تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لِيُنفِقۡ ذُو سَعَةٖ مِّن سَعَتِهِۦۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡيُنفِقۡ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُۚ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَاۚ سَيَجۡعَلُ ٱللَّهُ بَعۡدَ عُسۡرٖ يُسۡرٗا} (7)

{ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } أي : لينفق الغني من غناه ، فلا ينفق نفقة الفقراء .

{ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } أي : ضيق عليه { فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } من الرزق .

{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا } وهذا مناسب للحكمة والرحمة الإلهية حيث جعل كلا بحسبه ، وخفف عن المعسر ، وأنه لا يكلفه إلا ما آتاه ، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ، في باب النفقة وغيرها . { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } وهذه بشارة للمعسرين ، أن الله تعالى سيزيل عنهم الشدة ، ويرفع عنهم المشقة ، { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لِيُنفِقۡ ذُو سَعَةٖ مِّن سَعَتِهِۦۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡيُنفِقۡ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُۚ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَاۚ سَيَجۡعَلُ ٱللَّهُ بَعۡدَ عُسۡرٖ يُسۡرٗا} (7)

وقوله : { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } أي : لينفق على المولود والده ، أو وليه ، بحسب قدرته ، { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا } كقوله : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] .

روى ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا حَكَّام ، عن أبي سنان قال : سأل عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة ، فقيل : إنه يلبس الغليظ من الثياب ، ويأكل أخشن الطعام ، فبعث إليه بألف دينار ، وقال للرسول : انظر ما يصنع بها إذا هو أخذها : فما لبث أن لبس اللين من الثياب ، وأكل أطيب الطعام ، فجاءه الرسول فأخبره ، فقال : رحمه الله ، تأول هذه الآية : { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ }{[29001]}

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا هاشم بن مرثد الطبراني ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش ، أخبرني أبي ، أخبرني ضَمْضَم بن زُرْعَة ، عن شُرَيح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري - واسمه الحارث - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة نفر ، كان لأحدهم عشرة دنانير ، فتصدق منها بدينار . وكان لآخر عشر أواق ، فتصدق منها بأوقية . وكان لآخر مائة أوقية ، فتصدق منها بعشر أواق " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هم في الأجر سواء ، كل قد تصدق بعشر ماله ، قال الله تعالى : { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } {[29002]}

هذا حديث غريب من هذا الوجه .

وقوله : { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } وعد منه تعالى ، ووعده حق ، لا يخلفه ، وهذه كقوله تعالى : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [ الشرح : 5 ، 6 ]

وقد روى الإمام أحمد حديثا يحسن أن نذكره ها هنا ، فقال : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا عبد الحميد بن بَهْرَام ، حدثنا شَهْر بن حَوْشَب قال : قال أبو هريرة : بينما رجل وامرأة له في السلف الخالي لا يقدران على شيء ، فجاء الرجل من سفره ، فدخل على امرأته جائعا قد أصاب{[29003]} مَسْغَبَةً شديدة ، فقال لامرأته : عندك شيء ؟ قالت : نعم ، أبشر ، أتاك رزق الله ، فاستحثها ، فقال : ويحك ! ابتغي إن كان عندك شيء . قالت نعم ، هُنَيهة - ترجو رحمة الله - حتى إذا طال عليه الطوى{[29004]} قال : ويحك ! قومي فابتغي إن كان عندك شيء فائتيني به ، فإني قد بُلغتُ وجَهِدتُ . فقال : نعم ، الآن يُنضح التنور فلا تعجل . فلما أن سكت عنها ساعة وتحيّنت أن يقول لها ، قالت من عند نفسها : لو قمتُ فنظرتُ إلى تنوري ؟ فقامَتْ فنظرَت إلى تَنورها ملآن من جنُوبَ الغنم ، ورَحييها تطحنَان . فقامت إلى الرحى فنَفضتها ، واستخرجت ما في تنورها من جنوب الغنم .

