تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{نَحۡنُ جَعَلۡنَٰهَا تَذۡكِرَةٗ وَمَتَٰعٗا لِّلۡمُقۡوِينَ} (73)

{ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً } للعباد بنعمة ربهم ، وتذكرة بنار جهنم التي أعدها الله للعاصين ، وجعلها سوطا يسوق به عباده إلى دار النعيم ، { وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ } أي : [ المنتفعين أو ] المسافرين وخص الله المسافرين لأن نفع المسافر بذلك أعظم من غيره ، ولعل السبب في ذلك ، لأن الدنيا كلها دار سفر ، والعبد من حين ولد فهو مسافر إلى ربه ، فهذه النار ، جعلها الله متاعا للمسافرين في هذه الدار ، وتذكرة لهم بدار القرار ، فلما بين من نعمه ما يوجب الثناء عليه من عباده وشكره وعبادته ، أمر بتسبيحه وتحميده{[970]}  فقال :


[970]:- في ب: وتعظيمه.
 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{نَحۡنُ جَعَلۡنَٰهَا تَذۡكِرَةٗ وَمَتَٰعٗا لِّلۡمُقۡوِينَ} (73)

وقوله : { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً } قال مجاهد ، وقتادة : أي تُذَكّر النارَ الكبرى .

قال قتادة : ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا قوم ، ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم " . قالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية ! قال : " قد ضُربت بالماء ضربتين - أو : مرتين - حتى يستنفع بها بنو آدم ويدنوا منها " {[28139]} .

وهذا الذي أرسله قتادة رواه الإمام أحمد في مسنده ، فقال :

حدثنا سفيان ، عن أبي الزِّناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم ، وضربت بالبحر مرتين ، ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد " {[28140]} .

وقال الإمام مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم " . فقالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية فقال : " إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءًا " .

رواه البخاري من حديث مالك ، ومسلم ، من حديث أبي الزناد{[28141]} ، ورواه مسلم ، من حديث عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، به{[28142]} . وفي لفظ : " والذي نفسي بيده ، لقد فُضِّلَت عليها بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها " .

وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن عمرو الخلال ، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، حدثنا مَعْن بن عيسى القزاز ، عن مالك ، عن عمه أبي السهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتدرون ما مثل ناركم هذه من نار جهنم ؟ لهي أشد سوادًا من [ دخان ]{[28143]} ناركم هذه بسبعين ضعفًا " {[28144]} .

قال الضياء المقدسي : وقد رواه ابن {[28145]} مصعب عن مالك ، ولم يرفعه ، وهو عندي على شرط الصحيح .

وقوله : { وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والنضر بن عربي : معنى { لِلْمُقْوِينَ } المسافرين ، واختاره ابن جرير ، وقال : ومنه قولهم : " أقوت الدار إذا رحل أهلها " .

وقال غيره : القيّ والقَوَاء : القفر الخالي البعيد من العمران .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : المقوي هنا الجائع .

وقال ليث ابن أبي سليم ، عن مجاهد : { وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ } للحاضر والمسافر ، لكل طعام لا يصلحه إلا النار . وكذا روى سفيان ، عن جابر الجعفي ، عن مجاهد .

وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد قوله : { لِلْمُقْوِينَ } المستمتعين ، الناس أجمعين . وكذا ذكر عن عكرمة .

وهذا التفسير أعم من غيره ، فإن الحاضر والبادي من غني وفقير الكل{[28146]} محتاجون للطبخ والاصطلاء والإضاءة وغير ذلك من المنافع . ثم من لطف الله تعالى أن أودعها في الأحجار ، وخالص الحديد بحيث يتمكن المسافر من حمل ذلك في متاعه وبين ثيابه ، فإذا احتاج إلى ذلك في منزله أخرج زنده وأورى ، وأوقد ناره فأطبخ بها واصطلى ، واشتوى واستأنس بها ، وانتفع بها سائر الانتفاعات . فلهذا أفرد المسافرون وإن كان ذلك عامًّا في حق الناس كلهم . وقد يستدل له بما رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي خِدَاش حَبَّان بن زَيد الشَّرعَبي الشَّامي ، عن رجل من المهاجرين من قَرَن ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المسلمون شركاء في ثلاثة : النار والكلأ والماء " {[28147]} .

