تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لَا يُتۡبِعُونَ مَآ أَنفَقُواْ مَنّٗا وَلَآ أَذٗى لَّهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (262)

{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ }

أي : الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله وسبيله ، ولا يتبعونها بما ينقصها ويفسدها من المن بها على المنفق عليه بالقلب أو باللسان ، بأن يعدد عليه إحسانه ويطلب منه مقابلته ، ولا أذية له قولية أو فعلية ، فهؤلاء لهم أجرهم اللائق بهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فحصل لهم الخير واندفع عنهم الشر لأنهم عملوا عملا خالصا لله سالما من المفسدات .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لَا يُتۡبِعُونَ مَآ أَنفَقُواْ مَنّٗا وَلَآ أَذٗى لَّهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (262)

يمدح تعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ، ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات منا على من{[4419]} أعطوه ، فلا يمنون على أحد ، ولا يمنون به لا بقول ولا فعل .

وقوله : { وَلا أَذًى } أي : لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروها يحبطون به ما سلف من الإحسان . ثم وعدهم تعالى الجزاء الجزيل على ذلك ، فقال : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم } أي : ثوابهم على الله ، لا على أحد سواه { وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِم } أي : فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } أي : [ على ]{[4420]} ما خلفوه من الأولاد وما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها{[4421]} لا يأسفون عليها ؛ لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك .


[4419]:في ج، أ: "على ما".
[4420]:زيادة من جـ، أ، و.
[4421]:في و: "وزينتها".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لَا يُتۡبِعُونَ مَآ أَنفَقُواْ مَنّٗا وَلَآ أَذٗى لَّهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (262)

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 262 )

وقوله تعالى : { الذين ينفقون أموالهم } الآية ، لما تقدم في الآية التي قبل هذه ذكر الإنفاق في سبيل الله على العموم بيّن في هذه الآية أن ذلك الحكم إنما هو لمن لم يتبع إنفاقه مناً ولا أذى( {[2575]} ) ، وذلك أن المنفق في سبيل الله إنما يكون على أحد ثلاثة أوجه ، إما أن يريد وجه الله تعالى ويرجو ثوابه ، فهذا لا يرجو من المنفق عليه شيئاً ولا ينظر من أحواله في حال سوى أن يراعي استحقاقه( {[2576]} ) ، وإما أن يريد من المنفق عليه جزاء بوجه من الوجوه ، فهذا لم يرد وجه الله بل نظر إلى هذه الحال من المنفق عليه ، وهذا هو الذي متى أخلف ظنه من بإنفاقه وآذى ، وإما أن ينفق مضطراً دافع غرم إما لماتة( {[2577]} ) للمنفق عليه أو قرينة أخرى من اعتناء معتن ونحوه ، فهذا قد نظر في حال ليست لوجه الله ، وهذا هو الذي متى توبع وحرج بوجه من وجوه الحرج آذى .

فالمن والأذى يكشفان ممن ظهرا منه أنه إنما كان على ما ذكرناه من المقاصد ، وأنه لم يخلص لوجه الله ، فلهذا كان المن والأذى مبطلين للصدقة ، من حيث بين كل واحد منهما أنها لم تكن صدقة ، وذكر النقاش أنه قيل إن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وقيل في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقال مكي في عثمان وابن عوف( {[2578]} ) رضي الله عنهما : والمن ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها ، والأذى : السب والتشكي ، وهو أعم من المنّ ، لأنّ المن جزء من الأذى لكنه نص عليه لكثرة وقوعه ، وذهب ابن زيد إلى أن هذه الآية هي في الذين لا يخرجون في الجهاد ، بل ينفقون وهم قعود ، وأن الأولى التي قبلها هي في الذين يخرجون بأنفسهم وأموالهم . قال : ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشترط على الأولين .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وفي هذا القول نظر ، لأن التحكم فيه باد( {[2579]} ) ، وقال زيد بن أسلم : لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه تريد وجه الله فلا تسلم عليه ، وقالت له امرأة : يا أبا أسامة دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقاً ، فإنهم إنما يخرجون ليأكلوا الفواكه ، فإن عندي أسهماً وجعبة( {[2580]} ) ، فقال لها لا بارك الله في أسهمك وجعبتك ، فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم . وضمن الله الأجر للمنفق في سبيل الله ، والأجر الجنة ، ونفى عنه الخوف بعد موته لما يستقبل والحزن على ما سلف من دنياه ، لأنه يغتبط بآخرته .


