ثم أثنى على الكتاب بتمام البيان فقال : { فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } أي : فصل كل شيء من أنواعه على حدته ، وهذا يستلزم البيان التام ، والتفريق بين كل شيء ، وتمييز الحقائق . { قُرْآنًا عَرَبِيًّا } أي : باللغة الفصحى أكمل اللغات ، فصلت آياته وجعل عربيًا . { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : لأجل أن يتبين لهم معناه ، كما تبين لفظه ، ويتضح لهم الهدى من الضلال ، والْغَيِّ من الرشاد .
وأما الجاهلون ، الذين لا يزيدهم الهدى إلا ضلالاً ، ولا البيان إلا عَمًى فهؤلاء لم يُسَقِ الكلام لأجلهم ، { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }
وقوله : { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } أي : بُينت معانيه وأحكمت أحكامه {[25608]} ، { قُرْآنًا عَرَبِيًّا } أي : في حال كونه لفظا عربيا ، بينا واضحا ، فمعانيه مفصلة ، وألفاظه واضحة غير مشكلة ، كقوله : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [ هود : 1 ] أي : هو معجز من حيث لفظه ومعناه ، { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] .
وقوله : { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : إنما يعرف هذا البيان والوضوح العلماءُ الراسخون .
وقيل { فصلت } في التنزيل ، أي نزل نجوماً ، لم ينزل مرة واحدة ، وقيل { فصلت } بالمواقف وأنواع أواخر الآي ، ولم يكن يرجع إلى قافية ونحوها كالشعر والسجع . و : { قرآناً } نصب على الحال عند قوم ، وهي مؤكدة ، لأن هذه الحال ليست مما تنتقل . وقالت فرقة : هو نصب على المصدر ، وقالت فرقة : { قرآناً } توطئة للحال . و : { عربياً } حال . وقالت فرقة : { قرآناً } نصب على المدح وهو قول ضعيف .
وقوله تعالى : { لقوم يعلمون } قالت فرقة : معناه يعلمون الأشياء ويعقلون الدلائل وينظرون على طريق نظر ، فكأن القرآن فصلت آياته لهؤلاء ، إذ هم أهل الانتفاع بها ، فخصوا بالذكر تشريفاً ، ومن لم ينتفع بالتفصيل فكأنه لم يفصل له . وقالت فرقة : { يعلمون } متعلق في المعنى بقوله : { عربياً } أي جعلناه بكلام العرب لقوم يعلمون ألفاظه ويتحققون أنها لم يخرج شيء منها عن كلام العرب ، وكأن الآية رادة على من زعم أن في كتاب الله ما ليس في كلام العرب ، فالعلم على هذا التأويل أخص من العلم على التأويل الأول ، والأول أشرف معنى ، وبين أنه ليس في القرآن إلا ما هو من كلام العرب إما من أصل لغتها وإما عربته من لغة غيرها ثم ذكر في القرآن وهو معرب مستعمل .
والكتاب : اسم لمجموع حروف دالة على ألفاظ مفيدة وسمي القرآن كتاباً لأن الله أوحى بألفاظه وأمر رسوله بأن يكتب ما أُوحي إليه ، ولذلك اتخذ الرسول كتَّاباً يكتبون له كل ما ينزل عليه من القرآن . وإيثار الصفتين { الرحمن الرَّحِيمِ } على غيرهما من الصفات العلية للإِيماء إلى أن هذا التنزيل رحمة من الله بعباده ليخرجهم من الظلمات إلى النور كقوله تعالى : { فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة } [ الأنعام : 157 ] وقولِه تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] وقوله : { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } [ العنكبوت : 51 ] .
والجمع بين صفتي { الرحمن الرَّحِيم } للإيماء إلى أن الرحمة صفة ذاتيَّة لله تعالى ، وأن متعلقها منتشر في المخلوقات كما تقدم في أول سورة الفاتحة والبسملة . وفي ذلك إيماء إلى استحماق الذين أعرضوا عن الاهتداء بهذا الكتاب بأنهم أعرضوا عن رحمة ، وأن الذين اهتدوا به هم أهل المرحمة لقوله بعد ذلك : { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى } [ فصلت : 44 ] .
