تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَرَبُّكَ ٱلۡغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۚ إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ وَيَسۡتَخۡلِفۡ مِنۢ بَعۡدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوۡمٍ ءَاخَرِينَ} (133)

{ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } بالإهلاك { وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } فإذا عرفتم بأنكم لا بد أن تنتقلوا من هذه الدار ، كما انتقل غيركم ، وترحلون منها وتخلونها لمن بعدكم ، كما رحل عنها من قبلكم وخلوها لكم ، فلم اتخذتموها قرارا ؟ وتوطنتم بها ونسيتم ، أنها دار ممر لا دار مقر . وأن أمامكم دارًا ، هي الدار التي جمعت كل نعيم وسلمت من كل آفة ونقص ؟

وهي الدار التي يسعى إليها الأولون والآخرون ، ويرتحل نحوها السابقون واللاحقون ، التي إذا وصلوها ، فثَمَّ الخلود الدائم ، والإقامة اللازمة ، والغاية التي لا غاية وراءها ، والمطلوب الذي ينتهي إليه كل مطلوب ، والمرغوب الذي يضمحل دونه كل مرغوب ، هنالك والله ، ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، ويتنافس فيه المتنافسون ، من لذة الأرواح ، وكثرة الأفراح ، ونعيم الأبدان والقلوب ، والقرب من علام الغيوب ، فلله همة تعلقت بتلك الكرامات ، وإرادة سمت إلى أعلى الدرجات " وما أبخس حظ من رضي بالدون ، وأدنى همة من اختار صفقة المغبون " ولا يستبعد المعرض الغافل ، سرعة الوصول إلى هذه الدار .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَرَبُّكَ ٱلۡغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۚ إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ وَيَسۡتَخۡلِفۡ مِنۢ بَعۡدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوۡمٍ ءَاخَرِينَ} (133)

يقول [ تعالى ]{[11240]} { وَرَبُّكَ } يا محمد { الْغَنِيُّ } أي : عن جميع خلقه من جميع الوجوه ، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم ، { ذُو الرَّحْمَةِ } أي : وهو مع ذلك رحيم بهم رؤوف ، كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ البقرة : 143 ] .

{ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أي : إذا خالفتم أمره { وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ } أي : قوما آخرين ، أي : يعملون بطاعته{[11241]} ، { كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } أي : هو قادر على ذلك ، سهل عليه ، يسير لديه ، كما أذهب القرون الأوَل وأتى بالذي بعدها{[11242]} كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والإتيان بآخرين ، كما قال تعالى : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا } [ النساء : 133 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [ فاطر : 15 - 17 ] ، وقال تعالى : { وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [ محمد : 38 ] .

وقال محمد بن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة قال : سمعت أبان بن عثمان يقول في هذه الآية : { كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } الذرية : الأصل ، والذرية : النسل .


[11240]:زيادة من م، أ.
[11241]:في م: "بطاعة الله".
[11242]:في أ: "بعده".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَرَبُّكَ ٱلۡغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۚ إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ وَيَسۡتَخۡلِفۡ مِنۢ بَعۡدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوۡمٍ ءَاخَرِينَ} (133)

{ وربك الغني } عن العباد والعبادة . { ذو الرحمة } يترحم عليهم بالتكليف تكميلا لهم ويمهلهم على المعاصي ، وفيه تنبيه على أن ما سبق ذكره من الإرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد وتأسيس لما بعده وهو قوله : { إن يشأ يذهبكم } أي ما به إليكم حاجة { إن يشأ يذهبكم } أيها العصاة . { ويستخلف من بعدكم ما يشاء } من الخلق . { كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين } أي قرن بعد قرن لكنه أنبأكم ترحم عليكم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَرَبُّكَ ٱلۡغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۚ إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ وَيَسۡتَخۡلِفۡ مِنۢ بَعۡدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوۡمٍ ءَاخَرِينَ} (133)

{ وَرَبُّكَ الغنى ذُو الرحمة } .

عُطفْت جملة : { وربك الغني } على جملة : { وما ربُّك بغافل عمّا يعملون } [ الأنعام : 132 ] إخباراً عن علمه ورحمته على الخبر عن عمله ، وفي كلتا الجملتين وعيد ووعد ، وفي الجملة الثّانية كناية عن غناه تعالى عن إيمان المشركين وموالاتهم كما في قوله : { إن تكفروا فإنّ الله غنيّ عنكم } [ الزمر : 7 ] ، وكناية عن رحمته إذْ أمهل المشركين ولم يعجّل لهم العذاب ، كما قال : { وربُّك الغفور ذو الرّحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجّل لهم العذاب } في سورة الكهف ( 58 ) .

وقوله : { وربك } إظهار ، في مقام الإضمار ، ومقتضى الظاهر أن يقال : وهو الغنيّ ذو الرّحمة ، فخولف مقتضى الظاهر لما في اسم الربّ من دلالة على العناية بصلاح المربوب ، ولتكون الجملة مستقلّة بنفسها فتسير مسرى الأمثال والحِكَم ، وللتنويه بشأن النبي صلى الله عليه وسلم .

