ومن ذلك أيضا ، إيلاجه تعالى الليل بالنهار والنهار بالليل ، يدخل هذا على هذا ، وهذا على هذا ، كلما أتى أحدهما ذهب الآخر ، ويزيد أحدهما وينقص الآخر ، ويتساويان ، فيقوم بذلك ما يقوم من مصالح العباد في أبدانهم وحيواناتهم وأشجارهم وزروعهم .
وكذلك ما جعل اللّه في تسخير الشمس والقمر ، الضياء والنور ، والحركة والسكون ، وانتشار العباد في طلب فضله ، وما فيهما من تنضيج الثمار وتجفيف ما يجفف{[744]} وغير ذلك مما هو من الضروريات ، التي لو فقدت لَلَحِقَ الناس الضرر .
وقوله : { كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى } أي : كل من الشمس والقمر ، يسيران في فلكهما ما شاء اللّه أن يسيرا ، فإذا جاء الأجل ، وقرب انقضاء الدنيا ، انقطع سيرهما ، وتعطل سلطانهما ، وخسف القمر ، وكورت الشمس ، وانتثرت النجوم .
فلما بين تعالى ما بيَّن من هذه المخلوقات العظيمة ، وما فيها من العبر الدالة على كماله وإحسانه ، قال : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ } أي : الذي انفرد بخلق هذه المذكورات وتسخيرها ، هو الرب المألوه المعبود ، الذي له الملك كله .
{ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } من الأوثان والأصنام { مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } أي : لا يملكون شيئا ، لا قليلا ولا كثيرا ، حتى ولا القطمير الذي هو أحقر الأشياء ، وهذا من تنصيص النفي وعمومه ، فكيف يُدْعَوْنَ ، وهم غير مالكين لشيء من ملك السماوات والأرض ؟
وهذا أيضًا من قدرته التامة وسلطانه العظيم ، في تسخيره الليل بظلامه والنهار بضيائه ، ويأخذ من طول هذا فيزيده في قصر هذا{[24499]} فيعتدلان . ثم يأخذ من هذا في هذا ، فيطول هذا ويقصر هذا ، ثم يتقارضان صيفًا وشتاء ، { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } أي : والنجوم السيارات ، والثوابت الثاقبات بأضوائهن أجرام السموات ، الجميع يسيرون بمقدار معين ، وعلى منهاج مقنن محرر ، تقديرًا من عزيز عليم .
{ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى }{[24500]} أي : إلى يوم القيامة .
{ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ } أي : الذي فعل هذا هو الرب العظيم ، الذي لا إله غيره ، { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } أي : من الأنداد والأصنام التي هي على صورة من تزعمون{[24501]} من الملائكة المقربين ، { مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ } .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمَة ، وعطاء وعطية العَوْفي ، والحسن ، وقتادة وغيرهم : القطمير : هو اللفافة التي تكون على نواة التمرة ، أي : لا يملكون من السموات والأرض شيئًا ، ولا بمقدار هذا القطمير .
{ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى } هي مدة دوره أو منتهاه أو يوم القيامة . { ذلكم الله ربكم له الملك } الإشارة إلى الفاعل لهذه الأشياء . وفيها إشعار بأن فاعليته لها موجبة لثبوت الأخبار المترادفة ، ويحتمل أن يكون { له الملك } كلاما مبتدأ في قرآن . { والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير } للدلالة على تفرده بالألوهية والربوبية والقطمير لفافة النواة .
{ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى } .
استدلال عليهم بما في مظاهر السماوات من الدلائل على بديع صنع الله في أعظم المخلوقات ليتذكروا بذلك أنه الإِله الواحد .
