مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلۡمَوۡتَ إِلَّا ٱلۡمَوۡتَةَ ٱلۡأُولَىٰۖ وَوَقَىٰهُمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ} (56)

ولما وصف الله تعالى أنواع ما هم فيه من الخيرات والراحات ، بين أن حياتهم دائمة ، فقال : { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } وفيه سؤالان :

السؤال الأول : أنهم ما ذاقوا الموتة الأولى في الجنة فكيف حسن هذا الاستثناء ؟ وأجيب عنه من وجوه ( الأول ) قال صاحب «الكشاف » أريد أن يقال : لا يذوقون فيها الموت البتة فوضع قوله { إلا الموتة الأولى } موضع ذلك لأن الموتة الماضية محال في المستقبل ، فهو من باب التعليق بالمحال ، كأنه قيل إن كانت الموتة الأولى يمكن ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها ( الثاني ) أن إلا بمعنى لكن والتقدير لا يذوقون فيها الموت لكن الموتة الأولى قد ذاقوها ( والثالث ) أن الجنة حقيقتها ابتهاج النفس وفرحها بمعرفة الله تعالى وبطاعته ومحبته ، وإذا كان الأمر كذلك فإن الإنسان الذي فاز بهذه السعادة فهو في الدنيا في الجنة وفي الآخرة أيضا في الجنة ، وإذا كان الأمر كذلك فقد وقعت الموتة الأولى حين كان الإنسان في الجنة الحقيقية التي هي جنة المعرفة بالله والمحبة ، فذكر هذا الاستثناء كالتنبيه على قولنا إن الجنة الحقيقية هي حصول هذه الحالة لا الدار التي هي دار الأكل والشرب ، ولهذا السبب قال عليه السلام : «أنبياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار » ( والرابع ) أن من جرب شيئا ووقف عليه صح أن يقال إنه ذاقه ، وإذا صح أن يسمى العلم بالذوق صح أن يسمى تذكره أيضا بالذوق فقوله { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } يعني إلا الذوق الحاصل بسبب تذكر الموتة الأولى .

السؤال الثاني : أليس أن أهل النار أيضا لا يموتون فلم بشر أهل الجنة بهذا مع أهل النار يشاركونهم فيه ؟ والجواب : أن البشارة ما وقعت بدوام الحياة مع سابقة حصول تلك الخيرات والسعادات فظهر الفرق .

ثم قال تعالى : { ووقاهم عذاب الجحيم } قرئ ووقاهم بالتشديد ، فإن قالوا مقتضى الدليل أن يكون ذكر الوقاية عن عذاب الجحيم متقدما على ذكر الفوز بالجنة لأن الذي وقى عن عذاب الجحيم قد يفوز وقد لا يفوز ، فإذا ذكر بعده أنه فاز بالجنة حصلت الفائدة ، أما الذي فاز بخيرات الجنة فقد تخلص عن عقاب الله لا محالة فلم يكن ذكر الفوز عن عذاب جهنم بعد الفوز بثواب الجنة مفيدا ، قلنا التقدير كأنه تعالى قال : ووقاهم في أول الأمر عن عذاب الجحيم .