{ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي } حيث زين له ما هو عليه من الضلال بخدعه وتسويله . { وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا } يزين له الباطل ويقبح له الحق ، ويعده الأماني ثم يتخلى عنه ويتبرأ منه كما قال لجميع أتباعه حين قضي الأمر ، وفرغ الله من حساب الخلق { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ } الآية . فلينظر العبد لنفسه وقت الإمكان وليتدارك الممكن قبل أن لا يمكن ، وليوال من ولايته فيها سعادته وليعاد من تنفعه عداوته وتضره صداقته . والله الموفق .
{ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ } [ وهو القرآن ]{[21508]} { بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي } أي : بعد بلوغه إلي ، قال الله تعالى : { وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا } أي : يخذله عن الحق ، ويصرفه عنه ، ويستعمله في الباطل ، ويدعوه إليه .
{ لقد أضلني عن الذكر } عن ذكر الله أو كتابه أو موعظة الرسول ، أو كلمة الشهادة . { بعد إذ جاءني } وتمكنت منه . { وكان الشيطان } يعني الخليل المضل أو إبليس لأنه حمله على مخالته ومخالفة الرسول ، أو كل من تشيطن من جن وإنس . { للإنسان خذولا } يواليه حتى يؤديه إلى الهلاك ثم يتركه ولا ينفعه ، " فعول " من الخذلان .
جملة { لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني } تعليلية لتمنِّيه أن لا يكون اتخذ فلاناً خليلاً بأنه قد صدر عن خُلته أعظم خسران لخليله إذ أضله عن الحق بعد أن كاد يتمكن منه .
وقوله : { أضلني عن الذكر } معناه سوّل لي الانصراف عن الحق . والضلال : إضاعة الطريق وخطؤه بحيث يسلك طريقاً غيرَ المقصود فيقع في غير المكان الذي أراده ، وإنما وقع في أرض العدوّ أو في مَسبَعة . ويستعار الضلال للحياد عن الحق والرشد إلى الباطل والسفه كما يستعار ضده وهو الهُدى ( الذي هو إصابة الطريق ) لمعرفة الحق والصواب حتى تساوى المعنيان الحقيقيان والمعنيان المجازيان لكثرة الاستعمال ، ولذلك سموا الدليل الذي يَسلك بالركب الطريقَ المقصود هَادياً .
والإضلال مستعار هنا للصرف عن الحق لمناسبة استعارة السبيل لهدى الرسول وليس مستعملاً هنا في المعنى الذي غلب على الباطل بقرينة تعديته بحرف { عن } في قوله : { عن الذكر } فإنه لو كان الإضلال هو تسويل الضلال لما احتاج إلى تعديته ولكن أريد هنا متابعة التمثيل السابق . ففي قوله : { أضلني } مكنية تقتضي تشبيه الذكر بالسبيل الموصل إلى المنجَى ، وإثبات الإضلال عنه تخييل كإثبات الأظفار للمنية ، فهذه نكت من بلاغة نظْم الآية .
و { الذكر } : هو القرآن ، أي نهاني عن التدبر فيه والاستماع له بعد أن قاربت فهمه .
والمجيء في قوله : { إذ جاءني } مستعمل في إسماعه القرآن فكأنَّ القرآن جاءٍ حلَّ عنده . ومنه قولهم : أتاني نبأ كذا ، قال النابغة :
أتاني أبيْتَ اللعن أنك لُمتَني
فإذا حُمل الظالم في قوله : { ويوم يعضّ الظالم على يديه } على معيّن وهو عقبة بن أبي مُعيْط فمعنى مَجيء الذكر إياه أنه كان يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويأنس إليه حتى صرفه عن ذلك أُبيُّ بن خلف وحمله على عداوته وأذاته ، وإذا حُمِل الظالم على العموم فمجيء الذكر هو شيوع القرآن بينهم ، وإمكان استماعهم إياه . وإضلال خِلاّنهم إياهم صرفُ كل واحد خليلَه عن ذلك ، وتعاوُن بعضهم على بعض في ذلك .
