تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلۡمَوۡتَ إِلَّا ٱلۡمَوۡتَةَ ٱلۡأُولَىٰۖ وَوَقَىٰهُمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ} (56)

{ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى } أي : ليس فيها موت بالكلية ، ولو كان فيها موت يستثنى لم يستثن الموتة الأولى التي هي الموتة في الدنيا فتم لهم كل محبوب مطلوب ، { وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ }

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلۡمَوۡتَ إِلَّا ٱلۡمَوۡتَةَ ٱلۡأُولَىٰۖ وَوَقَىٰهُمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ} (56)

وقوله : { لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى } هذا استثناء يؤكد النفي ، فإنه استثناء منقطع ومعناه : أنهم لا يذوقون فيها الموت أبدًا ، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يؤتى بالموت في صورة كبش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار ثم يذبح ، ثم يقال : يا أهل الجنة خلود فلا{[26286]} موت ، ويا أهل النار خلود فلا{[26287]} موت " وقد تقدم الحديث في سورة مريم{[26288]} .

وقال عبد الرزاق : حدثنا سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي مسلم الأغر ، عن أبي سعيد وأبي هريرة ، رضي الله عنهما ، قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقال لأهل الجنة : إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا ، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدًا ، وإن لكم أن تنعموا فلا تَبْأسوا أبدًا ، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا " . رواه مسلم عن إسحاق بن راهويه وعبد بن حميد ، كلاهما عن عبد الرزاق به{[26289]} .

هكذا يقول أبو إسحاق وأهل العراق " أبو مسلم الأغر " ، وأهل المدينة يقولون : " أبو عبد الله الأغر " {[26290]} .

وقال أبو بكر بن أبي داود السجستاني : حدثنا أحمد بن حفص ، عن أبيه ، عن إبراهيم بن طَهْمَان ، عن الحجاج - هو ابن حجاج{[26291]} - عن عبادة{[26292]} ، عن عبيد الله بن عمرو ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من اتقى الله دخل الجنة ، ينعم فيها ولا يبأس ، ويحيا فيها فلا يموت ، لا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه " {[26293]} .

وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن يحيى ، حدثنا عمرو بن محمد الناقد ، حدثنا سليمان بن عبيد الله الرقي ، حدثنا مصعب بن إبراهيم ، حدثنا عمران بن الربيع الكوفي ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر ، رضي الله عنه ، قال : سُئل نبي الله صلى الله عليه وسلم : أينام أهل الجنة ؟ فقال : " النوم أخو الموت ، وأهل الجنة لا ينامون " {[26294]} .

وهكذا رواه أبو بكر بن مُرْدَويه في تفسيره : حدثنا أحمد بن القاسم بن صدقة المصري ، حدثنا المقدام بن داود ، حدثنا عبد الله بن المغيرة ، حدثنا سفيان الثوري ، عن محمد بن الْمنكَدِر ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " النوم أخو الموت ، وأهل الجنة لا ينامون " {[26295]} .

وقال أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا الفضل بن يعقوب ، حدثنا محمد بن يوسف الفِريابي ، عن سفيان ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر قال : قيل : يا رسول الله ، هل ينام أهل الجنة ؟ قال : " لا النوم أخو الموت " ثم قال : " لا نعلم أحدًا أسنده عن ابن المنكدر ، عن جابر إلا الثوري ، ولا عن الثوري ، إلا الفريابي " {[26296]} هكذا قال ، وقد تقدم خلاف ذلك ، والله أعلم .

وقوله : { وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } أي : مع هذا النعيم العظيم المقيم قد وقاهم ، وسلمهم ونجاهم وزحزحهم من{[26297]} العذاب الأليم في دركات الجحيم ، فحصل لهم المطلوب ، ونجاهم من المرهوب ؛ ولهذا قال : { فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }


[26286]:- (8) في أ: "بلا".
[26287]:- (9) في أ: "بلا".
[26288]:- (10) انظر: تخريج الحديث عند الآية: 39 من سورة مريم.
[26289]:- (1) صحيح مسلم برقم (2837).
[26290]:- (2) والأول هو الصواب كما بين ذلك الإمام المزي في تهذيب الكمال.
[26291]:- (3) في أ: "الحجاج".
[26292]:- (4) في م، أ: "قتادة".
[26293]:- (5) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4895) "مجمع البحرين" من طريق أحمد بن حفص به.
[26294]:- (6) المعجم الأوسط برقم (4875) "مجمع البحرين" وفي إسناده مصعب بن إبراهيم العبسي، منكر الحديث.
[26295]:- (7) ورواه أبو نعيم في الحلية (7/90) من طريق أحمد بن القاسم عن المقدام بن داود به، وقال: "غريب من حديث الثوري، تفرد به عبد الله".
[26296]:- (8) مسند البزار برقم (3517) "كشف الأستار" قال الهيثمي في المجمع (10/415): "رجال البزار رجال الصحيح".
[26297]:- (9) في ت: "عن".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلۡمَوۡتَ إِلَّا ٱلۡمَوۡتَةَ ٱلۡأُولَىٰۖ وَوَقَىٰهُمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ} (56)

وقوله : لا يَذُوقُونَ فِيها المَوْتَ إلاّ المَوْتَةَ الأُولى . يقول تعالى ذكره : لا يذوق هؤلاء المتقون في الجنة الموت بعد الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا .

