاّ بقرينة .

والتوبة : الإقلاع عن الذنب ، والندمُ على ما فرط ، والعزم على أن لا يعود إلى الذنب ، وإذْ كان فيما سَبق ذكرُ الشرك فالتوبة هنا التلبس بالإيمان ، والإيمان بعد الكفر يوجب عدم المؤاخدة كما اقترفه المشرك في مدة شركه كما في الحديث " الإسلام يجُبّ ما قبله " ، ولذلك فعطف { وآمن } على { من تاب } للتنويه بالإيمان ، وليبنى عليه قوله : { وعمل عملاً صالحاً } وهو شرائع الإسلام تحريضاً على الصالحات وإيماء إلى أنها لا يعتد بها إلا مع الإيمان كما قال تعالى في سورة البلد ( 17 ) { ثم كان من الذين آمنوا } ، وقال في عكسه { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً } [ النور : 39 ] .

وقتل النفس الواقع في مدة الشرك يجبُّه إيمان القاتل لأجل مزية الإيمان ، والإسلام يجُبّ ما قبله بلا خلاف ، وإنما الخلاف الواقع بين السلف في صحة توبة القاتل إنما هو في المؤمن القاتل مؤمناً متعمداً . ولما كان مما تشمله هذه الآية لأن سياقها في الثناء على المؤمنين فقد دلت الآية على أن التوبة تمحو آثام كل ذنب من هذه الذنوب المعدودة ومنها قتل النفس بدون حقّ وهو المعروف من عمومات الكتاب والسنة . وقد تقدم ذلك مفصلاً في سورة النساء ( 93 ) عند قوله تعالى : { ومَن يقتُل مؤمناً متعمّداً } الآية .

وفُرع على الاستثناء الذين تابوا وآمنوا وعملوا عَملاً صالحاً أنهم يبدل الله سيئاتهم حسنات ، وهو كلام مسوق لبيان فضل التوبة المذكورة التي هي الإيمان بعد الشرك لأن من تاب } مستثنى مِن { مَنْ يَفْعَلْ ذلك } [ الفرقان : 68 ] فتعيّن أن السيئات المضافة إليهم هي السيئات المعروفة ، أي التي تقدم ذكرها ، الواقعةُ منهم في زمن شركهم .

والتبديل : جعل شيء بَدَلاً عن شيء آخر ، وتقدم عند قوله تعالى : { ثم بَدَّلْنا مكان السيئة الحسنة } في سورة الأعراف ( 95 ) ، أي يجعل الله لهم حسنات كثيرة عوضاً عن تلك السيئات التي اقترفوها قبل التوبة وهذا التبديل جاء مجملاً وهو تبديل يكون له أثر في الآخرة بأن يعوضهم عن جزاء السيئات ثوابَ حسنات أضدادِ تلك السيئات ، وهذا لفضل الإيمان بالنسبة للشرك ولفضل التوبة بالنسبة للآثام الصادرة من المسلمين .

وبه يظهر موقع اسم الإشارة في قوله : { فأولئك } المفيد التنبيه على أنهم أحرياء بما أخبر عنهم به بعد اسم الإشارة لأجل ما ذكر من الأوصاف قبل اسم الإشارة ، أي فأولئك التائبون المُؤمنون العاملون الصالحات في الإيمان يبدّل الله عقاب سيئاتهم التي اقترفوها من الشرك والقتل والزنا بثواب . ولم تتعرض الآية لمقدار الثواب وهو موكول إلى فضل الله ، ولذلك عُقب هذا بقوله : { وكان الله غفوراً رحيماً } المقتضي أنه عظيم المغفرة .