تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَلۡمِزُونَ ٱلۡمُطَّوِّعِينَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فِي ٱلصَّدَقَٰتِ وَٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهۡدَهُمۡ فَيَسۡخَرُونَ مِنۡهُمۡ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنۡهُمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (79)

{ 79 - 80 } { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }

وهذا أيضا من مخازي المنافقين ، فكانوا -قبحهم اللّه- لا يدعون شيئا من أمور الإسلام والمسلمين يرون لهم مقالا ، إلا قالوا وطعنوا بغيا وعدوانا ، فلما حثَّ اللّه ورسوله على الصدقة ، بادر المسلمون إلى ذلك ، وبذلوا من أموالهم كل على حسب حاله ، منهم المكثر ، ومنهم المقل ، فيلمزون المكثر منهم ، بأن قصده بنفقته الرياء والسمعة ، وقالوا للمقل الفقير : إن اللّه غني عن صدقة هذا ، فأنزل اللّه تعالى : { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ } أي : يعيبون ويطعنون { الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } فيقولون : مراءون ، قصدهم الفخر والرياء .

{ و } يلمزون { الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ } فيخرجون ما استطاعوا ويقولون : اللّه غني عن صدقاتهم { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ }

. فقابلهم الله على صنيعهم بأن { سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فإنهم جمعوا في كلامهم هذا بين عدة محاذير .

منها : تتبعهم لأحوال المؤمنين ، وحرصهم على أن يجدوا مقالا يقولونه فيهم ، واللّه يقول : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

ومنها : طعنهم بالمؤمنين لأجل إيمانهم ، كفر باللّه تعالى وبغض للدين .

ومنها : أن اللمز محرم ، بل هو من كبائر الذنوب في أمور الدنيا ، وأما اللمز في أمر الطاعة ، فأقبح وأقبح .

ومنها : أن من أطاع اللّه وتطوع بخصلة من خصال الخير ، فإن الذي ينبغي[ هو ] إعانته ، وتنشيطه على عمله ، وهؤلاء قصدوا تثبيطهم بما قالوا فيهم ، وعابوهم عليه .

ومنها : أن حكمهم على من أنفق مالا كثيرا بأنه مراء ، غلط فاحش ، وحكم على الغيب ، ورجم بالظن ، وأي شر أكبر من هذا ؟ ! !

ومنها : أن قولهم لصاحب الصدقة القليلة : " اللّه غني عن صدقة هذا " كلام مقصوده باطل ، فإن اللّه غني عن صدقة المتصدق بالقليل والكثير ، بل وغني عن أهل السماوات والأرض ، ولكنه تعالى أمر العباد بما هم مفتقرون إليه ، فاللّه -وإن كان غنيا عنهم- فهم فقراء إليه { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } وفي هذا القول من التثبيط عن الخير ما هو ظاهر بين ، ولهذا كان جزاؤهم أن سخر اللّه منهم ، ولهم عذاب أليم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَلۡمِزُونَ ٱلۡمُطَّوِّعِينَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فِي ٱلصَّدَقَٰتِ وَٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهۡدَهُمۡ فَيَسۡخَرُونَ مِنۡهُمۡ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنۡهُمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (79)

وهذه أيضا من صفات المنافقين : لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال ، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم ، إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا : هذا مراء ، وإن جاء بشيء يسير قالوا : إن الله لغني عن صدقة هذا . كما قال البخاري :

حدثنا عبيد الله بن سعيد ، حدثنا أبو النعمان البصري ، حدثنا شعبة ، عن سليمان ، عن أبي وائل ، عن أبي مسعود قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا ، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير ، فقالوا : مرائي . وجاء رجل فتصدق بصاع ، فقالوا : إن الله لغني عن صدقة هذا . فنزلت { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ } الآية .

