تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَيَٰقَوۡمِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا وَيَزِدۡكُمۡ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمۡ وَلَا تَتَوَلَّوۡاْ مُجۡرِمِينَ} (52)

{ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ } عما مضى منكم { ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } فيما تستقبلونه ، بالتوبة النصوح ، والإنابة إلى الله تعالى .

فإنكم إذا فعلتم ذلك { يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } بكثرة الأمطار التي تخصب بها الأرض ، ويكثر خيرها .

{ وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ } فإنهم كانوا من أقوى الناس ، ولهذا قالوا : { من أشد منا قوة } ؟ ، فوعدهم أنهم إن آمنوا ، زادهم قوة إلى قوتهم .

{ وَلَا تَتَوَلَّوْا } عنه ، أي : عن ربكم { مُجْرِمِينَ } أي : مستكبرين عن عبادته ، متجرئين على محارمه .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَيَٰقَوۡمِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا وَيَزِدۡكُمۡ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمۡ وَلَا تَتَوَلَّوۡاْ مُجۡرِمِينَ} (52)

50

ثم يوجههم إلى الاستغفار والتوبة . ويكرر السياق التعبير ذاته الذي ورد في أول السورة على لسان خاتم الأنبياء ، ويعدهم هود ويحذرهم ما وعدهم محمد وحذرهم بعد ذلك بآلاف السنين :

( ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويزدكم قوة إلى قوتكم . ولا تتولوا مجرمين ) . .

استغفروا ربكم مما أنتم فيه ، وتوبوا إليه فابدأوا طريقا جديدا يحقق النية ويترجمها إلى عمل يصدق النية . .

( يرسل السماء عليكم مدرارا ) . .

وكانوا في حاجة إلى المطر يسقون به زروعهم ودوابهم في الصحراء ، ويحتفظون به بالخصب الناشئ من هطول الأمطار في تلك البقاع .

( ويزدكم قوة إلى قوتكم ) . .

هذه القوة التي عرفتم بها . .

( ولا تتولوا مجرمين ) . .

مرتكبين لجريمة التولي والتكذيب .

وننظر في هذا الوعد . وهو يتعلق بإدرار المطر ومضاعفة القوة . وهي أمور تجري فيها سنة الله وفق قوانين ثابتة في نظام هذا الوجود ، من صنع الله ومشيئته بطبيعة الحال . فما علاقة الاستغفار بها وما علاقة التوبة ؟

فأما زيادة القوة فالأمر فيها قريب ميسور ، بل واقع مشهود ، فإن نظافة القلب والعمل الصالح في الأرض يزيدان التائبين العاملين قوة . يزيدانهم صحة في الجسم بالاعتدال والاقتصار على الطيبات من الرزق وراحة الضمير وهدوء الأعصاب والاطمئنان إلى الله والثقة برحمته في كل آن ؛ ويزيدانهم صحة في المجتمع بسيادة شريعة الله الصالحة التي تطلق الناس أحرارا كراما لا يدينون لغير الله على قدم المساواة بينهم أمام قهار واحد تعنو له الجباه . . كما تطلقان طاقات الناس ليعملوا وينتجوا ويؤدوا تكاليف الخلافة في الأرض ؛ غير مشغولين ولا مسخرين بمراسم التأليه للأرباب الأرضية وإطلاق البخور حولها ودق الطبول ، والنفخ فيها ليل نهار لتملأ فراغ الإله الحق في فطرة البشر !

والملحوظ دائما أن الأرباب الأرضية تحتاج ويحتاج معها سدنتها وعبادها أن يخلعوا عليها بعض صفات الألوهية من القدرة والعلم والإحاطة والقهر والرحمة . . أحيانا . . كل ذلك ليدين لها الناس ! فالربوبية تحتاج إلى ألوهية معها تخضع بها العباد ! وهذا كله يحتاج إلى كد ناصب من السدنة والعباد وإلى جهد ينفقه من يدينون لله وحده في عمارة الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها ، بدلا من أن ينفقه عباد الأرباب الأرضية في الطبل والزمر والتراتيل والتسابيح لهذه الأرباب المفتراة !

ولقد تتوافر القوة لمن لا يحكمون شريعة الله في قلوبهم ولا في مجتمعهم ، ولكنها قوة إلى حين . حتى تنتهي الأمور إلى نهايتها الطبيعية وفق سنة الله ، وتتحطم هذه القوة التي لم تستند إلى أساس ركين . إنما استندت إلى جانب واحد من السنن الكونية كالعمل والنظام ووفرة الإنتاج . وهذه وحدها لا تدوم . لأن فساد الحياة الشعورية والاجتماعية يقضي عليها بعد حين .

فأما إرسال المطر . مدرارا . فالظاهر للبشر أنه يجري وفق سنن طبيعية ثابتة في النظام الكوني . ولكن جريان السنن الطبيعية لا يمنع أن يكون المطر محييا في مكان وزمان ، ومدمرا في مكان وزمان ؛ وأن يكون من قدر الله أن تكون الحياة مع المطر لقوم ، وأن يكون الدمار معه لقوم ، وأن ينفذ الله تبشيره بالخير ووعيده بالشر عن طريق توجيه العوامل الطبيعية ؛ فهو خالق هذه العوامل ، وجاعل الأسباب لتحقيق سنته على كل حال . ثم تبقى وراء ذلك مشيئة الله الطليقة التي تصرف الأسباب والظواهر بغير ما اعتاد الناس من ظواهر النواميس وذلك لتحقيق قدر الله كيفما شاء . حيث شاء . بالحق الذي يحكم كل شيء في السماوات والأرض غير مقيد بما عهده الناس في الغالب .