ومعنى : { فُصِّلَتْ ءاياته } بُينت ، والتفصيل : التبيين والإخلاء من الالتباس . والمراد : أن آيات القرآن واضحة الأغراض لا تلتبس إلا على مكابر في دلالة كل آية على المقصود منها ، وفي مواقعها وتمييز بعضها عن بعض في المعنى باختلاف فنون المعاني التي تشتمل عليها ، وقد تقدم في طالعة سورة هود .
ومن كمال تفصيله أنه كان بلغة كثيرة المعاني ، واسعة الأفنان ، فصيحة الألفاظ ، فكانت سالمة من التباس الدلالة ، وانغلاق الألفاظ ، مع وفرة المعاني غير المتنافية في قلة التراكيب ، فكان وصفه بأنه عربي من مكملات الإِخبار عنه بالتفصيل . وقد تكرر التنويه بالقرآن من هذه الجهة كقوله : { بلسان عربي مبين } [ الشعراء : 195 ] ولهذا فرع عليه ذم الذين أعرضوا عنه بقوله هنا { فَأعْرَضَ أكْثَرُهُم فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون } وقوله هنالك : { كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم } [ الشعراء : 200 ، 201 ] .
والقرآن : الكلام المقروء المتلوّ . وكونه قُرآناً من صفات كماله ، وهو أنه سهْل الحفظ ، سهْل التلاوة ، كما قال تعالى : { ولقد يسرنا القرآن للذكر } [ القمر : 22 ] ولذلك كان شأن الرسول صلى الله عليه وسلم حفظ القرآن عن ظهر قلب ، وكان شأن المسلمين الاقتداء به في ذلك على حسب الهمم والمَكْنَات ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى تفضيل المؤمنين بما عندهم من القرآن . وكان يوم أحد يقدم في لحد شهدائه مَن كان أكثرهم أخذاً للقرآن تنبيهاً على فضل حفظ القرآن زيادة على فضل تلك الشهادة .
وانتصب { قرآناً } على النعت المقطوع للاختصاص بالمدح وإلا لكان مرفوعاً على أنه خبر ثالث أو صفة للخبر الثاني ، فقوله : قرآناً } مقصود بالذكر للإشارة إلى هذه الخصوصية التي اختص بها من بين سائر الكتب الدينية ، ولولا ذلك لقال : كتاب فصّلت آياته عربي كما قال في سورة الشعراء ( 195 ) { بلسان عربي مبين } ولك أن تجعله منصوباً على الحال .
وقوله : { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } صفة ل { قرآناً } ظرفٌ مستقر ، أي كائناً لقوم يعلمون باعتبار ما أفاده قوله : { قُرءَاناً عَرِبيَّاً } من معنى وضوح الدلالة وسطوع الحجة ، أو يتعلق { لِقَوْمٍ يَعْلَمُون } بقوله : { تنزيل } أو بقوله : { فُصِّلَتْ ءاياته } على معنى أن فوائد تنزيله وتفصيله لقوم يعلمون دون غيرهم فكأنه لم يُنزل إلا لهم ، أي فلا بدع إذا أعرض عن فهمه المعاندون فإنهم قوم لا يعلمون ، وهذا كقوله تعالى : { وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } [ يونس : 101 ] وقوله : { وما يعقلها إلا العالمون } [ العنكبوت : 43 ] وقوله : { إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون } [ يوسف : 2 ] وقوله : { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } [ العنكبوت : 49 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{كتاب فصلت آياته قرءانا عربيا} ليفقهوه، ولو كان غير عربي ما علموه، فذلك قوله: {لقوم يعلمون} ما فيه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"تَنْزِيلٌ مِنَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ" يقول تعالى ذكره: هذا القرآن تنزيل من عند الرحمن الرحيم نزّله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
"كِتابٌ فُصّلَتْ آياتُهُ "يقول: كتاب بينت آياته...
