{ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ } أي : يا هؤلاء المكذبون ، المتجرؤن على المعاصي ، لا تحسبوا أنه مغفول عنكم ، أو معجزون للّه في الأرض ولا في السماء ، فلا تغرنكم قدرتكم وما زينت لكم أنفسكم وخدعتكم ، من النجاة من عذاب الله ، فلستم بمعجزين الله في جميع أقطار العالم .
{ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ } يتولاكم ، فيحصل لكم مصالح دينكم ودنياكم ، { وَلَا نَصِيرٍ } ينصركم ، فيدفع عنكم المكاره .
وأما قوله : وَما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا فِي السّماءِ فإن ابن زيد قال في ذلك ما :
حدثني يونس ، قال : أخبرن ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَما أنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا فِي السّماءِ قال : لا يُعجزه أهل الأرضين في الأرضين ولا أهل السموات في السموات إن عصوه ، وقرأ : مثقالُ ذَرّةٍ في السّموات ولا فِي الأرض ، وَلا أصْغَرُ مِنْ ذلكَ ولا أكْبَرُ إلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ .
وقال في ذلك بعض أهل العربية من أهل البصرة : وما أنتم بمعجزين من في الأرض ولا من في السماء مُعْجِزِينَ قال : وهو من غامض العربية للضمير الذي لم يظهر في الثاني . قال : ومثله قول حسان بن ثابت :
أمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللّهِ مِنْكُمْ *** ويَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ ؟
أراد : ومن ينصره ويمدحه ، فأضمر «مَنْ » . قال : وقد يقع في وهم السامع أن النصر والمدح لمَنْ هذه الظاهرة ومثله في الكلام : أكرمْ من أتاك وأتى أباك ، وأكرم من أتاك ولم يأت زيدا . تريد : ومن لم يأت زيدا ، فيكتفي باختلاف الأفعال من إعادة مَنْ ، كأنه قال : أمَن يهجو ، ومن يمدحه ، ومن ينصره . ومنه قول الله عزّ وجلّ : وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باللّيْل وَسارِبٌ بالنّهارِ وهذا القول أصحّ عندي في المعنى من القول الاَخر ، ولو قال قائل : معناه : ولا أنتم بمعجزين في الأرض ، ولا أنتم لو كنتم في السماء بمعجزين كان مذهبا .
وقوله : وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ وَليّ وَلا نَصِيرٍ يقول : وما كان لكم أيها الناس من دون الله من وليّ يلي أموركم ، ولا نصير ينصركم من الله إن أراد بكم سوءا ولا يمنعكم منه إن أحلّ بكم عقوبتَه .
ثم أخبر أن إليه المنقلب وأن البشر ليس بمعجز ولا مفلت { في الأرض ولا في السماء } ، ويحتمل أن يريد ب { السماء } الهواء علواً أي ليس للإنسان حيلة صعد أو نزل حكى نحوه الزهراوي ويحتمل أن يريد { السماء } المعروفة أي لستم { بمعجزين في الأرض ولا } ولو كنتم { في السماء } ، وقال ابن زيد معناه ولا من في السماء معجز إن عصى ونظروه على هذا بقول حسان بن ثابت : [ الوافر ]
أمن يهجو رسول الله منا . . . ويمدحه وينصره سواء{[9233]}
ولو كنت في جب ثمانين قامة . . . ولقيت أسباب السماء بسلم
ليعتورنك القول حتى تهزه . . . وتعلم أني لست عنك بمحرم{[9234]}
عطف على جملة { وإليه تقلبون } [ العنكبوت : 21 ] باعتبار ما تضمنته من الوعيد .
والمعجز حقيقته : هو الذي يجعل غيره عاجزاً عن فعل ما ، وهو هنا مجاز في الغلبة والانفلات من المكنة ، وقد تقدم عند قوله تعالى { إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين } في سورة [ الأنعام : 134 ] .
فالمعنى : وما أنتم بمُفْلَتين من العذاب . ومفعول ( معجزين ) محذوف للعلم به ، أي بمعجزين الله .
ويتعلق قوله { في الأرض } { بمعجزين } ، أي ليس لكم انفلات في الأرض ، أي لا تجدون موئلاً ينجيكم من قدرتنا عليكم في مكان من الأرض سهلها وجبلها ، وبدْوِها وحضرها .
وعطف { ولا في السماء } على { في الأرض } احتراس وتأييس من الطمع في النجاة وإن كانوا لا مطمع لهم في الالتحاق بالسماء . وهذا كقول الأعشى :
فلو كنتَ في جبّ ثمانين قامة *** ورُقِّيت أسبابَ السماء بسلّم
ومنه قوله تعالى { لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } [ سبأ : 22 ] ، ولم تقع مثل هذه الزيادة في آية سورة [ الشورى : 30 ، 31 ] { ويعفو عن كثير وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } لأن تلك الآية جمعت خطاباً للمسلمين والمشركين بقوله { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } [ الشورى : 30 ] إذ العفو عن المسلمين . وما هنا من المبالغة المفروضة وهي من المبالغة المقبولة كما في قول أبي بن سُلْمي الضبي :
ولو طار ذو حافر قبلها *** لطارت ولكنه لم يطر
وهي أظهر في قوله تعالى { يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا } [ الرحمن : 33 ] . وفي هذه إشارة إلى إبطال اغترارهم بتأخير الوعيد الذي تُوعدوه في الدنيا .
ولما آيسهم من الانفلات بأنفسهم في جميع الأمكنة أعقبه بتأييسهم من الانفلات من الوعيد بسعي غيرهم لهم من أولياء يتوسطون في دفع العذاب عنهم بنحو السعاية أو الشفاعة ، أو من نصراء يدافعون عنهم بالمغالبة والقوة .