وقد رواه مسلم أيضا في صحيحه ، من حديث شعبة به{[13699]} وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا الجريري ، عن أبي السليل قال : وقف علينا رجل في

مجلسنا بالبقيع فقال : حدثني أبي - أو : عمي أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقيع ، وهو يقول : " من يتصدق بصدقة أشهد له بها يوم القيامة " ؟ قال : فحللت من عمامتي لوثا أو لوثين ، وأنا أريد أن أتصدق بهما ، فأدركني ما يدرك ابن آدم ، فعقدت على عمامتي . فجاء رجل لم أر بالبقيع رجلا أشد سوادا [ ولا ]{[13700]} أصغر منه ، ولا أدمَّ ببعير{[13701]} ساقه ، لم أر بالبقيع ناقة أحسن منها ، فقال : يا رسول الله ، أصدقة ؟ قال : " نعم " فقال : دونك هذه الناقة . قال : فلمزه رجل فقال : هذا يتصدق بهذه فوالله لهي خير منه . قال : فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " كذبت بل هو خير منك ومنها " ثلاث مرات ، ثم قال : " ويل لأصحاب المئين من الإبل " ثلاثا . قالوا : إلا من يا رسول الله ؟ قال : " إلا من قال بالمال هكذا وهكذا " ، وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله ، ثم قال : " قد أفلح المزهد المجهد " ثلاثا : المزهد في العيش ، المجهد في العبادة{[13702]} وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية ، وقال : جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام ، فقال بعض المنافقين : والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء . وقالوا : إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع{[13703]} وقال العوفي ، عن ابن عباس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الناس يوما فنادى فيهم : أن اجمعوا صدقاتكم . فجمع الناس صدقاتهم ، ثم جاء رجل من آخرهم بصاع من تمر ، فقال : يا رسول الله ، هذا صاع من تمر بت ليلتي أجر بالجرير الماء ، حتى نلت صاعين من تمر ، فأمسكت أحدهما ، وأتيتك بالآخر . فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقات . فسخر منه رجال ، وقالوا : إن الله ورسوله لغنيان عن هذا . وما يصنعان{[13704]} بصاعك من شيء . ثم إن عبد الرحمن بن عوف قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل بقي أحد من أهل الصدقات ؟ فقال " لا " {[13705]} فقال له عبد الرحمن بن عوف : فإن عندي مائة أوقية من ذهب في الصدقات . فقال له عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : أمجنون أنت ؟ قال : ليس بي جنون . قال : فعلت{[13706]} ما فعلت ؟ قال : نعم ، مالي ثمانية آلاف ، أما أربعة آلاف فأقرضها ربي ، وأما أربعة آلاف فلي . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت " . ولمزه المنافقون فقالوا : والله ما أعطى عبد الرحمن عطيته إلا رياء . وهم كاذبون ، إنما كان به متطوعا ، فأنزل الله ، عز وجل ، عذره وعذر صاحبه المسكين الذي جاء بالصاع من التمر ، فقال تعالى في كتابه : { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } الآية .

وكذا روي عن مجاهد ، وغير واحد .

وقال ابن إسحاق : كان المطوعون من المؤمنين في الصدقات : عبد الرحمن بن عوف ، تصدق

بأربعة آلاف درهم ، وعاصم بن عدي أخا بني العجلان ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في الصدقات ، وحض عليها ، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف ، وقام عاصم فتصدق بمائة وسق من تمر ، فلمزوهما وقالوا : ما هذا إلا رياء . وكان الذي تصدق بجهده : أبو عقيل أخو بني أنيف الإراشي حليف بني عمرو بن عوف ، أتى بصاع من تمر فأفرغه في الصدقة ، فتضاحكوا به وقالوا : إن الله لغني عن صاع أبي عَقيل .

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا طالوت بن عباد ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن عمر{[13707]} بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثا " . قال : فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال : يا رسول الله ، عندي أربعة آلاف ، ألفين أقرضهما ربي ، وألفين لعيالي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بارك الله لك فيما أعطيت{[13708]} وبارك لك فيما أمسكت " . وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر ، فقال : يا رسول الله ، أصبت صاعين من تمر : صاع أقرضه{[13709]} لربي ، وصاع لعيالي . قال : فلمزه المنافقون وقالوا : ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياء ! وقالوا : ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا ؟ فأنزل الله : { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ [ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ ] } {[13710]} الآية{[13711]} ثم رواه عن أبي كامل ، عن أبي عوانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه مرسلا{[13712]} قال : ولم يسنده أحد إلا طالوت .

وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا زيد بن الحُبَاب ، عن موسى بن عبيدة ، حدثني خالد بن يسار ، عن ابن أبي عقيل ، عن أبيه قال : بت أجر الجرير على ظهري ، على صاعين من تمر ، فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلغون به ، وجئت بالآخر أتقرب [ به ]{[13713]} إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : " انثره في الصدقة " . قال : فسخر القوم وقالوا : لقد كان الله غنيا عن صدقة هذا المسكين . فأنزل الله : { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } الآيتين{[13714]}

وكذا رواه الطبراني من حديث زيد بن الحباب{[13715]} به . وقال : اسم أبي عقيل : حباب . ويقال : عبد الرحمن بن عبد الله بن ثعلبة .

وقوله : { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ } وهذا من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين ؛ لأن الجزاء من جنس العمل ، فعاملهم معاملة من سخر بهم ، انتصارا للمؤمنين في الدنيا ، وأعد للمنافقين في الآخرة عذابا أليما .


[13699]:- صحيح البخاري برقم(1415) وصحيح مسلم برقم (1018).
[13700]:- زيادة من أ ، والمسند.
[13701]:- في ت ، ك ، أ : "بعير".
[13702]:- المسند (5/34).
[13703]:- رواه الطبري في تفسيرة (14/382).
[13704]:- في ت ، ك ، أ : "يصنعون".
[13705]:- في ت ، ك : "لا لم يبق أحد غيرك".
[13706]:- في ت ، أ : "فقال أفعلت".
[13707]:- في أ : "عمرو".
[13708]:- في ك : "أعطيته".
[13709]:- في ت : "أقرضته".
[13710]:- زيادة من ت ، ك ، أ.
[13711]:- مسند البزار برقم (2216) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/32) : "وفيه عمرو بن أبي سلمة ، وثقه العجلي ، وأبو خيثمة وابن حبان وضعفه شعبة وغيره ، وبقية رجالهما ثقات".
[13712]:- مسند البزار برقم (2216) "كشف الأستار" قال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/332) بعد أن ساق هذه الرواية المرسلة : "وكذلك أخرجه عبد بن حميد عن يونس بن محمد عن أبي عوانة ، وأخرجه ابن أبي حاتم والطبري وابن مردويه من طرق أخرى عن أبي عوانة مرسلا".
[13713]:- زيادة من ت ، أ ، والطبري.
[13714]:- تفسير الطبري (14/388).
[13715]:- المعجم الكبير (4/45) وقد وقع فيه : "عن زيد بن الحباب عن خالد بن يسار" فأسقط موسى بن عبيدة في رواية ؛ ولذا قال الهيثمي في المجمع (7/33) : "رجاله ثقات إلا أن خالد بن يسار لم أجد من وثقه ولا جرحه" لكن الزيلعي في تخريج الكشاف (2/88) عزاه للطبراني في معجمه من طريق موسى بن عبيدة عن خالد بن يسار ، فلعله سقط من نسخ الطبراني أو توهم فيه الزيلعي. تنبيه : كذا وقع هنا وعند الطبراني : "اسم أبي عقيل حباب" ، قال الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/389) : "كذا وقع عند الطبراني ، والصواب حبحاب".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَلۡمِزُونَ ٱلۡمُطَّوِّعِينَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فِي ٱلصَّدَقَٰتِ وَٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهۡدَهُمۡ فَيَسۡخَرُونَ مِنۡهُمۡ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنۡهُمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (79)

القول في تأويل قوله : { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

يقول تعالى ذكره : الذين يلمزون المطوّعين في الصدقة على أهل المسكنة والحاجة ، بما لم يوجبه الله عليهم في أموالهم ، ويطعنون فيها عليهم بقولهم : إنما تصدّقوا به رياء وسمعة ، ولم يريدوا وجه الله ، ويلمزون الذين لا يجدون ما يتصدّقون به إلا جهدهم ، وذلك طاقتهم ، فينتقصونهم ويقولون : لقد كان الله عن صدقة هؤلاء غنيّا سخرية منهم ربهم . فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وقد بينا صفة سخرية الله بمن يسخر به من خلقه في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته ههنا . وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ يقول : ولهم من عند الله يوم القيامة عذاب موجع مؤلم .