وتقدم الكلام على نظير هذه الآية في سورة لقمان ، سوى أن هذه الآية جاء فيها { كل يجري لأجل } فعدي فعل { يجري } باللام وجيء في آية سورة لقمان تعدية فعل { يجري } بحرف ( إلى ) ، فقيل اللام تكون بمعنى ( إلى ) في الدلالة على الانتهاء ، فالمخالفة بين الآيتين تفنن في النظم . وهذا أباه الزمخشري في سورة لقمان وردّه أغلظ ردّ فقال : ليس ذلك من تعاقب الحرفين ولا يَسلك هذه الطريقة إلا بليد الطبع ضيق العَطن ولكن المعنيين أعني الانتهاء والاختصاص كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض لأن قولك : يجري إلى أجل مسمى معناه يبلغه ، وقوله : { يجري لأجل } تريد لإِدراك أجل ا ه . وجعل اللام للاختصاص أي ويجري لأجْل أَجَل ، أي لبلوغه واستيفائه ، والانتهاء والاختصاص كل منهما ملائم للغرض ، أي فمآل المعنيين واحد وإن كان طريقه مختلفاً ، يعني فلا يعد الانتهاء معنى للام كما فعل ابن مالك وابن هشام ، وهو وإن كان يرمي إلى تحقيق الفرق بين معاني الحروف وهو مما نميل إليه إلا أننا لا نستطيع أن ننكر كثرة ورود اللام في مقام معنى الانتهاء كثرة جعلت استعارة حرف التخصيص لمعنى الانتهاء من الكثرة إلى مساويه للحقيقة ، اللهم إلا أن يكون الزمخشري يريد أن الأجل هنا هو أجل كل إنسان ، أي عمره وأن الأجل في سورة لقمان هو أجل بقاء هذا العالم .
وهو على الاعتبارين إدماج للتذكير في خلال الاستدلال ففي هذه الآية ذكَّرهم بأن لأعمارهم نهاية تذكيراً مراداً به الإِنذار والوعيد على نحو قوله تعالى في سورة الأنعام ( 60 ) { ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى } واقتلاعُ الطغيان والكبرياء من نفوسهم .
ويريد ذلك أن معظم الخطاب في هذه الآية موجه إلى المشركين ، ألا ترى إلى قوله بعدها : والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير } وَفي سورة لقمان الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو عامّ لكل مخاطب من مؤمن وكافر فكان إدماج التذكير فيه بأن لهذا العالم انتهاء أنسب بالجميع ليستعدَّ له الذين آمنوا وليرغم الذين كفروا على العلم بوجود البعث لأنّ نهاية هذا العالم ابتداء لعالم آخر .
{ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ من قطمير } .
استئناف موقعه موقع النتيجة من الأدلة بعد تفصيلها .
واسم الإِشارة موجه إلى من جرت عليه الصفات والأخبار السابقة من قوله : { والله الذي أرسل الرياح } [ فاطر : 9 ] الآيات فكان اسمه حريّاً بالإِشارة إليه بعد إجراء تلك الصفات إذ بذكرها يتميز عند السامعين أكمل تمييز حتى كأنه مشاهد لأبصارهم مع ما في اسم الإِشارة من البعد المستعمل كناية عن تعظيم المشار إليه ، ومع ما يقتضيه إيراد اسم الإِشارة عقب أوصاف كثيرة من التنبيه على أنه حقيق بما سيرد بعد الإِشارة من أجل تلك الصفات فأخبر عنه بأنه صاحب الاسم المختص به الذي لا يجهلونه ، وأخبر عنه بأنه رب الخلائق بعد أن سجل عليهم ما لا قبل لهم بإنكاره من أنه الذي خلقهم خلقاً من بعد خلق ، وأن خلقهم من تراب ، وقدر آجالهم وأوجد ما هو أعظم منهم من الأحوال السماوية والأرضية مما يدل على أنه لا يعجزه شيء فهو الرب دون غيره وهو الذي الملكُ والسلطان له لا لغيره أفاد ذلك كله قوله تعالى : { ذلكم الله ربكم له الملك } ، فانتهض الدليل .
وعطف عليه التصريح بأن أصنامهم لا يملكون من الملك شيئاً ولو حقيراً وهو الممثَّل بالقطمير .
والقطمير : القشرة التي في شَقّ النواة كالخيط الدقيق . فالمعنى : لا يملكون شيئاً ولو حقيراً ، فكونهم لا يملكون أعظَم من القطمير معلوم بفحوى الخطاب ، وذلك حاصل بالمشاهدة فإن أصنامهم حجارة جاثمة لا تملك شيئاً بتكسب ولا تحوزه بهبة ، فإذا انتفى أنها تملك شيئاً انتفى عنها وصف الإِلهية بطريق الأوْلى ، فنُفي ما كانوا يزعمونه من أنها تشفع لهم .