الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلۡمَوۡتَ إِلَّا ٱلۡمَوۡتَةَ ٱلۡأُولَىٰۖ وَوَقَىٰهُمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ} (56)

قوله تعالى : " لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى " أي لا يذوقون فيها الموت البتة ؛ لأنهم خالدون فيها . ثم قال : " إلا الموتة الأولى " على الاستثناء المنقطع ، أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا . وأنشد سيبويه :

من كان أسرعَ في تفرُّق فالج *** فلَبُونُه جَرِبَتْ معًا وأغدَّتِ{[13766]}

ثم استثنى بما ليس من الأول فقال :

إلا كناشرةَ الذي ضيعتُمُ *** كالغصن في غُلَوائه المتنبِّتِ

وقيل : إن " إلا " بمعنى بعد ، كقولك : ما كلمت رجلا اليوم إلا رجلا عندك ، أي بعد رجل عندك . وقيل : " إلا " بمعنى سوى ، أي سوى الموتة التي ماتوها في الدنيا ، كقوله تعالى : " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " {[13767]} [ النساء : 22 ] . وهو كما تقول : ما ذقت اليوم طعاما سوى ما أكلت أمس . وقال القتبي : " إلا الموتة الأولى " معناه أن المؤمن إذا أشرف على الموت استقبلته ملائكة الرحمة ويلقى الروح والريحان ، وكان موته في الجنة لاتصافه بأسبابها ، فهو استثناء صحيح . والموت عرض لا يذاق ، ولكن جعل كالطعام الذي يكره ذوقه ، فاستعير فيه لفظ الذوق .


[13766]:في كتاب سيبويه: * من كان أشرك* والقائل هو عنز بن دجاجة المازني. وفالج هذا: هو فالج بن مازن بن مالك. سعى عليه بعض بني مازن وأساء إليه حتى رحل عنهم، ولحق ببني ذكوان بن بهثة فنسب إليهم. وكانت بنو مازن قد ضيقوا على رجل منهم يسمى "ناشرة" حتى انتقل عنهم إلى بني أسد، فدعا هذا الشاعر المازني على بني مازن حيث اضطروه فألجىء إلى الخروج عنهم. واستثنى "ناشرة" منهم؛ لأنه لم يرض فعلهم، ولأنه قد امتحن محنة "فالج" بهم. واللبون: ذوات اللبن، وتقع للواحد والجماعة. ومعنى "أغدت" صارت فيها الغدة، وهي من أدواء الإبل كالذبحة. والغلواء: النماء والارتفاع. والمتنبت: المنمى والمغذى. ويروى بكسر الباء، ومعناه النابت النامي. (عن شرح الشواهد).
[13767]:آية 22 سورة النساء.