وقوله: "قُرآنا عَرَبِيّا" يقول تعالى ذكره: فُصلت آياته هكذا...
وقوله: "لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" يقول: فصلت آيات هذا الكتاب قرآنا عربيا لقوم يعلمون اللسان العربي، بشيرا لهم يبشرهم إن هم آمنوا به، وعملوا بما أنزل فيه من حدود الله وفرائضه بالجنة، ونذيرا يقول ومنذرا من كذّب به ولم يعمل بما فيه بأمر الله في عاجل الدنيا، وخلود الأبد في نار جهنم في آجل الآخرة.
وقوله: "فَأعْرَضَ أكْثَرُهُمْ" يقول تعالى ذكره: فاستكبر عن الإصغاء له وتدبر ما فيه من حجج الله، وأعرض عنه أكثر هؤلاء القوم الذين أنزل هذا القرآن بشيرا لهم ونذيرا، وهم قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
"فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ" يقول: فهم لا يصغون له فيسمعوا إعراضا عنه واستكبارا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال أهل التأويل: {فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ} أي بيّنت ما فيه من الحلال والحرام ومالهم وما عليهم وما يُؤتى وما يُتّقى ونحوه.
وعندنا يحتمل قوله: {فُصّلت آياته} وجهين:
أحدهما: {فصّلت آياته} أي فُرّقت كل آية من الأخرى: من نحو آية التوحيد، فرّقت من آية الرسالة، وفُرّقت آية البعث من غيرها.
والثاني: يحتمل التفريق في الإنزال، أي فُرّقت آياته في الإنزال؛ لم يجمع بينها في الإنزال، ولكن فرّقها في أوقات متباعدة.
ويحتمل قوله: {فصّلت آياته} بُيّنت على غير ما قاله أهل التأويل، وهو أن بُيّنت آياته بالحجج والبراهين حتى يُعلم أنها آيات من الله تعالى.
{قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي أنزله بلسان يعلمونه ويفهمونه، لا بلسان لا يعلمونه ولا يفهمونه، أي أنزله بلسانهم.
ويحتمل {لقوم يعلمون} أي ينتفعون بعلمهم، فأما من لم ينتفع به فلم يجعل الإنزال به...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" كتاب "أي هذا كتاب، وإنما وصف القرآن بأنه كتاب وإن كان المرجع فيه إلى كلام مسموع، لأنه مما ينبغي أن يكتب ويدون لأن الحافظ ربما نسيه أو نسي بعضه، فيتذكر، وغير الحافظ فيتعلم منه.
"فصلت آياته" معناه ميزت دلائله. وإنما وصفه بالتفصيل دون الإجمال؛ لأن التفصيل يأتي على وجوه البيان؛ لأنه تفصيل جملة عن جملة أو مفرد عن مفرد، ومدار أمر البيان على التفصيل والتمييز في ما يحتاج إليه من أمور الدين؛ إذ العلم علمان: علم دين وعلم دنيا، وعلم الدين أجلهما وأشرفهما لشرف النفع به.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وقرئ: «فَصلت»، أي: فرقت بين الحق والباطل. أو فصل بعضها من بعض باختلاف معانيها، من قولك: فصل من البلد {قُرْءاناً عَرَبِيّاً} نصب على الاختصاص والمدح، أي: أريد بهذا الكتاب المفصل قرآناً من صفته كيت وكيت. وقيل: هو نصب على الحال، أي: فصلت آياته في حال كونه قرآناً عربياً {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي: لقوم عرب يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصلة المبينة بلسانهم العربي المبين، لا يلتبس عليهم شيء منه.
فإن قلت: بم يتعلق قوله: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}؟ قلت: يجوز أن يتعلق بتنزيل أو ب"فصلت"، أي: تنزيل من الله لأجلهم. أو فصلت آياته لهم. والأجود أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده، أي قرآناً عربياً كائناً لقوم عرب، لئلا يفرق بين الصّلات والصفات.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما تشوف السامع إلى بيان هذا التنزيل المفرق بالتدريج، بين أنه مع ذلك حاوٍ لكل خير فقال مبدلاً من تنزيل: {كتاب} أي جامع قاطع غالب.
