اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلۡمَوۡتَ إِلَّا ٱلۡمَوۡتَةَ ٱلۡأُولَىٰۖ وَوَقَىٰهُمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ} (56)

قوله : «لاَ يَذُوقُونَ » يجوز أن يكون حالاً من الضمير في «آمِنِينَ » وأن يكون حالاً ثالثةً أو ثانيةً من مفعول «وزَوَّجْنَاهُمْ »{[50459]} ، و«آمِنينَ » حال من فاعل «يَدْعُونَ » كما تقدم ، أو صفة «لآمِنينَ » أو مستأنف{[50460]} . وقرأ عَمرُو بنُ عُبَيْد : لاَ يُذَاقُونَ مبنياً للمفعول{[50461]} .

قوله : «إلاَّ المَوْتَة الأُوْلَى » فيه أوجه :

أحدها : أنه استثناء{[50462]} منقطع ، أي لكن المَوْتَةَ الأُولى ، قَدْ ذَاقُوهَا .

الثاني : أنه متصل ، وتأولوه بأن المؤمن عند موته في الدنيا يُرَى منزلته في الجنة لمعاينة ما يُعْطَاه منها أو لما يتيقنه من نعيمها{[50463]} .

الثالث : أن «إلاَّ » بمعنى سوى . نقله الطبري{[50464]} وضَعَّفَهُ .

قال ابن عطية : وليس تضعيفه بصحيح ، بل هو كونها بمعنى سوى مستقيم متسق{[50465]} .

الرابع : أن «إلاّ » بمعنى «بَعْدَ » ، واختاره الطبري{[50466]} . وأباهُ الجمهور ، لأن إلاَّ بمعنى بَعْدَ لم يَثْبتُ .

وقال الزمخشري : فَإِن قلتَ : كيف استثنيت الموتةَ الأولى المَذُوقَةَ قبل دخول الجنة من الموت المنفي ذوقه منها ؟{[50467]}

قُلْتُ : أريدَ أن يُقَالَ : لا يذقون فيها الموت البتة ، فوضع قوله : { إِلاَّ الموتة الأولى } موضع «ذَلِكَ » ، لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل : إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذَوْقُهَا في المستقبل ؛ فإنهم يذُوقُونَها في الجنَّة{[50468]} .

قال شهاب الدين : وهذا عند علماء البيان يسمى نَفي الشيء بدليله ومثله قول النَّابغة :

4432 وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ *** بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الكَتائِبِ{[50469]}

يعني إن كان أحد يعد{[50470]} {[50471]} فُلُول السيوف من قراع الكتائب عيباً ، فهذا عيبهم لكن عَدّهُ من العيوب محال فانتفى عنه العيب بدليل تعليق الأمر على المُحَال{[50472]} .

وقال ابن عطية بعد ما حكاه عن الطبري : فتبين أنه نفى عنهم ذَوْقَ الموت ، وأنه لا ينالهم من ذلك غير ما تقدم في الدنيا{[50473]} . يعني أنه كلامٌ محمول على مَعْنَاه .

وقال ابن الخطيب : إن من جرب شيئاً ووقف عليه وصح أن يقال : إنه ذَاَقَهُ ، وإذا صح أن يسمى ذَلِكَ العلمُ بالذوق صح أن يسمى تذكره أيضاً بالذوق .

فقوله : { لا يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى } يعني الذَّوْقَ الحاصِلَ بسبب تذكر الموتة الأولى{[50474]} .

فإن قيل : أليس أنَّ أهل النار لا يذوقون الموت فلم بَشَّرَ أهل الجنة بهذا مع أن أهل النار يشاركونهم فيه ؟

فالجواب : أن البشارةَ ما وقعت بدوام الحياة ، ( بل{[50475]} بدوام الحياة ) مع سابقة حصول تلك الخيرات والساعات{[50476]} فافترقا .

قوله : «وَوَقَاهُمْ » الجمهور على التخفيف ، وقرأ أَبو حَيْوَةَ وَوَقَّاهُمْ{[50477]} بالتشديد على المبالغة ولا تكون للتعدية فإنه متعدٍّ إلى اثنيْنِ .


[50459]:التبيان 1147 و1146 والدر المصون 4/821.
[50460]:السابق.
[50461]:في الكشاف والبحر المحيط عبيد بن عمير كما مضى تصحيحه قبل. انظر الكشاف 3/507 والبحر 8/40.
[50462]:واختاره مكي في المشكل 2/292 واختاره الفراء بمعنى "سوى" وانظر معاني الفراء 3/44 والبيان 2/362.
[50463]:التبيان 1149.
[50464]:في ب الطبراني والأصح أنه الطبري وانظر جامع البيان 25/82 و83.
[50465]:كذا في النسختين منتسق، وفي الدر المصون الذي نقل المؤلف عنه "متسق" وكلاهما صحيحان انظر البحر المحيط 8/40، والدر المصون 4/821.
[50466]:جامع البيان المرجع السابق.
[50467]:في ب فيها.
[50468]:الكشاف 3/507.
[50469]:الكشاف 3/507 بالمعنى وباللفظ من الدر المصون 4/821.
[50470]:له من بحر الطويل وهو مشهور عند أهل البلاغة بتأكيد المدح بما يشبه الذم وقد شرحه أعلى مما لا يحتاج إلى شرح، انظر ديوانه 44، والإيضاح للقزويني 266، والدر المصون 4/821، ومعاهد التنصيص 2/31، والهمع 1/232.
[50471]:في ب يعدل وهو تحريف.
[50472]:الدر المصون 4/821.
[50473]:البحر المحيط 8/40.
[50474]:الرازي 27/254.
[50475]:سقط من ب بسبب انتقال النظر.
[50476]:في ب والرازي: السعادات وهو الأصح انظر تفسير الرازي 27/254.
[50477]:من القراءات الشاذة انظر مختصر ابن خالويه 137، وانظرها بدون عزو في الكشاف 2/507.