وذُكر أن المعنيّ بقوله : المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنينَ عبد الرحمن بن عوف ، وعاصم بن عديّ الأنصاري ، وأن المعنيّ بقوله : والّذِينَ لا يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ أبو عقيل الأراشي أخو بني أنيف . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : والّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَاتِ قال : جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام ، فقال بعض المنافقين : والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء وقالوا : إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ وَالّذِينَ لا يجدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الناس يوما فنادى فيهم : أن اجْمَعُوا صَدَقَاتِكُمْ فجمع الناس صدقاتهم . ثم جاء رجل من أحوجهم بمنّ من تمر ، فقال : يا رسول الله هذا صاع من تمر ، بتّ ليلتي أجرّ بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر ، فأمسكت أحدهما وأتيتك بالاَخر فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقات . فسخر منه رجال وقالوا : والله إن الله ورسوله لغنيان عن هذا ، وما يصنعان بصاعك من شيء ثم إن عبد الرحمن بن عوف رجل من قريش من بني زهرة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل بقي من أحد من أهل هذه الصدقات ؟ فقال : «لا » فقال عبد الرحمن بن عوف : إن عندي مائة أوقية من ذهب في الصدقات . فقال له عمر بن الخطاب : أمجنون أنت ؟ فقال : ليس بي جنون . فقال : أتعلم ما قلت ؟ قال : نعم ، مالي ثمانية آلاف : أما أربعة فأقرضها ربي ، وأما أربعة آلاف فلي . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بَارَكَ اللّهُ لَكَ فِيما أمْسَكْتَ وَفِيما أعْطَيْتَ » وكره المنافقون فقالوا : والله ما أعطي عبد الرحمن عطيته إلا رياء وهم كاذبون ، إنما كان به متطوعا . فأنزل الله عذره ، وعذر صاحبه المسكين الذي جاء بالصاع من التمر ، فقال الله في كتابه : والّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ في الصّدَقاتِ . . . الآية .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ قال : جاء عبد الرحمن بن عوف بصدقة ماله أربعة آلاف ، فلمزه المنافقون ، وقالوا : راءى . والّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ قال : رجل من الأنصار ، آجر نفسه بصاع من تمر لم يكن له غيره ، فجاء به فلمزوه ، وقالوا : كان الله غنيّا عن صاع هذا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، نحوه .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ . . . الآية ، قال : أقبل عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله ، فتقرّب به إلى الله ، فلمزه المنافقون ، فقالوا : ما أعطى ذلك إلا رياءً وسمعة فأقبل رجل من فقراء المسلمين يقال له : حبحاب أبو عقيل ، فقال : يا نبي الله ، بتّ أجر الجرير على صاعين من تمر : أما صاع فأمسكته لأهلي ، وأما صاع فها هو ذا . فقال المنافقون : والله إن الله ورسوله لغنيان عن هذا فأنزل الله في ذلك القرآن : الّذِينَ يَلْمِزُونَ . . الآية .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ قال : تصدّق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله ، وكان ماله ثمانية آلاف دينار ، فتصدّق بأربعة آلاف دينار ، فقال ناس من المنافقين : إن عبد الرحمن بن عوف لعظيم الرياء فقال الله : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ في الصّدَقاتِ وكان لرجل صاعان من تمر ، فجاء بأحدهما ، فقال ناس من المنافقين : إن كان الله عن صاع هذا لغنيّا فكان المنافقون يطعنون عليهم ويسخرون بهم ، فقال الله : وَالّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ ولَهُمْ عَذابّ ألِيمٌ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال الأنماطي ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «تَصَدّقُوا فإنّي أُرِيدُ أنْ أبْعَثَ بَعْثا » قال : فقال عبد الرحمن بن عوف : يا رسول الله ، إن عندي أربعة آلاف : ألقين أقرضهما الله ، وألفين لعيالي . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بارَكَ اللّهُ لَكَ فِيما أعْطَيْتُ ، وبَارَكَ لَكَ فِيما أمْسَكْتَ » فقال رجل من الأنصار : وإن عندي صاعين من تمر ، صاعا لربي ، وصاعا لعيالي قال : فلمز المنافقون ، وقالوا : ما أعطى ابن عوف هذا إلا رياءً وقالوا : أو لم يكن الله غنيّا عن صاع هذا فأنزل الله : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ . . . إلى آخر الآية .