ولما كان الجمع ربما أدى إلى اللبس قال: {فصلت} أي تفصيل الجوهر.
{آياته} أي بينت بياناً شافياً في اللفظ والمعنى مع كونها مفصلة إلى أنواع من المعاني، وإلى مقاطع وغايات ترقى جلائل المعاني إلى أعلى النهايات، حال كونه {قرآناً} أي جامعاً مع التفصيل، وهو مع الجمع محفوظ بما تؤديه مادة "قرأ "من معنى الإمساك، وهو مع جمع اللفظ وضبطه وحفظه وربطه منشور اللواء منتشر المعاني لا إلى حد ولا نهاية وعد، بل كلما دقق النظر جل المفهوم، ولذلك قال تعالى: {عربياً} لأن لسان العرب أوسع الألسن ساحة، وأعمقها عمقاً وأغمرها باحة، وأرفعها بناء وأفصحها لفظاً، وأبينها معنى وأجلها في النفوس وقعاً.
قال الحرالي: هو قرآن لجمعه، فرقان لتفصيله، ذكر لتنبيهه على ما في الفطر والجبلات، وجوده حكيم لإنبائه الاقتضاءات الحكمية، مجيد لإقامته قسطاس العدل، عربي لبيانه عن كل شيء، كما قال تعالى في سوره أحسن القصص، وتفصيل كل شيء مبين لمحوه الكفر بما أبان من إحاطة أمر الله، محفوظ لإحاطته حيث لم يختص فيقبل العدول عن سنن.
ولما كان لا يظهر إلا لمن له قابلية ذلك، وأدمن اللزوم ذلاً للأعتاب، والقرع خضوعاً وحباً للأبواب قال معلقاً ب "فصلت" أو "تنزيل" أو "الرحمن الرحيم ": {لقوم} أي ناس فيهم قوة الإدراك لما يحاولونه.
{يعلمون} أي فيهم قابلية العلم وتجدد الفهم بما فيهم من سلامة الطبع وسلاسة الانقياد لبراهين العقل والسمع وحدة الأذهان وفصاحة اللسان وصحة الأفكار وبعد الأغوار، وفي هذا تبكيت لهم في كونهم لا ينظرون محاسنه فيهتدوا بها، كما يعتنون بالنظر في القصائد حتى يقضوا لبعضها على بعض؛ حتى أنهم ليعلقون بعضها على الكعبة المشرفة تشريفاً له، وفيه حث لهم -وهم أولو العزائم الكبار- على العلم به ليغتنوا عن سؤال اليهود، وفيه بشرى بأنه تعالى يهب العرب بعد هذا الجهل علماً كثيراً، وعن هذا الكفر إيماناً عظيماً كبيراً، وفي الآية إشارة إلى ذم المقترحين المشار إليهم آخر التي قبلها بأنهم قد أتاهم ما أغناهم عنه من آيات هذا الكتاب الذي عجزوا عن مباراته، ومناظرته ومجاراته وذلك في غاية الغرابة، لأنه كلام من جنس كلامهم في كونه عربياً، وقد خالف كلامهم في تخطيه من ذرى البلاغة إلى فنن تضاءلت عنها أشعارهم، وتقاصرت دونها خطبهم وأسجاعهم، مع كونه ليس شعراً ولا سجعاً أصلاً ولا هو من أنواع نثرهم، ولا من ضروب خطبهم، فعجزوا عن الإتيان بشيء من مثله في مر الأحقاب وكر الدهور والأعصار، وكفى بذلك معجزة شديدة الغرابة لمن ينيب.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والكتاب: اسم لمجموع حروف دالة على ألفاظ مفيدة وسمي القرآن كتاباً لأن الله أوحى بألفاظه وأمر رسوله بأن يكتب ما أُوحي إليه، ولذلك اتخذ الرسول كتَّاباً يكتبون له كل ما ينزل عليه من القرآن. وإيثار الصفتين {الرحمن الرَّحِيمِ} على غيرهما من الصفات العلية للإِيماء إلى أن هذا التنزيل رحمة من الله بعباده ليخرجهم من الظلمات إلى النور كقوله تعالى: {فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة} [الأنعام: 157] وقولِه تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107] وقوله: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} [العنكبوت: 51].
