فلولا أنه كتب عليهم الجلاء الذي أصابهم وقضاه عليهم وقدره بقدره الذي لا يبدل ولا يغير ، لكان لهم شأن آخر من عذاب الدنيا ونكالها ، ولكنهم - وإن فاتهم العذاب الشديد الدنيوي - فإن لهم في الآخرة عذاب النار ، الذي لا يمكن أن يعلم شدته إلا الله تعالى ، فلا يخطر ببالهم أن عقوبتهم قد انقضت وفرغت ولم يبق لهم منها بقية ، فما أعد الله لهم من العذاب في الآخرة أعظم وأطم .
وقوله : { وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا } أي : لولا أن كتب الله عليهم هذا الجلاء ، وهو النفي من ديارهم وأموالهم ، لكان لهم عند الله عذاب آخر من القتل والسبي ، ونحو ذلك ، قاله الزهري ، عن عُرْوَة ، والسُّدِّي وابن زيد ؛ لأن الله قد كتب عليهم أنه سيعذبهم في الدار الدنيا مع ما أعد لهم في الآخرة من العذاب في نار جهنم .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن صالح - كاتب الليث - حدثني الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير قال : ثم كانت وقعة بني النضير ، وهم طائفة من اليهود ، على رأس ستة أشهر من وقعة بدر . وكان منزلهم بناحية من المدينة ، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا من الجلاء ، وأن لهم ما أقَلَّت الإبل من الأموال والأمتعة إلا الحلقة ، وهي السلاح ، فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الشام . قال : والجلاء أنه كُتب عليهم في آي من التوراة ، وكانوا من سبط لم يصبهم الجلاء قبل ما سلط عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله فيهم : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } إلى قوله { وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } .
وقال عكرمة : الجلاء : القتل . وفي رواية عنه : الفناء .
وقال قتادة : الجلاء : خروج الناس من البلد إلى البلد .
وقال الضحاك : أجلاهم إلى الشام ، وأعطى كل ثلاثة بعيرًا وسقاء ، فهذا الجلاء .
وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أحمد بن كامل القاضي ، حدثنا محمد بن سعيد {[28504]} العوفي ، حدثني أبي ، عن عمي ، حدثني أبي عن جدي ، عن ابن عباس قال : كان النبي{[28505]} صلى الله عليه وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مَبْلَغ ، فأعطوه ما أراد منهم ، فصالحهم على أن يحقن لهم دمائهم ، وأن يخرجهم من أرضهم ومن ديارهم وأوطانهم ، وأن يسيرهم إلى أذرعات الشام ، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرًا وسقاء ، والجلاء إخراجهم من أرضهم {[28506]} إلى أرض أخرى{[28507]}
وروي أيضًا من حديث يعقوب بن محمد الزهري ، عن إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمة ، عن أبيه ، عن جده ، عن محمد بن مسلمة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني النضير ، وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاث ليال{[28508]} {[28509]} .
وقوله : { وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ } أي : حتم لازم لا بد لهم منه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذّبَهُمْ فِي الدّنْيَا وَلَهُمْ فِي الاَخِرَةِ عَذَابُ النّارِ * ذَلِكَ بِأَنّهُمْ شَآقّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقّ اللّهَ فَإِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * مَا قَطَعْتُمْ مّن لّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىَ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ * وَمَآ أَفَآءَ اللّهُ عَلَىَ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلََكِنّ اللّهَ يُسَلّطُ رُسُلَهُ عَلَىَ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
حدثنا ابن حَميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان { وَما أفاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ }يعني بني النضير { فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلَكِنّ الله يُسَلّط رُسُلَه على مَنْ يَشاءُ وَالله على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال حدثنا ورقاء جمعيا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله { فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ }قال : يذكر ربهم أنه نصرهم ، وكفاهم بغير كراع ، ولا عدّة في قريظة وخيبر ، ما أفاء الله على رسوله من قريظة ، جعلها لمهاجرة قريش .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله { وَما أفاءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلَكِنّ الله يُسَلّط رُسُلَه على مَنْ يَشاءُ وَالله على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }قال : أمر الله عزّ وجلّ نبيه بالسير إلى قريظة والنضير وليس للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب فجعل ما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكم فيه ما أراد ، ولم يكن يومئذ خيل ولا ركاب يوجف بها . قال : والإيجاف : أن يوضعوا السير وهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان من ذلك خيبر وَفدَك وقُرًى عَرَبيةً ، وأمر الله رسوله أن يعد لينبع ، فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاحتواها كلها ، فقال ناس : هلا قسّمها ، فأنزل الله عزّ وجلّ عذره ، فقال : { ما أفاءَ اللّهُ على رَسُولِهِ مِنْ أهْل القُرَى فَلِلّهِ وللرّسُولِ وَلِذِي القُرْبى وَاليتَامَى وَالمَساكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ }ثم قال : { وَما آتاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فانْتَهُوا . . . }الآية .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : { فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ }يعني يوم قُرَيظة .
وقوله : { وَلَكِنّ اللّهَ يُسَلّطُ رُسُلَهُ على مَنْ يَشاء } أعلمك أنه كما سلّط محمدا صلى الله عليه وسلم على بني النضير ، يخبر بذلك جلّ ثناؤه أن ما أفاء الله عليه من أموال لم يُوجِفِ المسلمون بالخيل والركاب ، من الأعداء مما صالحوه عليه له خاصة يعمل فيه بما يرى . يقول : فمحمد صلى الله عليه وسلم إنما صار إليه أموال بني النضير بالصلح إلا عنوة ، ، فتقع فيها القسمة . { وَاللّه على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }يقول : والله على كلّ شيء أراده ذو قدرة لا يَعجزه شيء ، وبقُدرته على ما يشاء سلّط نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على ما سلط عليه من أموال بني النضير ، فحازه عليهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.