قال أبو هريرة : فوالذي نفس أبي القاسم بيده ، هو{[29005]} قول محمد صلى الله عليه وسلم : " لو أخذت ما في رَحييها ولم تنفضها لطحنتا إلى يوم القيامة " {[29006]}

وقال في موضع آخر : حدثنا أبو عامر ، حدثنا أبو بكر ، عن هشام ، عن محمد - وهو ابن سيرين - عن أبي هريرة قال : دخل رجل على أهله ، فلما رأى ما بهم من الحاجة خرج إلى البَرِيَّة ، فلما رأت امرأته قامت إلى الرحى فوضعتها ، وإلى التنور فسَجَرته ، ثم قالت : اللهم ارزقنا . فنظرت ، فإذا الجفنة قد امتلأت ، قال : وذهبت إلى التنور فوجدته ممتلئًا ، قال : فرجع الزوج قال : أصبتم بعدي شيئا ؟ قالت امرأته : نعم ، من ربنا . قام إلى الرحى ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أما إنه لو لم ترفعها ، لم تزل تدور إلى يوم القيامة " {[29007]}


[29001]:- (1) تفسير الطبري (28/96).
[29002]:- (1) المعجم الكبير (3/292) وفي إسناده ضعف وانقطاع كما تقدم مرارًا.
[29003]:- (2) في م، أ: "أصابته".
[29004]:- (3) في م: "الطول".
[29005]:- (4) في م: "عن".
[29006]:- (5) المسند (2/421).
[29007]:- (6) المسند (2/513).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لِيُنفِقۡ ذُو سَعَةٖ مِّن سَعَتِهِۦۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡيُنفِقۡ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُۚ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَاۚ سَيَجۡعَلُ ٱللَّهُ بَعۡدَ عُسۡرٖ يُسۡرٗا} (7)

تذييل لما سبق من أحكام الإِنفاق على المعتدات والمرضعات بما يعمّ ذلك . ويعم كل إنفاق يطالَب به المسلم من مفروض ومندوب ، أي الإِنفاق على قدر السعة .

والسَّعة : هي الجِدَة من المال أو الرزق .

والإِنفاق : كفاية مؤونة الحياة من طعام ولباس وغير ذلك مما يُحتاج إليه .

و { من } هنا ابتدائية لأن الإِنفاق يصدر عن السعة في الإِعتبار ، وليست { من } هذه ك ( مِن ) التي في قوله تعالى : { ومما رزقناهم ينفقون } [ الأنفال : 3 ] لأن النفقة هنا ليست بعضاً من السعة ، وهي هناك بعض الرزق فلذلك تكون ( مِن ) من قوله : { فلينفق مما آتاه الله } تبعيضية .

ومعنى { قدر عليه رزقه } جعل رزقه مقدوراً ، أي محدوداً بقدر معين وذلك كناية عن التضييق . وضده { يرزقون فيها بغير حساب } [ غافر : 40 ] ، يقال : قدر عليه رزقه ، إذا قتّره ، قال تعالى : { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } وتقدم في سورة [ الرعد : 26 ] أي من كان في ضيق من المال فلينفق بما يسمح به رزقه بالنظر إلى الوفاء بالإِنفاق ومراتبه في التقديم . وهذا مُجمَل هنا تفصيله في أدلة أخرى من الكتاب والسنة والاستنباط ، قال النبي لهند بنت عتبة زوج أبي سفيان : خذي من ماله ما يكفيك وولدَك بالمعروف .

والمعروف : هو ما تعارفه الناس في معتاد تصرفاتهم ما لم تبطله الشريعة .

والرزق : اسم لما ينتفع به الإِنسان في حاجاته من طعام ولباس ومتاع ومنزل . سواء كان أعياناً أو أثماناً . ويطلق الرزق كثيراً على الطعام كما في قوله تعالى : { وجد عندها رزقاً } [ آل عمران : 37 ] .