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد . قال : أخبرنا أبو جعفر ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ قال : أصاب الناس جهد شديد ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتصدّقوا ، فجاء عبد الرحمن بأربعمائة أوقية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللّهُم بارِكْ لَهُ فيما أمْسَكَ » فقال المنافقون : ما فعل عبد الرحمن هذا إلا رياءً وسمعه وقال : وجاء رجل بصاع من تمر ، فقال : يا رسول الله آجرت نفسي بصاعين ، فانطلقت بصاع منهما إلى أهلي وجئت بصاع من تمر . فقال المنافقون : إن الله غنيّ عن صاع هذا فأنزل الله هذه الآية : والّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ . . . الآية ، وكان من المطّوّعين من المؤمنين في الصدقات : عبد الرحمن بن عوف ، تصدّق بأربعة آلاف دينار وعاصم بن عدّي أخو بني عجلان . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغّب في الصدقة وحضّ عليها ، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدّق بأربعة آلاف درهم ، وقام عاصم بن عدّي فتصدّق بمائة وسق من تمر . فلمزوهما وقالوا : ما هذا إلا رياء وكان الذي تصدّق بجهده أبو عقيل ، أخو بني أنيف الأراشي حليف بني عمرو بن عوف ، أتى بصاع من تمر ، فأفرغه في الصدقة ، فتضاحكوا به ، وقالوا : إن الله لغنيّ عن صاع أبي عقيل .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله ، قال : حدثنا شعبة ، عن سليمان ، عن أبي وائل ، عن أبي مسعود ، قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل قال أبو النعمان : كنا نعمل قال : فجاء رجل فتصدّق بشيء كثير ، قال : وجاء رجل فتصدق بصاع تمر ، فقالوا : إن الله لغنيّ عن صاع هذا فنزلت : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ وَالّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا زيد بن حباب ، عن موسى بن عبيدة ، قال : ثني خالد بن يسار ، عن ابن أبي عقيل ، عن أظبيه ، قال : بتّ أجر الجرير على ظهري على صاعين من تمر ، فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلّغون به ، وجئت بالاَخر أتقرّب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته ، فقال : «انْثُرْهُ في الصّدَقَةِ » فسخر المنافقون منه وقالوا : لقد كان غنيّا عن الصدقة هذا المسكين فأنزل الله : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ في الصّدَقاتِ . . . الاَيتين .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا الجريري عن أبي السليل ، قال : وقف على الحيّ رجل ، فقال : ثني أبي أو عمي ، فقال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : «مَنْ يَتَصَدّق اليَوْمَ بصَدَقَةٍ أشْهَدْ لَهُ بِها عِنْدَ الله يَوْمَ القِيامَةِ » . قال : وعليّ عمامة لي ، قال : فنزعت لَوْثا أو ابن علية ، قال : أخبرنا الجريري عن أبي السليل ، قال : وقف على الحيّ رجل ، فقال : ثني أبي أو عمي ، فقال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : «مَنْ يَتَصَدّق اليَوْمَ بصَدَقَةٍ أشْهَدْ لَهُ بِها عِنْدَ الله يَوْمَ القِيامَةِ » . قال : وعليّ عمامة لي ، قال : فنزعت لَوْثا أو ألقي بخطامها أو بزمامها . قال : فلمزه رجل جالس ، فقال : والله إنه ليتصدّق بها ولهي خير منه فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «بَلْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ ومِنْها » . يقول ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، يقول : الذي تصدّق بصاع التمر فلمزه المنافقون ، أبو خيثمة الأنصاريّ .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا محمد بن رجاء أبو سهل العباداني قال : حدثنا عامر بن يِساف اليمامي ، عن يحيى بن أبي كثير اليمامي ، قال : جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله مالي ثمانية آلاف ، جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله ، وأمسكت أربعة آلاف لعيالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «بارَكَ اللّهُ فِيما أعْطَيْتَ وَفِيما أمْسَكْتَ » وجاء رجل آخر فقال : يا رسول الله ، بتّ الليلة أجر الماء على صاعين ، فأما أحدهما فتركت لعيالي ، وأما الاَخر فجئتك به ، اجعله في سبيل الله فقال : «بارَكَ اللّهُ فِيما أعْطَيْتَ وَفِيما أمْسَكْتَ » فقال ناس من المنافقين : والله ما أعطى عبد الرحمن إلا رياء وسمعة ، ولقد كان الله ورسوله غنيين عن صاع فلان فأنزل الله : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ يعني عبد الرحمن بن عوف ، والّذِينَ لاَ يَجِدُون إلاّ جُهْدَهُمْ يعني صاحب الصاع ، فَيَسْخَرُونَ منْهُمْ سَخَرَ اللّهُ منْهُمْ ولَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال ابن عباس : أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يجمعوا صدقاتهم ، وإذا عبد الرحمن بن عوف قد جاء بأربعة آلاف ، فقال : هذا مالي أقرضه الله وقد بقي لي مثله فقال له : «بُورِكَ اللّهُ فِيما أعْطَيْتَ وَفِيما أمْسَكْتَ » فقال المنافقون : ما أعطي إلا رياء ، وما أعطى صاحب الصاع إلا رياء ، إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا وما يصنع الله بصاع من شيء ؟

