{ إلا من استرق السمع } أي : في بعض الأوقات قد يسترق بعض الشياطين السمع بخفية واختلاس ، { فأتبعه شهاب مبين } أي : بين منير يقتله أو يخبله . فربما أدركه الشهاب قبل أن يوصلها الشيطان إلى وليه فينقطع خبر السماء عن الأرض ، وربما ألقاها إلى وليه قبل أن يدركه الشهاب فيضمُّها ويكذب معها مائة كذبة ، ويستدل بتلك الكلمة التي سمعت من السماء .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلّ شَيْطَانٍ رّجِيمٍ * إِلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مّبِينٌ } .
يقول تعالى ذكره : وحفظنا السماء الدنيا من كلّ شيطان لعين قد رجمه الله ولعنه . إلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السّمْعَ يقول : لكن قد يسترق من الشياطين السمع مما يحدث في السماء بعضها ، فيتبعه شهاب من النار مبين يبين أثره فيه ، إما بإخباله وإفساده أو بإحراقه .
وكان بعض نحويي أهل البصرة يقول في قوله : إلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السّمْعَ هو استثناء خارج ، كما قال : ما أشتكي إلا خيرا ، يريد : لكن أذكر خيرا . وكان ينكر ذلك من قيله بعضهم ، ويقول : إذا كانت «إلا » بمعنى «لكن » عملت عمل «لكن » ، ولا يحتاج إلى إضمار «أذكر » ، ويقول : لو احتاج الأمر كذلك إلى إضمار «أذكر » احتاج قول القائل : قام زيد لا عمرو إلى إضمار «أذكر » .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عفان بن مسلم ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا الأعمش عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع ، قال : فيفرد المارد منها فيعلو ، فيرمى بالشهاب فيصيب جبهته أو حيث شاء الله منه فيلتهب ، فيأتي أصحابه وهو يلتهب ، فيقول : إنه كان من الأمر كذا وكذا . قال : فيذهب أولئك إلى أخوانهم من الكهنة ، فيزيدون عليه أضعافه من الكذب ، فيخبرونهم به ، فإذا رأوا شيئا مما قالوا قد كان صدّقوهم بما جاءوهم به من الكذب .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : وَحَفِظْناها مِنْ كُلّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السّمْعَ قال : أراد أن يخطف السمع ، وهو كقوله : إلاّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : إلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السّمْعَ وهو نحو قوله : إلاّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فأتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : إلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السّمْعَ قال : خطف الخطفة .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : إلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السّمْعَ هو كقوله : إلاّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقبٌ كان ابن عباس يقول : إن الشهب لا تقتل ولكن تحرق وتخبل وتخرج من غير أن تقتل .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : مِنْ كُلّ شَيْطانٍ رَجيمٍ قال : الرجيم : الملعون . قال : وقال القاسم عن الكسائي إنه قال : الرجم في جميع القرآن : الشتم .
{ إلا من استرق السمع } بدل من كل شيطان واستراق السمع اختلاس سرا ، شبه به خطفتهم اليسيرة من أقطار السماوات لما بينهم من المناسبة في الجوهر أو بالاستدلال من أوضاع الكواكب وحركاتها . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أنهم كانوا لا يحجبون عن السماوات ، فلما ولد عيسى عليه الصلاة والسلام منعوا من ثلاث سماوات ، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من كلها بالشهب . ولا يقدح فيه تكونها قبل المولد لجواز أن يكون لها أسباب أخر . وقيل الاستثناء منقطع أي ولكن من استرق السمع . { فأتبعه } فتبعه ولحقه . { شهاب مبين } ظاهر للمبصرين ، والشهاب شعلة نار ساطعة ، وقد يطلق للكوكب والسنان لما فيهما من البريق .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم استثنى من الشياطين، فقال سبحانه: {إلا من استرق السمع}، يعني: من اختطف السمع من كلام الملائكة، {فأتبعه شهاب مبين} يعني: الكوكب المضيء، وهو الثاقب، ونظيرها في الصافات: {فأتبعه شهاب ثاقب}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 17]
يقول تعالى ذكره: وحفظنا السماء الدنيا من كلّ شيطان لعين قد رجمه الله ولعنه. "إلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السّمْعَ "يقول: لكن قد يسترق من الشياطين السمع مما يحدث في السماء بعضها، فيتبعه شهاب من النار مبين يبين أثره فيه، إما بإخباله وإفساده أو بإحراقه...