ولم يختلف العلماء في أن النفقات لا تتحدد بمقادير معينة لاختلاف أحوال الناس والأزمان والبلاد . وإنما اختلفوا في التوسع في الإِنفاق في مال المؤسر هل يقضَى عليه بالتوسعة على من يُنفق هو عليه ولا أحسب الخلاف في ذلك إلا اختلافاً في أحوال الناس وعوائدهم ولا بدّ من اعتبار حال المنفَق عليه ومعتاده ، كالزوجة العالية القَدر . وكل ذلك داخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند : « ما يكفيك وولدَك بالمعروف » .

وجملة { لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها } تعليل لقوله : { ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } . لأن مضمون هذه الجملة قد تقرر بين المسلمين من قبل في قوله تعالى : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } في سورة [ البقرة : 286 ] ، وهي قبل سورة الطلاق .

والمقصود منه إقناع المنفَق عليه بأن لا يطلب من المنفِق أكثر من مقدُرته . ولهذا قال علماؤنا : لا يطلَّق على المعسر إذا كان يقدر على إشباع المنفَق عليها وإكسائها بالمعروف ولو بشظف ، أي دون ضر .

و{ مما آتاه الله } يشمل المقدرة على الاكتساب فإذا كان مَن يجب عليه الإِنفاق قادراً على الاكتساب لِينفق من يجب عليه إنفاقه أو ليكمِّل له ما ضاق عنه ماله ، يجبر على الاكتساب .

وأما من لا قدرة له على الاكتساب وليس له ما ينفق منه فنفقته أو نفقة من يجب عليه إنفاقُه على مراتبها تكون على بيت مال المسلمين . وقد قال عمر بن الخطاب : « وأن رب الصريمة ورب الغُنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببينة يقول يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين ، أفتاركهم أينا » ، رواه مالك في « الموطأ » .

وفي عجز الزوج عن إنفاق زوجه إذا طلبت الفراق لعدم النفقة خلاف . فمن الفقهاء من رأى ذلك موجباً بينهما بعد أجللِ رجاء يسر الزوج وقُدر بشهرين ، وهو قول مالك . ومنهم من لم ير التفريق بين الزوجين بذلك وهو قول أبي حنيفة ، أي وتنفَق من بيت مال المسلمين .

والذي يقتضيه النظر أنه إن كان بيت المال قائماً فإن من واجبه نفقة الزوجين المعسرين وإن لم يُتوصل إلى الإِنفاق من بيت المال كان حقاً أن يفرِّق القاضي بينهما ولا يترك المرأة وزوْجها في احتياج . ومحل بسط ذلك في مسائل الفقه .

وجملة { سيجعل الله بعد عسر يسراً } تكملة للتذييل فإن قوله : { لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها } يناسب مضمون جملة { لينفق ذو سعة من سعته } .

وقوله : { سيجعل الله } الخ تُناسب مضمون { ومن قدر عليه رزقه } الخ . وهذا الكلام خبر مستعمل في بعث الترجّي وطرح اليأس عن المعسر من ذوي العيال . ومعناه : عسى أن يجعل الله بعد عُسركم يُسراً لكم فإن الله يجعل بعد عسر يسراً . وهذا الخبر لا يقتضي إلا أنّ من تصرفات الله أن يجعل بعد عسر قوم يسراً لهم ، فمن كان في عسر رجَا أن يكون ممن يشمله فضل الله ، فيبدل عسره باليسر .

وليس في هذا الخبر وعْد لكل معسر بأن يصير عُسره يُسراً . وقد يكون في المشاهدة ما يخالف ذلك فلا فائدة في التكلف بأن هذا وعد من الله للمسلمين الموحدين يومئذٍ بأن الله سيبدل عسرهم باليسر ، أو وعد للمُنفقين الذين يمتثلون لأمر الله ولا يشحّون بشيء مما يسعه مالهم . وانظر قوله تعالى : { فإن مع العسر يسراً } [ الشرح : 5 ] .

ومن بلاغة القرآن الإِتيان ب ( عسر ويسراً ) نكرتين غير معرفين باللام لئلا يتوهم من التعريف معنى الاستغراق كما في قوله : { فإن مع العسر يسراً .