/خ60

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَيَٰقَوۡمِ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيۡهِ يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا وَيَزِدۡكُمۡ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمۡ وَلَا تَتَوَلَّوۡاْ مُجۡرِمِينَ} (52)

و «الاستغفار » طلب المغفرة ، وقد يكون ذلك باللسان ، وقد يكون بإنابة القلب وطلب الاسترشاد والحرص على وجود المحجة الواضحة{[6385]} ، وهذه أحوال يمكن أن تقع من الكفار ، فكأنه قال لهم : اطلبوا غفران الله بالإنابة ، وطلب الدليل في نبوتي ، ثم توبوا بالإيمان من كفركم ؛ فيجيء الترتيب على هذا مستقيماً وإلا احتيج في ترتيب التوبة بعد الاستغفار إلى تحيل كثير فإما أن يكون : { توبوا } أمراً بالدوام ، و «الاستغفار » طلب المغفرة بالإيمان ، وإلى هذا ذهب الطبري ، وقال أبو المعالي في الإرشاد : «التوبة » في اصطلاح المتكلمين هي الندم ، بعد أن قال : إنها في اللغة الرجوع ، ثم ركب على هذا أن قال إن الكافر إذا آمن ليس إيمانه توبة وإنما توبته ندمه بعد .

قال القاضي أبو محمد : والذي أقول : إن التوبة عقد في ترك متوب منه يتقدمها علم بفساد المتوب منه وصلاح ما يرجع إليه ، ويقترن بها ندم على فارط المتوب منه لا ينفك منه وهو من شروطها ؛ فأقول إن إيمان الكافر هو توبته من كفره ، لأنه هو نفس رجوعه ، و «تاب » في كلام العرب معناه رجع إلى الطاعة والمثلى من الأمور ، وتصرف اللفظة في القرآن ب «إلى » يقتضي أنها الرجوع لا الندم ، وإنما لا حق لازم للتوبة كما قلنا ، وحقيقة التوبة ترك مثل ما تيب منه عن عزمة معتقدة على ما فسرناه ، والله المستعان .

و «مدراراً » هو بناء تكثير وكان حقه أن تلحقه هاء ، ولكن حذفت على نية النسب وعلى أن { السماء } المطر نفسه ، وهو من در يدر ؛ ومِفعال قد يكون من اسم الفاعل الذي هو من ثلاثي ، ومن اسم الفاعل الذي هو من رباعي : وقول من قال : إنه ألزم للرباعي غير لازم{[6385]} .

ويروى أن عاداً كان الله تعالى قد حبس عنها المطر ثلاث سنين ، وكانوا أهل حرث وبساتين وثمار ، وكانت بلادهم شرق جزيرة العرب ، فلهذا وعدهم بالمطر ، ومن ذلك فرحهم حين رأوا العارض ، وقولهم : { هذا عارض ممطرنا }{[6387]} وحضهم على استنزال المطر بالإيمان والإنابة ، وتلك عادة الله في عباده ، ومنه قول نوح عليه السلام «استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً »{[6388]} ، ومنه فعل عمر رضي الله حين جعل جميع قوله في الاستسقاء ودعائه استغفاراً فسقي ، فسئل عن ذلك ، فقال : لقد استنزلت المطر بمجاديح السماء{[6389]} .

وقوله : { ويزدكم قوة إلى قوتكم } ، ظاهره العموم في جميع ما يحسن الله تعالى فيه إلى العباد ، وقالت فرقة : كان الله تعالى قد حبس نسلهم ، فمعنى قوله : { ويزدكم قوة إلى قوتكم } أي الولد ، ويحتمل أن خص القوة بالذكر إذ كانوا أقوى العوالم فوعدوا بالزيادة فيما بهروا فيه ، ثم نهاهم عن التولي عن الحق والإعراض عن أمر الله . و { مجرمين } حال من الضمير في { تتولوا } .


[6385]:- قال القرطبي: "وأكثر ما يأتي مفعال من أفعل، وقد جاء هاهنا من فعل، لأنه من درّت السماء تدرّ وتدرّ فهي مدرار. و[مدرارا] نصب على الحال، وفيه معنى التكثير، أي: يرسل السماء بالمطر متتابعا يتلو بعضه بعضا.
[6387]:- من الآية (24) من سورة (الأحقاف).
[6388]:- الآيتان (10، 11) من سورة (نوح).
[6389]:- أخرج ابن سعد في "الطبقات"، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة في "المصنف"، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في "سننه" عن الشعبي رضي الله عنه قال: خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى يرجع (هكذا) فقيل له: ما رأيناك استسقيت، قال: لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر، ثم قرأ: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا} و{استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا} (الدر المنثور). وقال " في النهاية": "والمجاديح: واحدها مجدح، والياء زائدة للإشباع، والمِجدح: نجم من النجوم، قيل: هو الدّبران، وقيل: ثلاثة كواكب كالأثافي تشبيها لها بالمجداح الذي له ثلاث شعب، وهو عند العرب من الأنواء الدالة على المطر، فجعل الاستغفار مشبها بالأنواء مخاطبة لهم بما يعرفونه، لا قوة بالأنواء، وجاء بلفظ الجميع لأنه أراد الأنواء جميعها التي يزعمون أن من شأنها المطر". وفي "المعجم الوسيط": المجدح: خشبة في رأسها خشبتان معترضتان يُساط بها الشراب، والجمع مجاديح.