وروى ابن ماجه بإسناد جيد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثٌ لا يُمْنَعْنَ : الماء والكلأ والنار " {[28148]} .

وله من حديث ابن عباس مرفوعًا مثل هذا وزيادة : " وثمنه حرام " {[28149]} . ولكن في إسناده " عبد الله بن خِرَاش بن حَوْشب " وهو ضعيف ، والله أعلم .


[28139]:- (5) رواه الطبري في تفسيره (27/117).
[28140]:- (1) المسند (2/244).
[28141]:- (2) صحيح البخاري برقم (3265) وصحيح مسلم برقم (2843).
[28142]:- (3) صحيح مسلم برقم (2843).
[28143]:- (4) زيادة من المعجم الأوسط للطبراني.
[28144]:- (5) المعجم الأوسط برقم (4843) "مجمع البحرين".
[28145]:- (6) في م، أ: "وقد رواه أبو".
[28146]:- (1) في م، أ: "الجميع".
[28147]:- (2) المسند (5/364) وسنن أبي داود برقم (3477).
[28148]:- (3) سنن ابن ماجه برقم (2472).
[28149]:- (4) سنن ابن ماجه برقم (2472).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{نَحۡنُ جَعَلۡنَٰهَا تَذۡكِرَةٗ وَمَتَٰعٗا لِّلۡمُقۡوِينَ} (73)

و : { تذكرة } معناه : تذكر نار جهنم ، قاله مجاهد وقتادة . والمتاع : ما ينتفع به . و " المقوين " في هذه الآية : الكائنون في الأرض القواء ، وهي الفيافي ، وعبر الناس في تفسير { المقوين } بأشياء ضعيفة ، كقول ابن زيد للجائعين ونحوه .

ولا يقوى منها ما ذكرناه ، ومن قال معناه : للمسافرين ، فهو نحو ما قلناه ، وهي عبارة ابن عباس رضي الله عنه تقول : أصبح الرجل ، دخل في الصباح . وأصحر دخل في الصحراء ، وأقوى دخل في الأرض القواء ، ومنه أقوت الدار ، وأقوى الطلل : أي صار قواء ، ومنه قول النابغة : [ البسيط ]

أقوتْ وطال عليها سالفُ الأبدِ . . . {[10925]}

وقول الآخر : [ الكامل ]

أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم . . . {[10926]}

والفقير والغني إذا أقوى سواء في الحاجة إلى النار ، ولا شيء يغني غناءها في الصرد ، ومن قال : إن أقوى من الأضداد من حيث يقال : أقوى الرجل إذا قويت دابته فقد أخطأ وذلك فعل آخر كأترب إذا أترب .


[10925]:هذا عجز بيت قاله النابغة الذبياني في مطلع قصيدة يمدح بها النعمان بن المنذر، ويعتذر إليه مما بلغه عنه من أنه يحب المُتجردة زوج النعمان، والبيت بتمامه: يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأبد والعلياء –بفتح العين وبالمد-: رأس الجبل، والسند: ما علا عن سفح الجبل، وعطف السند بالفاء هنا يفيد أن دار مية كانت بالعلياء لكنها متصلة بالسند، وأقوت: أقفرت وصارت خاوية خربة، وهو موضع الاستشهاد هنا، والأبد: الدهر، والسالف: الماضي. يقول: طال عليها ما مضى من الدهر فصارت خرابا خاوية.
[10926]:البيت من معلقة عنترة"هل غادر الشعراء من متردم، وهو بتمامه: حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم والطلل: ما بقي شاخصا من آثار الديار، والجمع أطلال وطلول، والإقواء والإقفار: الخلاء، وقد جمع بينهما لضرب من التأكيد، وأم الهيثم: كنية عبلة، يحييه من بين الأطلال، أي يخصه بالتحية من بين الأطلال، ثم يقول: لقد قدم عهده بأهله، وقد خلا من السكان بعد رحيل حبيبته عنه.