والجمع بين صفتي {الرحمن الرَّحِيم} للإيماء إلى أن الرحمة صفة ذاتيَّة لله تعالى، وأن متعلقها منتشر في المخلوقات كما تقدم في أول سورة الفاتحة والبسملة. وفي ذلك إيماء إلى استحماق الذين أعرضوا عن الاهتداء بهذا الكتاب بأنهم أعرضوا عن رحمة، وأن الذين اهتدوا به هم أهل المرحمة لقوله بعد ذلك: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى} [فصلت: 44].
ومعنى: {فُصِّلَتْ ءاياته} بُينت، والتفصيل: التبيين والإخلاء من الالتباس. والمراد: أن آيات القرآن واضحة الأغراض لا تلتبس إلا على مكابر في دلالة كل آية على المقصود منها، وفي مواقعها وتمييز بعضها عن بعض في المعنى باختلاف فنون المعاني التي تشتمل عليها، وقد تقدم في طالعة سورة هود.
ومن كمال تفصيله أنه كان بلغة كثيرة المعاني، واسعة الأفنان، فصيحة الألفاظ، فكانت سالمة من التباس الدلالة، وانغلاق الألفاظ، مع وفرة المعاني غير المتنافية في قلة التراكيب، فكان وصفه بأنه عربي من مكملات الإِخبار عنه بالتفصيل. وقد تكرر التنويه بالقرآن من هذه الجهة كقوله: {بلسان عربي مبين} [الشعراء: 195] ولهذا فرع عليه ذم الذين أعرضوا عنه بقوله هنا {فَأعْرَضَ أكْثَرُهُم فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون} وقوله هنالك: {كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم} [الشعراء: 200، 201].
والقرآن: الكلام المقروء المتلوّ. وكونه قُرآناً من صفات كماله، وهو أنه سهْل الحفظ، سهْل التلاوة، كما قال تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر} [القمر: 22] ولذلك كان شأن الرسول صلى الله عليه وسلم حفظ القرآن عن ظهر قلب، وكان شأن المسلمين الاقتداء به في ذلك على حسب الهمم والمَكْنَات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى تفضيل المؤمنين بما عندهم من القرآن. وكان يوم أحد يقدم في لحد شهدائه مَن كان أكثرهم أخذاً للقرآن تنبيهاً على فضل حفظ القرآن زيادة على فضل تلك الشهادة.
وانتصب {قرآناً} على النعت المقطوع للاختصاص بالمدح وإلا لكان مرفوعاً على أنه خبر ثالث أو صفة للخبر الثاني، فقوله: قرآناً} مقصود بالذكر للإشارة إلى هذه الخصوصية التي اختص بها من بين سائر الكتب الدينية، ولولا ذلك لقال: كتاب فصّلت آياته عربي كما قال في سورة الشعراء (195) {بلسان عربي مبين} ولك أن تجعله منصوباً على الحال.
وقوله: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} صفة ل {قرآناً} ظرفٌ مستقر، أي كائناً لقوم يعلمون باعتبار ما أفاده قوله: {قُرءَاناً عَرِبيَّاً} من معنى وضوح الدلالة وسطوع الحجة، أو يتعلق {لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} بقوله: {تنزيل} أو بقوله: {فُصِّلَتْ ءاياته} على معنى أن فوائد تنزيله وتفصيله لقوم يعلمون دون غيرهم فكأنه لم يُنزل إلا لهم، أي فلا بدع إذا أعرض عن فهمه المعاندون فإنهم قوم لا يعلمون، وهذا كقوله تعالى: {وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} [يونس: 101] وقوله: {وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43] وقوله: {إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون} [يوسف: 2] وقوله: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم} [العنكبوت: 49].
