ومن أظلم هذه القوة وخبأها وأضعفها فقد خاب : ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) . .
وهناك إذن تبعة مترتبة على منح الإنسان هذه القوة الواعية القادرة على الاختيار والتوجيه . توجيه الاستعدادات الفطرية القابلة للنمو في حقل الخير وفي حقل الشر سواء . فهي حرية تقابلها تبعة ، وقدرة يقابلها تكليف ، ومنحة يقابلها واجب . .
ورحمة من الله بالإنسان لم يدعه لاستعداد فطرته الإلهامي ، ولا للقوة الواعية المالكة للتصرف ، فأعانه بالرسالات التي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة ، وتكشف له عن موحيات الإيمان ، ودلائل الهدى في نفسه وفي الآفاق من حوله ، وتجلو عنه غواشي الهوى فيبصر الحق في صورته الصحيحة . . وبذلك يتضح له الطريق وضوحا كاشفا لا غبش فيه ولا شبهة فتتصرف القوة الواعية حينئذ عن بصيرة وإدراك لحقيقة الاتجاه الذي تختاره وتسير فيه . وهذه في جملتها هي مشيئة الله بالإنسان . وكل ما يتم في دائرتها فهو محقق لمشيئة الله وقدره العام .
هذه النظرة المجملة إلى أقصى حد تنبثق منها جملة حقائق ذات قيمة في التوجيه التربوي : فهي أولا ترتفع بقيمة هذا الكائن الإنساني ، حين تجعله أهلا لاحتمال تبعة اتجاهه ، وتمنحه حرية الاختيار [ في إطار المشيئة الإلهية التي شاءت له هذه الحرية فيما يختار ] فالحرية والتبعة يضعان هذا الكائن في مكان كريم ، ويقرران له في هذا الوجود منزلة عالية تليق بالخليقة التي نفخ الله فيها من روحه وسواها بيده ، وفضلها على كثير من العالمين .
وهي ثانيا تلقي على هذا الكائن تبعة مصيره ، وتجعل أمره بين يديه [ في إطار المشيئة الكبرى كما أسلفنا ] فتثير في حسه كل مشاعر اليقظة والتحرج والتقوى . وهو يعلم أن قدر الله فيه يتحقق من خلال تصرفه هو بنفسه : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) . . وهي تبعة ثقيلة لا يغفل صاحبها ولا يغفو !
وهي ثالثا تشعر هذا الإنسان بالحاجة الدائمة للرجوع إلى الموازين الإلهية الثابتة ، ليظل على يقين أن هواه لم يخدعه ، ولم يضلله ، كي لا يقوده الهوى إلى المهلكة ، ولا يحق عليه قدر الله فيمن يجعل إلهه هواه . وبذلك يظل قريبا من الله ، يهتدي بهديه ، ويستضيء بالنور الذي أمده به في متاهات الطريق !
ومن ثم فلا نهاية لما يملك هذا الإنسان أن يصل إليه من تزكية النفس وتطهيرها ، وهو يغتسل في نور الله الفائض ، ويتطهر في هذا العباب الذي يتدفق حوله من ينابيع الوجود . .
ومعنى : { دساها } حال بينها وبين فعل الخير . وأصل فعل دسّى : دسّ ، إذا أدخل شيئاً تحت شيء فأخفاه ، فأبدلوا الحرف المضاعف ياء طلباً للتخفيف كما قالوا : تقضّى البازي أو تقضض ، وقالوا : تظنيت ، أي من الظن .
وإن كانت جملة { قد أفلح من زكاها } جواب القسم فجملة { كذبت ثمود بطغواها } [ الشمس : 11 ] في موقع الدليل لمضمون جملة { وقد خاب من دساها } أي خاب كخيبة ثمود .
والفلاح : النجاح بحصول المطلوب ، والخيبة ضده ، أي أن يُحرم الطالب مما طلبه .
فالإِنسان يرغب في الملائم النافع ، فمن الناس من يطلب ما به النفع والكمال الدائمان ، ومن الناس من يطلب ما فيه عاجل النفع والكمال الزائف ، فالأول قد نجح فيما طلبه فهو مفلح ، والثاني يحصِّل نفعاً عارضاً زائلاً وكمالاً موقتاً ينقلب انحطاطاً فذلك لم ينجح فيما طلبه فهو خائب ، وقد عبر عن ذلك هنا بالفلاح والخيبة كما عبر عنه في مواضع أخر بالربح والخسارة .
والمقصود هنا الفلاح في الآخرة والخيبة فيها .