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ . . . إلى قوله : ولَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ قال : أمر النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين أن يتصدقوا ، فقام عمر بن الخطاب فألقى مالاً وافرا ، فأخذ نصفه قال : فجئت أحمل مالاً كثيرا ، فقال له رجل من المنافقين : ترائي يا عمر ؟ فقال عمر : أرائي الله ورسوله ، وأما غيرهما فلا . قال : ورجل من الأنصار لم يكن عنده شيء ، فآجر نفسه ليجر الجرير على رقبته بصاعين ليلته ، فترك صاعا لعياله وجاء بصاع يحمله ، فقال له بعض المنافقين : إن الله ورسوله عن صاعك لغنيان فذلك قول الله تبارك وتعالى : الّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطّوّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقاتِ وَالّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إلاّ جُهْدَهُمْ هذا الأنصاري ، فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ .

وقد بينا معنى اللمز في كلام العرب بشواهده وما فيه من اللغة والقراءة فيما مضى وأما قوله : المُطّوّعِينَ فإن معناه : المتطوّعين ، أدغمت التاء في الطاء ، فصارت طاء مشددة ، كما قيل : وَمَنْ يَطّوّعْ خَيْرا يعني يتطوّع . وأما الجهد فإن للعرب فيه لغتين ، يقال : أعطاني من جُهده بضم الجيم ، وذلك فيما ذكر لغة أهل الحجاز ، ومن جَهْدٍ بفتح الجيم ، وذلك لغة نجد . وعلى الضم قراءة الأمصار ، وذلك هو الاختيار عندنا لإجماع الحجة من القرّاء عليه . وأما أهل العلم بكلام العرب من رواة الشعر وأهل العربية ، فإنهم يزعمون أنها مفتوحة ومضمومة بمعنى واحد . وإنما اختلاف ذلك لاختلاف اللغة فيه كما اختلفت لغاتهم في الوُجد والوَجْد بالضم والفتح من «وجدت » .

ورُوي عن الشعبي في ذلك ما :

حدثنا أبو كريب . قال : حدثنا جابر بن نوح ، عن عيسى بن المغيرة ، عن الشعبيّ ، قال : الجُهْد في العمل ، والْجَهْد في القوت .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص ، عن عيسى بن المغيرة ، عن الشعبي ، مثله .

قال : حدثنا ابن إدريس ، عن عيسى بن المغيرة ، عن الشعبيّ ، قال : الجُهْد في العمل ، والجَهْد في المعيشة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَلۡمِزُونَ ٱلۡمُطَّوِّعِينَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فِي ٱلصَّدَقَٰتِ وَٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهۡدَهُمۡ فَيَسۡخَرُونَ مِنۡهُمۡ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنۡهُمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (79)

قوله { الذين يلمزون } رد على الضمائر في قول { يكذبون } [ التوبة : 77 ] و { ألم يعلموا } [ التوبة : 87 ] و { سرهم ونجواهم } [ التوبة : 78 ] و { يلمزون } معناه ينالون بألسنتهم ، وقرأ السبعة «يلمِزون » بكسر الميم ، وقرأ الحسن وأبو رجاء ويعقوب وابن كثير فيما روي عنه «يلمُزون » بضم الميم ، و { المطوعين } لفظة عموم في كل متصدق ، والمراد به الخصوص فيمن تصدق بكثير دل على ذلك قوله ، عطفاً على { المطوعين } ، { والذين لا يجدون } ، ولو كان { الذين لا يجدون } قد دخلوا في { المطوعين } لما ساغ عطف الشيء على نفسه ، وهذا قول أبي علي الفارسي في قوله عز وجل : { من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل }{[5797]} فإنه قال المراد بالملائكة من عدا هذين .