عن قتادة قوله: "إلاّ مَنِ اسْتَرَقَ السّمْعَ" وهو نحو قوله: "إلاّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فأتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ"...
عن ابن جريج: "مِنْ كُلّ شَيْطانٍ رَجيمٍ" قال: الرجيم: الملعون. قال: وقال القاسم عن الكسائي إنه قال: الرجم في جميع القرآن: الشتم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 17]
ذكر أن الشياطين كانوا يصعدون السماء، فيستمعون من أخبار السماء من الملائكة مما يكون في الأرض من غيث وغيره. ثم زادوا فيها ما شاءوا، فيلقون إلى الكهنة، فيخبر الكهنة الناس، فيقولون: ألم نخبركم بالمطر في يوم كذا وكذا، وكان حقا، ثم منعوا عن صعودهم إلى السماء، وحفظها منهم فجعلوا يسترقون السمع، فسلط الله الشهب عليهم حتى يقذفوا بها، وقوله تعالى: {فأتبعه شهاب مبين} وقوله تعالى: {ويقذفون من كل جانب دحورا} (الصافات: 8 و 9) وقوله تعالى: {فأتبعه شهاب ثاقب} (الصافات: 10)...
وقال بعضهم: الرجيم اللعين، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود: من كل شيطان لعين. واللعين في اللغة، هو المطرود، المبعد، وهو ما ذكر {دحورا} (الصافات: 9). وقوله تعالى: {وحفظناها من كل شيطان رجيم} {إلا من استرق السمع} يقول: حفظناها من أن يصل إليها شيطان، أو يعلم من أمرها شيئا إلا استراقا {فأتبعه شهاب مبين} أي كوكب مضيء.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
مبين، قال الفراء: أي لا يخطئ...
والاستراق أخذ الشيء خفيا، وليس طلبهم استراق السمع مع علمهم بالشهب خروج عن العادة في صفة العقلاء، لأنهم قد يطمعون في السلامة من بعض الجهات. والشهاب: عمود من نور يمد لشدة ضيائه كالنار، وجمعه شهب.
والاتباع: إلحاق الثاني بالأول، أتبعه اتباعا، وتبعه يتبعه إذا طلب اللحاق به، وكذلك اتّبعه اتّباعا (بالتشديد)...
{إلا من استرق السمع} لا يمكن حمل لفظة {إلا} ههنا على الاستثناء، بدليل أن إقدامهم على استراق السمع لا يخرج السماء من أن تكون محفوظة منهم إلا أنهم ممنوعون من دخولها، وإنما يحاولون القرب منها، فلا يصح أن يكون استثناء على التحقيق، فوجب أن يكون معناه: لكن من استرق السمع...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وجاء بمعنى الآية قوله في سورة الجن حكاية عنهم: {وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا 8 وأنا كنا نقعد مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا} [الجن: 8 -9] وقوله في سورة الملك: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين} [الملك: 5].