وكان بعض أهل العربية يوجه «إلاّ » في هذا الموضع إلى أنها في معنى سوى ، ويقول : معنى الكلام : لا يذوقون فيها الموت سوى الموتة الأولى ، ويمثله بقوله تعالى ذكره : وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَف بمعنى : سوى ما قد فعل آباؤكم ، وليس للذي قال من ذلك عندي وجه مفهوم ، لأن الأغلب من قول القائل : لا أذوق اليوم الطعام إلا الطعام الذي ذقته قبل اليوم أنه يريد الخبر عن قائله أن عنده طعاما في ذلك اليوم ذائقه وطاعمه دون سائر الأطعمة غيره . وإذا كان ذلك الأغلب من معناه وجب أن يكون قد أثبت بقوله : إلاّ المَوْتَةَ الأُولى موتة من نوع الأولى هم ذائقوها ، ومعلوم أن ذلك ليس كذلك ، لأن الله عزّ وجلّ قد أمن أهل الجنة في الجنة إذا هم دخلوها من الموت ، ولكن ذلك كما وصفت من معناه . وإنما جاز أن توضع «إلا » في موضع «بعد » لتقارب معنييهما في هذا الموضع وذلك أن القائل إذا قال : لا أكلم اليوم رجلاً إلا رجلاً عند عمرو قد أوجب على نفسه أن لا يكلم ذلك اليوم رجلاً بعد كلام الرجل الذي عند عمرو . وكذلك إذا قال : لا أكلم اليوم رجلاً بعد رجل عند عمرو ، قد أوجب على نفسه أن لا يكلم ذلك اليوم رجلاً إلا رجلاً عند عمرو ، فبعد ، وإلا : متقاربتا المعنى في هذا الموضع . ومن شأن العرب أن تضع الكلمة مكان غيرها إذا تقارب معنياهما ، وذلك كوضعهم الرجاء مكان الخوف لما في معنى الرجاء من الخوف ، لأن الرجاء ليس بيقين ، وإنما هو طمع ، وقد يصدق ويكذب كما الخوف يصدق أحيانا ويكذب ، فقال في ذلك أبو ذُؤَيْب :

إذا لَسَعَتْهُ الدّبْرُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَها *** وَخالَفَها فِي بَيْتِ نُوبٍ عَوَامِلُ

فقال : لم يرج لسعها ، ومعناه في ذلك : لم يخف لسعها ، وكوضعهم الظنّ موضع العلم الذي لم يدرك من قِبل العيان ، وإنما أدرك استدلالاً أو خبرا ، كما قال الشاعر :

فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنّوا بألْفَيْ مُدَجّجٍ *** سَرَاتُهُمُ في الفارِسِيّ المُسَرّدِ

بمعنى : أيقنوا بألفي مدجّج واعلموا ، فوضع الظنّ موضع اليقين ، إذ لم يكن المقول لهم ذلك قد عاينوا ألفي مدجج ، ولا رأوهم ، وإن ما أخبرهم به هذا المخبر ، فقال لهم ظنوا العلم بما لم يعاين من فعل القلب ، فوضع أحدهما موضع الاخر لتقارب معنييهما في نظائر لما ذكرت يكثر إحصاؤها ، كما يتقارب معنى الكلمتين في بعض المعاني ، وهما مختلفتا المعنى في أشياء أخر ، فتضع العرب إحداهما مكان صاحبتها في الموضع الذي يتقارب معنياهما فيه ، فكذلك قوله : لا يَذُوقُون فِيها المَوْتَ إلاّ المَوْتَةَ الأُولى وضعت «إلا » في موضع «بعد » لما نصف من تقارب معنى «إلا » ، و«بعد » في هذا الموضع ، وكذلك : وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النّساءِ إلاّ ما قَدْ سَلَفَ ، إنما معناه : بعد الذي سلف منكم في الجاهلية ، فأما إذا وجهت «إلا » في هذا الموضع إلى معنى سوى ، فإنما هو ترجمة عن المكان ، وبيان عنها بما هو أشدّ التباسا على من أراد علم معناها منها .

/د56

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلۡمَوۡتَ إِلَّا ٱلۡمَوۡتَةَ ٱلۡأُولَىٰۖ وَوَقَىٰهُمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ} (56)

{ لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى }

وجملة { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } حال أخرى . وهذه بشارة بخلود النعمة لأن الموت يقطع ما كان في الحياة من النعيم لأصحاب النعيم كما كان الإعلام بأن أهل الشرك لا يموتون نذارة بدوام العذاب .

والاستثناء في قوله : { إلا الموتة الأولى } من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لزيادة تحقيق انتفاء ذوق الموت عن أهل الجنة فكأنه قيل لا يذوقون الموت البتة وقرينة ذلك وصفها ب { الأولى } .

والمراد ب { الأولى } السالفة ، كما تقدم آنفاً في قوله : { إن هي إلا موتتنا الأولى } [ الدخان : 35 ] .

{ الاولى ووقاهم عَذَابَ } { الجحيم * فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم } .

{ ووقاهم عذاب الجحيم }

عطف على { وزوجناهم بحور عين } وهذا تذكير بنعمة السلامة مما ارتبك فيه غيرهم . وذلك مما يحمد الله عليه كما ورد أن من آداب من يرى غيره في شدة أو بأس أن يقول : الحمد لله الذي عافاني مما هو فيه . وضمير { وقاهم } عائد إلى ضمير المتكلم في { وزوجناهم } على طريقة الالتفات .