وكذلك قال في قوله : { فيهما فاكهة ونخل ورمان }{[5798]} وفي هذا كله نظر ، لأن التكرار لقصد التشريف يسوغ هذا مع تجوز العرب في كلامها ، وأصل { المطوعين } المتطوعين فأبدل التاء طاء وأدغم ، وأما المتصدق بكثير الذي كان سبباً للآية فأكثر الروايات «أنه عبد الرحمن بن عوف ، تصدق بأربعة آلاف وأمسك مثلها ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ، بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أنفقت »{[5799]} .

وقيل هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه تصدق بنصف ماله ، وقيل عاصم بن عدي تصدق بمائة وسق ، وأما المتصدق بقليل فهو أبو عقيل حبحاب الأراشي ، تصدق بصاع من تمر وقال : يا رسول الله جررت البارحة بالجرير وأخذت صاعين تركت أحدهما لعيالي وأتيت بالآخر صدقة .

فقال المنافقون : الله غني عن صدقة هذا ، وقال بعضهم : إن الله غني عن صاع أبي عقيل{[5800]} ، وقيل : إن الذي لمز في القليل أبو خيثمة ، قاله كعب بن مالك صاحب النبي صلى الله عليه وسلم ، وتصدق عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف ، وقيل بأربعمائة أوقية من فضة ، وقيل أقل من هذا .

فقال المنافقون : ما هذا إلا رياء ، فنزلت الآية في هذا كله ، وقوله : { فيسخرون } معناه يستهزئون ويستخفون ، وهو معطوف على { يلمزون } ، واعترض ذلك بأن المعطوف على الصلة فهو من الصلة وقد دخل بين هذا المعطوف والمعطوف عليه قوله { والذين لا يجدون } ، وهذا لا يلزم ، لأن قوله { والذين } معمول للذي عمل في { المطوعين } فهو بمنزلة قوله جاءني الذي ضرب زيداً وعمراً فقتلهما ، وقوله : { سخر الله منهم } تسمية العقوبة باسم الذنب وهي عبارة عما حل بهم من المقت والذل في نفوسهم ، وقوله : { ولهم عذاب أليم } معناه مؤلم ، وهي آية وعيد محض ، وقرأ جمهور «جُهدهم » بضم الجيم ، وقرأ الأعرج وجماعة معه «جَهدهم » بالفتح ، وقيل هما بمعنى واحد ، وقاله أبو عبيدة ، وقيل هما لمعنيين الضم في المال والفتح في تعب الجسم ، ونحوه عن الشعبي{[5801]} ، وقوله : { الذين يلمزون } يصح أن يكون خبر ابتداء تقديره هم الذين ، ويصح أن يكون ابتداء وخبره { سخر } ، وفي { سخر } معنى الدعاء عليهم .

ويحتمل أن يكون خبراً مجرداً عن الدعاء ، ويحتمل أن يكون { الذين } صفة جارية على ما قبل كما ذكرت أول الترجمة .