وفي هذه الآيات مُحسّن الطباق غير مرّة فقد ذكرت أشياء متقابلة متضادة مثل الشمس والقمر لاختلاف وقت ظهورهما ، ومثل النهار والليل ، والتجلية والغشي ، والسماء والأرض ، والبناء والطحو ، والفجور والتقوى ، والفلاح والخيبة ، والتزكية والتدسية .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقد خاب في طِلبته ، فلم يُدرك ما طلب والتمس لنفسه من الصلاح "مَنْ دسّاهَا" يعني : من دَسّس الله نفسه فأهْملها ، ووضع منها ، بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصِيَ ، وترك طاعة الله ...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدهما : على ما قضى وقد خاب من دسّى الله نفسه . الثاني : من دسّى نفسه . وفي " دسّاها " سبعة تأويلات : أحدها : أغواها وأضلها ، قاله مجاهد وسعيد بن جبير ، لأنه دسّى نفسه في المعاصي ....
الثاني : إثمها وفجورها ، قاله قتادة .
الرابع : كذبها ، قاله ابن عباس .
الخامس : أشقاها ، قاله ابن سلام ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
أي حرم مراده مما أعد لغيره في الدار الآخرة وخسر وكان سعيه باطلاً { من دساها } أي أغواها إغواء عظيماً وأفسدها ودنس محياها وقذرها وحقرها وأهلكها بخبائث الاعتقاد ومساوئ الأعمال ، وقبائح النيات والأحوال ، وأخفاها بالجهالة والفسوق ، والجلافة والعقوق ...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أخفى نفسه الكريمة ، التي ليست حقيقة بقمعها وإخفائها ، بالتدنس بالرذائل ، والدنو من العيوب ، والاقتراف للذنوب ، وترك ما يكملها وينميها ، واستعمال ما يشينها ويدسيها . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن أظلم هذه القوة وخبأها وأضعفها فقد خاب : ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) . .
وهناك إذن تبعة مترتبة على منح الإنسان هذه القوة الواعية القادرة على الاختيار والتوجيه . توجيه الاستعدادات الفطرية القابلة للنمو في حقل الخير وفي حقل الشر سواء . فهي حرية تقابلها تبعة ، وقدرة يقابلها تكليف ، ومنحة يقابلها واجب . .
ورحمة من الله بالإنسان لم يدعه لاستعداد فطرته الإلهامي ، ولا للقوة الواعية المالكة للتصرف ، فأعانه بالرسالات التي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة ، وتكشف له عن موحيات الإيمان ، ودلائل الهدى في نفسه وفي الآفاق من حوله ، وتجلو عنه غواشي الهوى فيبصر الحق في صورته الصحيحة . . وبذلك يتضح له الطريق وضوحا كاشفا لا غبش فيه ولا شبهة فتتصرف القوة الواعية حينئذ عن بصيرة وإدراك لحقيقة الاتجاه الذي تختاره وتسير فيه . وهذه في جملتها هي مشيئة الله بالإنسان . وكل ما يتم في دائرتها فهو محقق لمشيئة الله وقدره العام .
هذه النظرة المجملة إلى أقصى حد تنبثق منها جملة حقائق ذات قيمة في التوجيه التربوي : فهي أولا ترتفع بقيمة هذا الكائن الإنساني ، حين تجعله أهلا لاحتمال تبعة اتجاهه ، وتمنحه حرية الاختيار [ في إطار المشيئة الإلهية التي شاءت له هذه الحرية فيما يختار ] فالحرية والتبعة يضعان هذا الكائن في مكان كريم ، ويقرران له في هذا الوجود منزلة عالية تليق بالخليقة التي نفخ الله فيها من روحه وسواها بيده ، وفضلها على كثير من العالمين .
وهي ثانيا تلقي على هذا الكائن تبعة مصيره ، وتجعل أمره بين يديه [ في إطار المشيئة الكبرى كما أسلفنا ] فتثير في حسه كل مشاعر اليقظة والتحرج والتقوى . وهو يعلم أن قدر الله فيه يتحقق من خلال تصرفه هو بنفسه : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) . . وهي تبعة ثقيلة لا يغفل صاحبها ولا يغفو !
وهي ثالثا تشعر هذا الإنسان بالحاجة الدائمة للرجوع إلى الموازين الإلهية الثابتة ، ليظل على يقين أن هواه لم يخدعه ، ولم يضلله ، كي لا يقوده الهوى إلى المهلكة ، ولا يحق عليه قدر الله فيمن يجعل إلهه هواه . وبذلك يظل قريبا من الله ، يهتدي بهديه ، ويستضيء بالنور الذي أمده به في متاهات الطريق !
ومن ثم فلا نهاية لما يملك هذا الإنسان أن يصل إليه من تزكية النفس وتطهيرها ، وهو يغتسل في نور الله الفائض ، ويتطهر في هذا العباب الذي يتدفق حوله من ينابيع الوجود . .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.