وبعد، فالكتاب الكريم أخبر بأن الشياطين أرادوا أن يختطفوا شيئا من أخبار الغيب مما لدى الملائكة الكرام، فسلطت عليهم الشهب المشتعلة، والنجوم المتقدة، فأحرقتهم، ولا نبحث عن معرفة كنه ذلك، ولا ننعم في النظر، لندرك حقيقته، لأنا لم نؤت من الوسائل والأسباب ما يمكننا من معرفة ذلك معرفة صحيحة، تجعلنا نؤمن به إيمانا مبنيا على البرهان بوسائله المعروفة، وليس لنا إلا التصديق بما جاء في الكتاب وأوحي به إلى النبي الكريم، والبحث وراء ذلك لا يوقفنا على علم صحيح، بل على حدس وتخمين، لا حاجة للمسلم به للاطمئنان في دينه، فالأحرى به أن يعرض عنه لئلا يحيد عن القصد، ويضل عن سواء السبيل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... ما الشيطان؟ وكيف يحاول استراق السمع؟ وأي شيء يسترق؟.. كل هذا غيب من غيب الله، لا سبيل لنا إليه إلا من خلال النصوص. ولا جدوى في الخوض فيه، لأنه لا يزيد شيئا في العقيدة؛ ولا يثمر إلا انشغال العقل البشري بما ليس من اختصاصه، وبما يعطله عن عمله الحقيقي في هذه الحياة. ثم لا يضيف إليه إدراكا جديدا لحقيقة جديدة. فلنعلم أن لا سبيل في السماء لشيطان، وأن هذا الجمال الباهر فيها محفوظ، وأن ما ترمز إليه من سمو وعلي مصون لا يناله دنس ولا رجس، ولا يخطر فيه شيطان، وإلا طورد فطرد وحيل بينه وبين ما يريد. ولا ننسى جمال الحركة في المشهد في رسم البرج الثابت، والشيطان الصاعد، والشهاب المنقض، فهي من بدائع التصوير في هذا الكتاب الجميل...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
واستراق السمع: سرقتهُ. صيغ وزن الافتعال للتكلف. ومعنى استراقه الاستماع بخفية من المتحدث كأن المستمع يسرق من المتكلم كلامه الذي يخفيه عنه.
..وفيه تعليم لهم بأن الشهب التي يشاهدونها متساقطةً في السماء هي رجوم للشياطين المسترِقة طرداً لها عن استراق السمع كاملاً، فقد عرفوا ذلك من عهد الجاهلية ولم يعرفوا سببه.
والمقصود من منع الشياطين من ذلك منعهم الاطلاع على ما أراد الله عدمَ اطلاعهم عليه من أمر التكوين ونحوه؛ مما لو ألقته الشياطين في علم أوليائهم لكان ذلك فساداً في الأرض. وربما استدرج الله الشياطين وأولياءهم فلم يمنع الشياطين من استراق شيء قليل يلقونه إلى الكهان، فلما أراد الله عصمة الوحي منعهم من ذلك بتاتاً فجعل للشهب قوة خرق التموجات التي تتلقى منها الشياطين المسترقون السمعَ وتمزيق تلك التدرجات الموصوفة في الحديث الصحيح. ثم إن ظاهر الآية لا يقتضي أكثر من تحكك مسترق السمع على السماوات لتحصيل انكشافات جبل المسترق على الحرص على تحصيلها. وفي آية الشعراء ما يقتضي أن هذا المسترق يلقي ما تَلقاه من الانكشافات إلى غيره لقوله: {يلقون السمع وأكثرهم كاذبون} [سورة الشعراء: 223].
وفي سورة الجن دلالة على أنه منع بعد البعثة ونزول القرآن إحكاماً لحفظ الوحي من أن يلتبس على الناس بالكهانة، فيكون ما اقتضاه حديث عائشة وأبي هُريرة رضي الله عنهم من استراق الجن السمع وصفاً للكهانة السابقة. ويكون قوله: {ليسوا بشيء} وصفاً لآخر أمرهم. وقد ثبت بالكتاب والسنّة وجود مخلوقات تسمى بالجن وبالشياطين مع قوله: {والشياطين كل بناء وغواص} [سورة ص: 37] الآية. والأكثر أن يخص باسم الجن نوع لا يخالط خواطر البشر، ويخص باسم الشياطين نوع دأبه الوسوسة في عقول البشر بإلقاء الخواطر الفاسدة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
... وإن هذا لتصوير حكيم لحفظ الله السماوات من أن يكون في السموات مفسدون، كما في الأرض من يفسد فيها، وهم الشياطين خارجون عن الطاعة كشياطين الإنس والجن في الأرض.