وقيل : { الذكر } : كلمة الشهادة ، بناء على تخصيص الظالم بعقبة بن أبي معيط كما تقدم ، وتأتي في ذلك الوجوه المتقدمة ، فإن كلمة الشهادة لما كانت سببَ النجاة مثلت بسبيل الرسول الهادي ، ومُثل الصرف عنها بالإضلال عن السبيل .
و { إذْ } ظرف للزمن الماضي ، أي بعد وقتتٍ جاءني فيه الذكر ، والإتيان بالظرف هنا دون أن يقال : بعد ما جاءني ، أو بعد أن جاءني ، للإشارة إلى شدة التمكن من الذكر لأنه قد استقر في زمن وتحقق ، ومنه قوله تعالى : { وما كان الله لِيُضِلّ قوماً بعد إذْ هداهم } [ التوبة : 115 ] أي تمكن هديه منهم .
وجملة { وكان الشيطان للإنسان خَذولاً } تذييل من كلام الله تعالى لا من كلام الظالم تنبيها للناس على أن كل هذا الإضلال من عمل الشيطان فهو الذي يسوّل لخليل الظالم إضلال خليله لأن الشيطان خذول الإنسان ، أي مجبول على شدة خذله .
والخذل : ترك نصر المستنجِد مع القدرة على نصره ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { وإن يَخْذُلْكم فَمَنْ ذَا الذي يَنصرُكُم مِن بَعده } في سورة [ آل عمران : 160 ] .
فإذا أعان على الهزيمة فهو أشد الخذل ، وهو المقصود من صيغة المبالغة في وصف الشيطان بخذل الإنسان لأن الشيطان يكيد الإنسان فيورطه في الضر فهو خذول .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول عقبة: {لقد أضلني} لقد ردني {عن الذكر} يعني عن الإيمان بالقرآن {بعد إذ جاءني} يعني حين جاءني.
{وكان الشيطان} في الآخرة {للإنسان}... {خذولا}، يقول: يتبرأ منه، ونزل فيهما: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو} [الزخرف:67].
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"لَقَدْ أضَلّنِي عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إذْ جاءَنِي" يقول جلّ ثناؤه مخبرا عن هذا النادم على ما سلف منه في الدنيا من معصية ربه في طاعة خليله: لقد أضلني عن الإيمان بالقرآن، وهو الذكر، بعد إذ جاءني من عند الله، فصدّني عنه. يقول الله: "وكانَ الشّيْطانُ للإنْسانِ خَذُولاً "يقول: مسلّما لما يَنزل به من البلاء غير منقذه ولا منجيه.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
{بعد إذ جاءني} يعني: الذكر مع الرسول...
{للإنسان خذولاً} أي: تاركاً يتركه ويتبرأ منه عند نزول البلاء والعذاب، وحكم هذه الآية عام في حق كل متحابين اجتمعا على معصية الله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فكل من اتخذ من المضلين خليلاً كان لخليله اسم علم لا محالة، فجعله كناية عنه.
{عَنِ الذكر} عن ذكر الله، أو القرآن، أو موعظة الرسول. ويجوز أن يريد نطقه بشهادة الحق، وعزمه على الإسلام. والشيطان: إشارة إلى خليله، سماه شيطاناً لأنه أضله كما يضلّ الشيطان، ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة، أو أراد إبليس، وأنه هو الذي حمله على مخالة المضل ومخالفة الرسول، ثم خذله، أو أراد الجنس، وكل من تشيطن من الجنّ والإنس. ويحتمل أن يكون {وَكَانَ الشيطان} حكاية كلام الظالم، وأن يكون كلام الله.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني "أي يقول هذا النادم: لقد أضلني من اتخذته في الدنيا خليلا عن القرآن والإيمان به. وقيل:"عن الذكر "أي عن الرسول. "وكان الشيطان للإنسان خذولا "قيل: هذا من قول الله لا من قول الظالم. وتمام الكلام على هذا عند قوله:"بعد إذ جاءني". والخذل الترك من الإعانة، ومنه خذلان إبليس للمشركين لما ظهر لهم في صورة سراقة بن مالك، فلما رأى الملائكة تبرأ منهم. وكل من صد عن سبيل الله وأطيع في معصية الله فهو شيطان للإنسان، خذولا عند نزول العذاب والبلاء...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم استأنف قوله الذي يتوقع كل سامع أن يقوله: {لقد} أي والله لقد {أضلني عن الذكر} أي عمّى عليّ طريق القرآن الذي لا ذكر في الحقيقة غيره وصرفني عنه، والجملة في موضع العلة لما قبلها {بعد إذ جاءني} ولم يكن لي منه مانع يظهر غير إضلاله.