والغنيّ : هو الّذي لا يحتاج إلى غيره ، والغنيّ الحقيقي هو الله تعالى لأنَّه لا يحتاج إلى غيره بحال ، وقد قال علماء الكلام : إنّ صفة الغِنَى الثّابتة لله تعالى يَشمل معناها وجوب الوجود ، لأنّ افتقار الممكن إلى الموجد المختارِ ، الّذي يرجح طَرف وجوده على طرف عدمه ، هو أشدّ الافتقار ، وأحسب أنّ معنى الغِنى لا يثبت في اللّغة للشّيء إلاّ باعتبار أنّه موجود فلا يشمل معْنى الغنى صفة الوجود في متعارف اللّغة . إلاّ أن يكون ذلك اصطلاحاً للمتكلّمين خاصّاً بمعنى الغِنى المطلق . وممّا يدلّ على ما قُلتهُ أنّ من أسمائه تعالى المغني ، ولم يُعتبر في معناه أنَّه موجد الموجودات . وتقدّم الكلام على معنى الغنيّ عند قوله تعالى : { إن يكن غنياً أو فقيراً } في سورة النّساء ( 135 ) .

وتعريف المسند باللاّم مقتض تخصيصه بالمسند إليه ، أي قصر الغنى على الله ، وهو قصرٌ ادّعائي باعتبار أنّ غنى غير الله تعالى لمّا كان غنى ناقصاً نُزّل منزلة العدم ، أي ربّك الغنيّ لا غيره ، وغناه تعالى حقيقي . وذكر وصف الغنيّ هنا تمهيد للحكم الوارد عقبه ، وهو : { إن يشأ يذهبكم } فهو من تقديم الدّليل بين يدي الدّعوى ، تذكيراً بتقريب حصول الجزم بالدّعوى .

و { ذو الرحمة } خبر ثان . وعدل عن أن يوصف بوصف الرّحيم إلى وصفه بأنّه : { ذو الرحمة } : لأنّ الغنيّ وصف ذاتي لله لا ينتفع الخلائق إلاّ بلوازم ذلك الوصف ، وهي جوده عليهم ، لأنَّه لا ينقص شيئاً من غناه ، بخلاف صفة الرّحمة فإنّ تعلّقها ينفع الخلائق ، فأوثرت بكلمة { ذو } لأنّ { ذو } كلمة يتوصّل بها إلى الوصف بالأجناس ، ومعناها صاحب ، وهي تشعر بقوّة أو وفرة ما تضاف إليه ، فلا يقال ذو إنصاف إلاّ لمن كان قوي الإنصاف ، ولا يقال ذُو مال لمن عنده مال قليل ، والمقصُود من الوصف بذي الرّحمة ، هنا تمهيد لمعنى الإمهال الّذي في قوله : { إن يشأ يذهبكم } ، أي فلا يقولنّ أحد لماذا لم يُذهب هؤلاء المكذّبين ، أي أنَّه لرحمته أمهلهم إعذاراً لهم .

{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ } .

استئناف لتهديد المشركين الّذين كانوا يكذّبون الإنذار بعذاب الإهلاك ، فيقولون : { متى هذا الفتح إن كنتم صادقين } [ السجدة : 28 ] وذلك ما يؤذن به قوله عقبه : { إنَّ مَا توعدون لآتٍ وما أنتم بمعجزين } [ الأنعام : 134 ] .

فالخطاب يجوز أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود منه التعريض بمن يغفل عن ذلك من المشركين ، ويجوز أن يكون إقبالاً على خطاب المشركين فيكون تهديداً صريحاً .

والمعنى : إن يشأ الله يعجّل بإفنائكم ويستخلفْ من بعدكم من يشاءُ ممّن يؤمن به كما قال : { وإن تَتَوَلَّوْا يستبدِلْ قوما غيرَكم ثمّ لا يَكونوا أمثالكم } [ محمد : 38 ] أي فما إمهاله إيَّاكم إلاّ لأنَّه الغنيّ ذو الرّحمة . وجملة الشّرط وجوابه خبرٌ ثالث عن المبتدأ . ومفعول : { يشأ } محذوف على طريقته المألوفة في حذف مفعول المشيئة .

والإذهاب مجاز في الإعدام كقوله : { وإنَّا على ذهاب به لقادرون } [ المؤمنون : 18 ] .

والاستخلاف : جعل الخَلف عن الشّيء ، والخَلَف : العوض عن شيء فائت ، فالسّين والتّاء فيه للتّأكيد ، و { مَا } موصولة عامّة ، أي : ما يشاء من مؤمنين أو كافرين على ما تقتضيه حكمته ، وهذا تعريض بالاستئصال لأنّ ظاهر الضّمير يفيد العموم .

والتّشبيه في قوله : { كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين } تشبيه في إنشاء موجودات بعد موجودات أخرى ، لا في كون المنشَئات مُخرجة من بقايا المعدومات ، ويجوز أن يكون التّشبيه في إنشاء موجودات من بقايا معدومات كما أنشأ البشر نشأة ثانية من ذرّية من أنجاهم الله في السّفينة مع نوح عليه السّلام ، فيكون الكلام تعريضاً بإهلاك المشركين ونجاة المؤمنين من العذاب .

وكاف التّشبيه في محلّ نصب نيابة عن المفعول المطلق ، لأنَّها وصف لمحذوف تقديره : استخلافاً كما أنشأكم ، فإنّ الإنشاء يصف كيفية الاستخلاف . و { مِنْ } ابتدائية ، ومعنى الذرّية واشتقاقها تقدّم عند قوله تعالى : { قال ومن ذريتي } في سورة البقرة ( 124 ) .

ووصف قوم } ب { آخرين } للدّلالة على المغايرة ، أي قوم ليسوا من قبائل العرب ، وذلك تنبيه على عظيم قدرة الله تعالى أن ينشيء أقواماً من أقوام يخالفونهم في اللّغة والعوائد والمواطن ، وهذا كناية عن تباعد العصور ، وتسلسل المنشآت لأنّ الاختلاف بين الأصول والفروع لا يحدث إلاّ في أزمنة بعيدة ، فشتّان بين أحوال قوم نوح وبين أحوال العرب المخاطَبين ، وبين ذلك قرون مختلفة متباعدة .