الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلۡمَوۡتَ إِلَّا ٱلۡمَوۡتَةَ ٱلۡأُولَىٰۖ وَوَقَىٰهُمۡ عَذَابَ ٱلۡجَحِيمِ} (56)

قوله : { لاَ يَذُوقُونَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في " آمِنين " ، وأَنْ يكونَ حالاً ثالثةً أو ثانيةً مِنْ مفعولِ " زَوَّجْناهم " و " آمنين " حالٌ مِنْ فاعلِ " يَدْعُون " كما تقدَّمَ ، أو صفةٌ ل " آمِنين " أو مستأنفٌ . وقرأ عمرو بن عبيد " لا يُذاقون " مبنياً للمفعول .

قوله : { إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه منقطعٌ أي : لكنْ الموتةُ الأولى قد ذاقُوها . الثاني : أنه متصلٌ وتَأَوَّلوه : بأنَّ المؤمنَ عند موتِه في الدنيا بمنزلته في الجنة لمعاينة ما يُعْطاه منها ، أو لِما يَتَيَقَّنُه مِنْ نعيمِها . الثالث : أنَّ " إلاَّ " بمعنى سِوى نقله الطبريُّ وضَعَّفَه . قال ابن عطية : " وليس تَضْعيفُه بصحيحٍ ، بل هو كونُها بمعنى سِوى مستقيمٌ مُتَّسِقٌ " . الرابع : أن " إلاَّ " بمعنى بَعْد . واختاره الطبريُّ ، وأباه الجمهورُ ؛ لأنَّ " إلاَّ " بمعنى بعد لم يَثْبُتْ . وقال الزمخشري : " فإنْ قلت : كيف اسْتُثْنِيَتِ الموتةُ الأُولى المَذُوقَةُ قبلَ دخول الجنةِ مِنَ الموتِ المنفيِّ ذَوْقُه ؟ قلت : أُريدَ أَنْ يُقالَ : لا يَذُوقون فيها الموتَ البتةَ ، فوضع قولَه { إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى } مَوْضِعَ ذلك ؛ لأنَّ الموتَةَ الماضيةَ مُحالٌ ذَوْقُها في المستقبل فهو من بابِ التعليقِ بالمُحال : كأنَّه قيل : إنْ كانت الموتةُ الاُولى يَسْتقيم ذَوْقُها في المستقبلِ ؛ فإنَّهم يَذْوقونها في الجنة " . قلت : وهذا عند علماءِ البيانِ يُسَمَّى نَفْيَ الشيء بدليلِه . ومثلُه قول النابغةِ :

4022 لا عَيْبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهُمْ *** بهنَّ فُلولٌ مِنْ قِراعِ الكتائبِ

يعني : إنْ كان أحدٌ يَعُدُّ فُلولَ السيوفِ مِنْ قِراع الكتائب عَيْباً فهذا عيبُهم ، لكنَّ عَدَّهُ من العيوبِ مُحالٌ ، فانتفى عنهم العيبُ بدليل تعلُّقِ الأمرِ على مُحال . وقال ابن عطية بعد ما قَدَّمْتُ حكايَته عن الطبريِّ : فَبيَّنَ أنه نَفَى عنهم ذَوْقَ الموتِ ، وأنه لا ينالُهم من ذلك غيرُ ما تقدَّم في الدنيا " . يعني أنه كلامٌ محمولٌ على معناه .

قوله : " ووَقاهم " الجمهورُ على التخفيف . وقرأ أبو حيوةَ " ووقَّاهم " بالتشديد على المبالغة ، ولا يكونُ للتعدية فإنَّه متعدٍّ إلى اثنين قبلَ ذلك .