سماه {كِتَابٌ..} لأن الكتاب تعني الجمع. والكتيبة جمع الجنود، فالكتاب تجمع الكلمات إلى بعضها، والكتاب يعني: مجتمع فيه أشياء، وفي القرآن اجتمع كل خير في الدنيا والآخرة، وهو كتاب لأنه مكتوب ومُسجَّل تستطيع أن تقرأه...
ومعنى {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ..} يقولون في الفعل (فُصِّلت) مبني للمجهول أو لما لم يُسَمَّ فاعله، والمعنى هنا أن الله فصَّلها أولاً ففُصِّلت أي: صارتْ مُفصَّلة، فلما بلَّغها رسول الله للناس أصبحت هي مُفصَّلة لأمورهم ولأحكامهم.
ومعنى {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ..} لأن القرآن مُقسَّم ومُفصَّل إلى سور، كل سورة قائمة بذاتها، وداخل السُّور آيات، كل آية بذاتها، ففي السُّوَر الطويل والقصير، كذلك في الآيات تجد كلمة واحدة آية، وتجد آية من عدة أسطر، كذلك فصَّل الكلمات من حيث مادتها، كذلك فصَّل الحلال والحرام، وفصَّل الطاعة والمعصية، ألم يفصل بين الوعد والوعيد، بين الثواب والعقاب.
لقد فَصَل القرآن بين كل هذه المسائل، أو فُصلت فيه كل آيات الكون إلى قيام الساعة، لذلك قالوا:"خطبنا رسول الله خطبة بليغة، ما ترك فيها شيئاً، وما ترك من ورقة تسقط إلا حدَّثنا عنها إلى أنْ تقوم الساعة، حفظها مَنْ حفظها ونسيها مَنْ نسيها".
نعم كما قال تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَٰبِ مِن شَيْءٍ..} [الأنعام: 38] يعني: أن الأمور التي تحدث في الكون موجودة عندكم في هذا الكتاب...
وقوله: {قُرْآناً عَرَبِيّاً..} أي: بلسان عربي وفي أمة عربية، لكن كيف ذلك وهو رسالة عالمية لكل البشر ولكل اللغات؟ ولماذا لم ينزل بكل اللغات؟... فالقرآن نزل على محمد في بيئته العربية، لأن الله تعالى يريد أن يظهر هذا الدين في أمة أمية، وعلى لسان رسول أميٍّ حتى لا يقول أحد: إن القرآن وثبة حضارية.
فالعرب كانوا أمة لا دولةَ لها تحكمها ولا نظام ولا قانون، كانوا مجموعة من القبائل كل قبيلة لها قانونها... ومع ذلك تأتي مثل هذه الأمة وتوحد العالم كله بما فيه من دول متحضرة من فارس في الشرق إلى الروم في الغرب.
فمن أين أتت هذه الأمة بذلك؟ كان عليهم أنْ يفهموا أنه قانونُ السماء جاء من أعلى، وإلا ما كان العرب ليقوموا بهذا الدور لولا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
إذن: لا مجالَ لأنْ نقول عن الإسلام إنه وثبة حضارية، لذلك لما أراد الحق سبحانه إعلاءَ دينه جعل محمداً صلى الله عليه وسلم يجهر بهذا الدين في مكة، لماذا مكة بالذات؟ لأن فيها قريشاً وهي موضع السيادة في الجزيرة كلها، وفيها الصناديد الذين لا يجرؤ أحد على مواجهتهم.
فبين هؤلاء صاح محمد بالإسلام وجهر به، ومع ذلك لم ينصر الدين هؤلاء السادة، إنما نصره المستضعفون والعبيد في المدينة، وقلنا: إن لهذه المسألة حكمة، هي ألاَّ يظهر أحد أن العصبية لمحمد هي التي خلقتْ الإيمان بمحمد، ولكن الإيمان بمحمد هو الذي أوجد العصبية لمحمد.