[5797]:- من الآية (98) من سورة (البقرة).
[5798]:- من الآية (68) من سورة (الرحمن).
[5799]:-أخرج البزار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثا، فجاء عبد الرحمن فقال: يا رسول الله عندي أربعة آلاف، ألفان أقرضهما ربي، وألفان لعيالي، فقال: بارك الله لك فيما أعطيت وبارك لك فيما أمسكت، وجاء رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، إني بتّ أجر الحرير فأصبت صاعين من تمر، فصاعا أقرضه ربي وصاعا لعيالي، فلمزه المنافقون، قالوا: والله ما أعطى ابن عوف الذي أعطى إلا رياء، وقالوا: أو لم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا، فأنزل الله {الذين يلمزون المطوعين} الآية. وأخرج مثله البخاري، ومسلم، وابن المنذر، وغيرهم عن ابن مسعود، ولم يذكر فيه اسم المتصدق بكثير، وذكر فيه أن المتصدق بقليل هو أبو عقيل، وأنه تصدق بنصف صاع. (الدر المنثور) و(فتح القدير).
[5800]:- أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبغوي في معجمه، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، وأبو نعيم في المعرفة عن أبي عقيل قال: بتّ أجر الحرير على ظهري على صاعين من تمر، فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلغون به، وجئت بالآخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتقرب به إلى ربي، فأخبرته بالذي كان فقال: انثره في المسجد، فسخر القوم وقالوا: لقد كان الله غنيا عن صاع هذا المسكين، فأنزل الله: {الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين} الآيتين. (الدر المنثور).
[5801]:- وقيل: الجهد بالفتح: المشقة، والجهد بالضم: الطاقة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَلۡمِزُونَ ٱلۡمُطَّوِّعِينَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ فِي ٱلصَّدَقَٰتِ وَٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهۡدَهُمۡ فَيَسۡخَرُونَ مِنۡهُمۡ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنۡهُمۡ وَلَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (79)

استئناف ابتدائي ، نزلت بسبب حادث حدث في مدّة نزول السورة ، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حثّ الناس على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم ، وجاء عَاصم بن عَدِي بأوسقٍ كثيرة من تمر ، وجاء أبو عَقيل بصاع من تمر ، فقال المنافقون : ما أعطَى عبدُ الرحمن وعاصم إلاّ رياءً وأحَبَّ أبو عَقيل أن يُذكِّر بنفسه ليُعطى من الصدقات فأنزل الله فيهم هذه الآية .

فالذين يلمزون مبتدأ وخبره جملة { سخر الله منهم .

واللمز : الطعن . وتقدّم في هذه السورة في قوله : { ومنهم من يلمزك في الصدقات } [ التوبة : 58 ] . وقرأه يعقوب بضمّ الميم كما قرأ قوله : { ومنهم من يلمزك في الصدقات } [ التوبة : 58 ] .

و { المُطّوّعين } أصله المُتَطَوّعين ، أدغمت التاء في الطاء لقرب مخرجيهما .

و { في } للظرفية المجازية بجعل سبب اللمز كالظرف للمسبَّب .

وعُطف الذين لا يجدون إلاّ جهدهم على المطوعين وهم منهم ، اهتماماً بشأنهم والجُهد بضمّ الجيم الطاقة . وأطلقت الطاقة على مسبّبها الناشئ عنها .

وحُذف مفعول { يجدون } لظهوره من قوله : { الصدقات } أي لا يجدون ما يتصدّقون به إلاّ جهدهم .

والمراد لا يجدون سبيلاً إلى إيجاد ما يتصدّقون به إلاّ طاقتهم ، أي جُهد أبدانهم . أو يكونُ وجَدَ هنا هو الذي بمعنى كان ذا جدة ، أي غنىً فلا يقدر له مفعول ، أي الذين لا مال لهم إلاّ جُهدهم وهذا أحسن .

وفيه ثناء على قوة البدن والعمل وأنّها تقوم مقام المال .

وهذا أصل عظيم في اعتبار أصول الثروة العامة والتنويه بشأن العامل .

والسخرية : الاستهزاء . يقال : سخر منه ، أي حصلت السخرية له من كذا ، فمن اتّصالية .

واختير المضارع في يلمزون ويسخَرون للدلالة على التكرر .

وإسناد سخر إلى الله تعالى على سبيل المجاز الذي حسَّنتْه المشاكلة لفعلهم ، والمعنى أنّ الله عامَلَهم معاملةً تُشبه سخرية الساخر ، على طريقة التمثيل ، وذلك في أنْ أمر نبيه بإجراء أحكام المسلمين على ظاهرهم زمناً ثم أمْرِه بفضحهم .

ويجوز أن يكون إطلاق سَخر الله منهم على طريقة المجاز المرسل ، أي احتقرهم ولعنهم ولمّا كان كلّ ذلك حاصلاً من قبل عبّر عنه بالماضي في { سخر الله منهم

وجملة : { ولهم عذاب أليم } عطف على الخبر ، أي سخر منهم وقضى عليهم بالعذاب في الآخرة .