ولما كان التقدير: ثم ها هو قد خذلني أحوج ما كنت إلى نصرته، عطف عليه قوله: {وكان الشيطان} أي كل من كان سبباً للضلال من عتاة الجن والإنس {للإنسان خذولاً} أي شديد الخذلان، يورده ثم يسلمه إلى أكره ما يكره، لا ينصره، ولو أراد لما استطاع، بل هو شر من ذلك، لأن عليه إثمه في نفسه ومثل إثم من أضله.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني} تعليلية لتمنِّيه أن لا يكون اتخذ فلاناً خليلاً بأنه قد صدر عن خُلته أعظم خسران لخليله إذ أضله عن الحق بعد أن كاد يتمكن منه.
{أضلني عن الذكر} معناه سوّل لي الانصراف عن الحق. والضلال: إضاعة الطريق وخطؤه بحيث يسلك طريقاً غيرَ المقصود فيقع في غير المكان الذي أراده، وإنما وقع في أرض العدوّ أو في مَسبَعة. ويستعار الضلال للحياد عن الحق والرشد إلى الباطل والسفه كما يستعار ضده وهو الهُدى (الذي هو إصابة الطريق) لمعرفة الحق والصواب حتى تساوى المعنيان الحقيقيان والمعنيان المجازيان لكثرة الاستعمال، ولذلك سموا الدليل الذي يَسلك بالركب الطريقَ المقصود هَادياً. والإضلال مستعار هنا للصرف عن الحق لمناسبة استعارة السبيل لهدى الرسول وليس مستعملاً هنا في المعنى الذي غلب على الباطل بقرينة تعديته بحرف {عن} في قوله: {عن الذكر} فإنه لو كان الإضلال هو تسويل الضلال لما احتاج إلى تعديته ولكن أريد هنا متابعة التمثيل السابق. ففي قوله: {أضلني} مكنية تقتضي تشبيه الذكر بالسبيل الموصل إلى المنجَى، وإثبات الإضلال عنه تخييل كإثبات الأظفار للمنية، فهذه نكت من بلاغة نظْم الآية...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي} وأبعدني عن الاستماع إليه، والتفكير به، والتعمّق في فهم مداليله ونتائجه، والاهتداء بهداه، في ما يأمرني به، أو ينهاني عنه. وها أنا الآن أقف موقف المسؤولية الصعب الذي يواجه عذاب الله في النار، ويقف هذا الإنسان ليتخلى عن كل مسؤوليةٍ في إضلالي، فيحمّلني مسؤولية ما أنا فيه، من دون أن يكون له دور في ذلك، {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16].
{وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} في كل ما يضله فيه مما ينحرف به عن الصراط المستقيم. وبذلك يعيش الإنسان الإِيحاء العميق، من خلال هذه الآية، كيفية مواجهة خطوات الشيطان بوعي وحذر، ليبتعد عن السير معها في معصية الله، وكيف يكون حذراً في صداقاته فيختار أصدقاءه من مواقع إيمانه، ولا يستسلم للمشاعر الحميمة في أحاسيسه حتى لا تغلبه مشاعره على مبادئه، وحتى لا تحتويه الصداقة بأوضاعها الضاغطة من ناحية عاطفية، فيبتعد عن خط الاستقامة، ويقترب من خط الانحراف، فيندم حيث لا ينفعه الندم.