{ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ }
ينوه تعالى بفضيلة مريم وعلو قدرها ، وأن الملائكة خاطبتها بذلك فقالت { يا مريم إن الله اصطفاك } أي : اختارك { وطهّرك } من الآفات المنقصة { واصطفاك على نساء العالمين } الاصطفاء الأول يرجع إلى الصفات الحميدة والأفعال السديدة ، والاصطفاء الثاني يرجع إلى تفضيلها على سائر نساء العالمين ، إما على عالمي زمانها ، أو مطلقا ، وإن شاركها أفراد من النساء في ذلك كخديجة وعائشة وفاطمة ، لم يناف الاصطفاء المذكور .
{ وإذا قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين } كلموها شفاها كرامة لها ، ومن أنكر الكرامة زعم أن ذلك كانت معجزة لزكريا أو إرهاصا لنبوة عيسى عليه الصلاة والسلام ، فإن الإجماع على أنه سبحانه وتعالى لم يستنبئ امرأة لقوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا } . وقيل ألهموها ، والاصطفاء الأول تقبلها من أمها ولم يقبل قبلها أنثى وتفريغها للعبادة وإغناؤها برزق الجنة عن الكسب وتطهيرها عما يستقذر من النساء . والثاني هدايتها وإرسال الملائكة إليها ، وتخصيصها بالكرامات السنية كالوالد من غير أب وتبرئتها مما قذفتها به اليهود بإنطاق الطفل وجعلها وابنها آية للعالمين .
قال الطبري : العامل في { إذ } قوله { سميع } فهو عطف على قوله : { إذ قالت امرأة عمران } [ آل عمران : 35 ] ، وقال كثير من النحاة : العامل في { إذ } في هذه الآية فعل مضمر تقديره «واذكر » وهذا هو الراجح لأن هذه الآيات كلها إنما هي إخبارات بغيب تدل على نبوة محمد عليه السلام ، مقصد ذكرها هو الأظهر في حفظ رونق الكلام ، وقرأ عبد الله بن عمر وابن مسعود ، «وإذ قال الملائكة » ، واختلف المفسرون هل المراد هنا بالملائكة جبريل وحده أو جمع من الملائكة ؟ وقد تقدم القول على معنى مثلها في قوله تعالى : { فنادته الملائكة } [ آل عمران : 39 ] و{ اصطفاك } مأخوذ من صفا يصفو وزنه - افتعل - وبدلت التاء طاء لتناسب الصاد ، فالمعنى تخيرك لطاعته وقوله تعالى : { وطهرك } معناه من كل ما يصم النساء في خلق أو خلق أو دين قاله مجاهد وغيره ، وقال الزجّاج ، قد جاء في التفسير أن معناه طهرك من الحيض والنفاس .
قال الفقيه أبو محمد : وهذا يحتاج إلى سند قوي وما أحفظه .
وقوله تعالى : { واصطفاك على نساء العالمين } إن جعلنا { العالمين } عاماً فيمن تقدم وتأخر جعلنا الاصطفاء مخصوصاً في أمر عيسى عليه السلام وأنها اصطفيت لتلد من غير فحل ، وإن جعلنا الاصطفاء عاماً جعلنا قوله تعالى : { العالمين } مخصوصاً في عالم ذلك الزمان ، قاله ابن جريج وغيره ، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «خير نساء الجنة مريم بنت عمران ، وخير نساء الجنة ، خديجة بنت خويلد » وروي عنه أنه قال : «خير نسائها مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة بنت خويلد »{[3161]} ، فذهب الطبري وغيره إلى أن الضمير في قوله - نسائها - يراد به الجنة ، وذهب قوم إلى أنه يراد به الدنيا ، أي كل امرأة في زمانها ، وقال النبي عليه السلام ، «خير نساء ركبن الإبل ، صالح نساء قريش ، أحناه على ولد في صغره ، وأرعاه إلى زوج في ذات يده »{[3162]} ، وقال أبو هريرة راوي الحديث : ولم تركب مريم بنت عمران بعيراً قط ، وهذه الزيادة فيها غيب ، فلا يتأول أن أبا هريرة رضي الله عنه ، قالها إلا عن سماع من النبي صلى الله عليه وسلم ، وروى أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، «خير نساء العالمين أربع ، مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد »{[3163]} ، وقد أسند الطبري ، أن النبي عليه السلام ، قال لفاطمة بنته ، «أنت سيدة نساء أهل الجنة ، إلا مريم بنت عمران ، البتول »{[3164]} ، وأنه قال ، «فضلت خديجة على نساء أمتي ، كما فضلت مريم على نساء العالمين »{[3165]} .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : وإذا تأملت هذه الأحاديث وغيرها مما هو في معناها ، وجدت مريم فيها متقدمة ، فسائغ أن يتأول عموم الاصطفاء على { العالمين } عموماً أيضاً ، وقد قال بعض الناس ، إن مريم نبية{[3166]} ، قال ابن إسحاق ، كانت الملائكة تقبل على مريم فتقول ، { يا مريم إن الله اصطفاك } ، الآية ، فيسمع ذلك زكريا فيقول ، إن لمريم لشأناً ، فمن مخاطبة الملائكة لها ، جعلها هذا القائل نبية ، وجمهور الناس على أنه لم تنبأ امرأة .
عطف على جملة { إذْ قالت امرأةُ فرعون } . انتقال من ذِكر أمّ مريم إلى ذكر مريم .
ومريم عَلَم عبراني ، وهو في العبرانية بكسر الميم ، وهو اسم قديم سميت به أخت موسى عليه السلام ، وليس في كتب النصارى ذكر لاسم أبي مريم أمِّ عيسى ولا لمولدها ولكنها تبتدىء فجأة بأنّ عذراء في بلد الناصرة مخطوبة ليوسف النجار ، قد حملت من غير زوج .
والعرب يطلقون اسم مريم على المرأة المترجّلة التي تكثر مجالسة الرجال كما قال رؤبة : قلت لزِير لَمْ تصله مريمهْ .
( والزير بكسر الزاي الذي يكثر زيارة النساء ) وقال في « الكشاف » : مريم في لغتهم أي لغة العبرانيين بمعنى العابدة .
وتكرّر فعل { اصطفاك } لأنّ الاصطفاء الأول اصطفاء ذاتي ، وهو جعلها منزّهة زكية ، والثاني بمعنى التفضيل على الغير . فلذلك لم يُعَدّ الأول إلى متعلّق . وعدُيّ الثاني . ونساء العالمين نساء زمانها ، أو نساء سائر الأزمنة . وتكليم الملائكة والاصطفاء يدلان على نبوءتها والنبوءة تكون للنساء دون الرسالة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.