وقوله : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ } أي : الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء حتى صار خَضرًا نَضرًا ذا ثمر ويَنْع ، ثم أعاده إلى أن صار حطبًا يابسًا ، توقد به النار ، كذلك هو فعال لما يشاء ، قادر على ما يريد لا يمنعه شيء .
قال قتادة في قوله : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ } يقول : الذي أخرج هذه النار من هذا الشجر قادر على أن يبعثه .
وقيل : المراد بذلك سَرْح المرخ والعَفَار ، ينبت في أرض الحجاز فيأتي من أراد قَدْح نار وليس معه زناد ، فيأخذ منه عودين أخضرين ، ويقدح{[24885]} أحدهما بالآخر ، فتتولد النار من بينهما ، كالزناد سواء . روي هذا عن ابن عباس ، رضي الله عنهما {[24886]} . وفي المثل : {[24887]} لكل شجر نار ، واستمجد المَرْخُ والعَفَار . {[24888]} وقال الحكماء : في كل شجر نار إلا الغاب . {[24889]}
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِي جَعَلَ لَكُم مّنَ الشّجَرِ الأخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَذِي خَلَقَ السّمَاواتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىَ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىَ وَهُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ } .
يقول تعالى ذكره : قل يحييها الذي أنشأها أوّل مرّة الّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشّجَرِ الأخْضَر نارا يقول : الذي أخرج لكم من الشجر الأخضر نارا تُحْرق الشجر ، لا يمتنع عليه فعل ما أراد ، ولا يعجز عن إحياء العظام التي قد رَمّت ، وإعادتها بشَرا سويا ، وخلقا جديدا ، كما بدأها أوّل مرّة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة الّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشّجَرِ الأخْضَرِ نارا يقول : الذي أخرج هذه النار من هذا الشجر قادر أن يبعثه .
قوله : فإذَا أنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ يقول : فإذا أنتم من الشجر توقدون النار وقال : مِنْهُ والهاء من ذكر الشجر ، ولم يقل : منها ، والشجر جمع شجرة ، لأنه خرج مخرج الثمر والحصَى ، ولو قيل : منها كان صوابا أيضا ، لأن العرب تذكّر مثل هذا وتؤنّثه .
ثم عقب ذلك تعالى بدليل ثالث في إيجاد النار في العود الأخضر المرتوي ماء ، وهذا هو زناد العرب والنار موجودة في كل عود غير أنها في المتخلخل المفتوح المسام أوجد ، وكذلك هو المرخ والعفار{[2]} ، وأعاد الضمير على الشجر مذكراً من حيث راعى اللفظ فجاء كالتمر والحصا وغيره .
بدل من { الذي أنشأها } [ يس : 79 ] بدلاً مطابقاً ، وإنما لم تعطف الصلة على الصلة فيكتفى بالعطف عن إعادة اسم الموصول لأن في إعادة الموصول تأكيداً للأول واهتماماً بالثاني حتى تستشرف نفس السامع لتلقّي ما يرِدُ بعده فيفطن بما في هذا الخلق من الغرابة إذ هو إيجاد الضد وهو نهاية الحرارة من ضده وهو الرطوبة . وهذا هو وجه وصف الشجر بالأخضر إذ ليس المراد من الأخضر اللون وإنما المراد لازمه وهو الرطوبة لأن الشجر أخضر اللون ما دام حياً فإذا جفّ وزالت منه الحياة استحال لونه إلى الغُبرة فصارت الخضرة كناية عن رطوبة النبت وحياته . قال ذو الرمة :
ولما تمنَّتْ تأكل الرِّمَّ لم تَدَعْ *** ذَوابل مما يجمعون ولا خضرا
ووصف الشجر وهو اسم جمع شجرة وهو مؤنث المعنى ب { الأخْضَرِ } بدون تأنيثٍ مراعاة للفظ الموصوف بخلوّه عن علامة تأنيث وهذه لغة أهل نجد ، وأما أهل الحجاز فيقولون : شَجَر خضراء على اعتبار معنى الجمع ، وقد جاء القرآن بهما في قوله : { لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم } [ الواقعة : 5254 ] .
والمراد بالشجر هنا : شجر المَرْخ ( بفتح الميم وسكون الراء ) وشجر العَفَار ( بفتح العين المهملة وفتح الفاء ) فهما شجران يقتدح بأغصانهما يؤخذ غصن من هذا وغصن من الآخر بمقدار المِسواك وهما خضْرَاوَاننِ يقطر منهما الماء فيسحق المَرْخ على العَفار فتنقدح النار ، قيل : يجعل العَفار أعلى والمَرْخ أسفل ، وقيل العكس لأن الجوهري وابن السيد في « المخصص » قالا : العَفار هو الزّند وهو الذكَر والمَرْخ الأنثى وهو الزندة . وقال الزمخشري في « الكشاف » : المَرْخ الذكر والعَفَار الأنثى ، والنار هي سِقط الزَّنْد ، وهو ما يخرج عند الاقتداح مشتعلاً فيوضع تحته شيء قابل للالتهاب من تبن أو ثوب به زيت فتخطف فيه النار .
والمفاجأة المستفادة مِن { فإذا أنتم منه تُوقِدُونَ } دالة على عجيب إلهام الله البشر لاستعمال الاقتداح بالشجر الأخضر واهتدائهم إلى خاصيته .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.