[2575]:- لأن المنَّ والأذى يبطلان الصدقة كما سيأتي في الآية بعد هذه، ومن أقوالهم: «المن أخو المن» أي الامتنان بتعديد الصنائع أي للقطع والهدم.
[2576]:- وما أحسن قول بعضهم: بُــثَّ الصنائِعَ لا تحفِل بموقِعِهَـا في آمِلٍ شَكَرَ المعروفَ أو كَفَـرا فالغَيْثُ ليس ببالي حيثُ ما انْسَكَبَتْ مِنْهُ الغَمَـائِِمُ ثُرْباً كان أو حَجَـرَا ومن المتفق عليه حديث: (أنفق أُنفق عليك).
[2577]:- أي لِحُرْمَةٍ أو وسيلة بينه وبين المنفق عليه كالقرابة والصداقة، أو لقرينة أخرى كالعناية بالمنفق عليه والاهتمام بشأنه.
[2578]:- أي في غزوة العسرة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حثَّ الناس على الصدقة حين أراد الخروج إليها جاءه عبد الرحمن بأربعة آلاف فقال: يا رسول الله، كانت لي ثمانية آلاف، فأمسكت لنفسي وعيالي أربعة آلاف، وأقرضت ربي أربعة آلاف، فقال صلى الله عليه وسلم: (بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت). وجاء عثمان فقال: يا رسول الله، عليّ جهاز مَنْ لا جهاز له، فنزلت هذه الآية فيهما.
[2579]:- ذلك أن الآية تدل على أن المن والأذى يكونان من المنفِق على المنفَق عليه، سواء كان المنفِق مجاهدا أم غير مجاهد، وسواء كان الإنفاق في الجهاد على سبيل التجهيز والإعانة أم كان في غير الجهاد، والفرق بين المجاهد بنفسه، والمجاهد بماله تحكم بلا سبب.
[2580]:- أي: يخرج للجهاد حقيقة لا لغرض، والجعبة كنانة النشاب أي السهام، والجمع جعاب ككلبة وكلاب.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لَا يُتۡبِعُونَ مَآ أَنفَقُواْ مَنّٗا وَلَآ أَذٗى لَّهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ} (262)

أعاد قوله : { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } إظهاراً للاهتمام بهذه الصلة . وقوله : { ثم لا يتبعون } جاء في عطفه بشم مع أنّ الظاهر أن يعطف بالواو ، قال في « الكشاف » : « لإظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى ، وإنّ تركهما خير من نفس الإنفاق » ؛ يعني أنّ ثم للترتيب الرتبي لا للمهلة الزمنية ترفيعاً لرتبة ترك المنّ والأذى على رتبة الصدقة ؛ لأنّ العطاء قد يصدر عن كرم النفس وحبّ المحمدة فللنفوس حظّ فيه مع حظّ المعطَى ، بخلاف ترك المنّ والأذى فلا حظ فيه لِنفس المعطي ؛ فإنّ الأكثر يميلون إلى التبجّح والتطاول على المعطَى ، فالمهلة في ( ثم ) هنا مجازية ؛ إذ شُبِّه حصول الشيء المهم في عزّة حصوله بحصول الشيء المتأخّر زمنه ، وكأنّ الذي دعا الزمخشري إلى هذا أنّه رأى معنى المهلة هنا غير مراد لأنّ المراد حصول الإنفاق وترك المنّ معاً .

والمنّ أصله الإنعام والفضل ، يقال مَنّ عليه مَنَّا ، ثم أطلق على عدّ الإنعام على المنعَم عليه ، ومنه قوله تعالى : { ولا تمنن تستكثر } [ المدثر : 6 ] ، وَهو إذا ذُكر بعد الصدقة والعطاء تعيّن للمعنى الثاني .

وإنّما يكون المنّ في الإنفاق في سبيل الله بالتطاول على المسلمين والرياء بالإنفاق ، وبالتطاول على المجاهدين الذين يُجَهِّزهم أو يَحْملهم ، وليس من المنّ التمدّح بمواقف المجاهد في الجهاد أو بمواقف قومِه ، فقد قال الحُريش بن هلال القريعي يذكر خَيْله في غزوة فتح مكة ويوم حنين :

شَهِدنَ مع النبي مُسَوّمَاتٍ *** حُنينا وهْيَ دَاميَةُ الحَوامِي

ووقْعَةَ خالدٍ شَهِدَت وحَكَّتْ *** سَنَابِكَها علَى البَلَد الحَرَامِ

وقال عباس بن مرداس يتمدّح بمواقع قومه في غزوة حنين :

حَتَّى إذا قال النبيءُ محمــدٌ *** أبَنِي سُلَيْمٍ قَـدْ وَفَيْتُم فأرجِعوا

عُدْنَا ولَوْلاَ نَحْنُ أحْدَقَ جَمْعَهُمْ *** بالمُسْلمين وأحرَزُوا مَا جَمَّعوا

والأذى هو أن يؤذي المنفِق من أنفق عليه بإساءة في القول أو في الفعل قال النابغة :

عليّ لِعمروٍ نعمة بعد نعمة *** لوالده ليست بذات عقارب

فالمقصد الشرعي أن يكون إنفاق المنفق في سبيل الله مراداً به نصر الدين ولا حظّ للنفس فيه ، فذلك هو أعلى درجات الإنفاق وهو الموعود عليه بهذا الأجر الجزيل ، ودون ذلك مراتب كثيرة تتفاوت أحوالها .