فالقرآن عربي لأنهم أمة الدعوة الذين سيحملون لواءها ويسيحون بها في أنحاء العالم كله، فالعرب أمة تقوم على الترحال ليس لهم بيوت، ولا يسكنون الفيلات والعمارات، إنما هي الخيمة يحملها معه أينما سار، فوطنه إذن العالم كله وبيته على ظهر جمله، كما أنها قبلية يتعصب كُلٌّ لقبيلته، لذلك كثرت بينهم الحروب حتى أن بعضها استمر أربعين سنة.
هذه الحروب درَّبتهم على القتال، وزرعت فيهم الشجاعة والتضحية بالنفس في سبيل المبدأ، لذلك لما أراد رسول الله أنْ يُعدَّ جيشاً لم يفتح له مدرسة حربية، إنما وجد جيلاً من الرجال جاهزاً مُعداً يعلم كل فنون الحرب، كلما سمع أحدهم هيعة طار إليها.
هؤلاء هم الرجال الذين سيتلقوْنَ الدعوة من رسول الله، هم الذين سينشرونها. إذن: لا بُدَّ أنْ يكون الكلامُ بلسانهم، والدعوة بلغتهم، ليستطيعوا حملها.
لذلك قال تعالى في موضع آخر: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ..} [إبراهيم: 4] نعم لأنهم هم الذين سيسمعون منه أولاً.
لكن كيف تكون عالمية الدين؟ قالوا: حين يسمع منه قومه يؤمنون به، ثم يحملون دعوته إلى الناس لا ألفاظاً، لكن يحملونها منهجاً وسلوكاً وقدوةً، ومعلوم أن المناهج لا تختلف فيها اللغات، لذلك غزا المسلمون العالم كله، ليس بالقرآن وآياته إنما بالسلوك وبالمبادئ التي أرساها القرآن.
إذن: نزل القرآن بلسان عربي، لأن العرب هم المعَدُّون لهذه المهمة، القادرون على حملها، والسياحة بها في العالم كله لكونهم أمة بدوية غير متوطنة، وأمة قتال، وهي أمة أمية لا يمكن أن نتهمها باختلاق هذا الدين، أو أنه وثبة حضارية.
وقوله: {لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي: يعلمون أساليب العربية، بل ويُجوِّدون فيها، فهم أعلى قمة الفصاحة والبلاغة، بدليل أنك لن تجد أمة في الأرض صنعتْ معارض للأدب وللكلمة كما صنع العرب في عكاظ والمربد وذي المجاز والمجنة، ففيها كانوا يعرضون إنتاجهم الأدبي ويُقيِّمونه، وما استحسنوه منه يكرمونه بأن يضعوه على أستار الكعبة.
إذن: {لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} العربية وينبغون فيها نبوغاً، بحيث نزل القرآن المعجز بلسانهم. والإعجاز لا يتأتى لمن لا يجيد مجال الإعجاز، فالذي يجهل شيئاً لا يصح أنْ تقول له: أتحداك في هذا الشيء، إنما يكون الإعجاز للمُجيد في الشيء المتحدَّى به، لأن الجاهل له أن يقول لك: والله لو كنت أعلم الشيء الفلاني لغلبتك فيه. ومن هنا تحدى الله العرب بالقرآن.
ولذلك الحق سبحانه وتعالى لا يُنزل آية مع رسول من رسُله لإثبات صدقه في الدعوة إلا من جنس ما نبغ فيه القوم، فكانت معجزة سيدنا عيسى في الطب، فكان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، وسيدنا موسى عليه السلام كانت معجزته العصا، لأن قومه نبغوا في السحر، وجاءت معجزة محمد صلى الله عليه وسلم في البلاغة والبيان، فتحدَّى القوم بالقرآن، وبذلك يتأتَّى الإعجاز.
لذلك نسمع مَنْ يقول: إن العرب انهزموا أمام القرآن، وهذا غير صحيح، لأن العرب لم ينهزموا بل انتصروا أمام القرآن، كيف؟ لأن الله تعالى لا يتحدى إلا قوياً، فتحدي الله لهم دليلٌ على أنهم قوة، لديهم القدرة على البيان ويمتلكون ناصية اللغة.