والذي أوجب لهم استمرارهم على كفرهم وشركهم قوله : { بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ْ } أي : أمددناهم بالأموال والبنين ، وأطلنا أعمارهم ، فاشتغلوا بالتمتع بها ، ولهوا بها ، عما له خلقوا ، وطال عليهم الأمد ، فقست قلوبهم ، وعظم طغيانهم ، وتغلظ كفرانهم ، فلو لفتوا أنظارهم إلى من عن يمينهم ، وعن يسارهم من الأرض ، لم يجدوا إلا هالكا ولم يسمعوا إلا صوت ناعية ، ولم يحسوا إلا بقرون متتابعة على الهلاك ، وقد نصب الموت في كل طريق لاقتناص النفوس الأشراك ، ولهذا قال : { أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ْ } أي : بموت أهلها وفنائهم ، شيئا فشيئا ، حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين ، فلو رأوا هذه الحالة لم يغتروا ويستمروا على ما هم عليه .
{ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ْ } الذين بوسعهم ، الخروج عن قدر الله ؟ وبطاقتهم الامتناع عن الموت ؟ فهل هذا وصفهم حتى يغتروا بطول البقاء ؟ أم إذا جاءهم رسول ربهم لقبض أرواحهم ، أذعنوا ، وذلوا ، ولم يظهر منهم أدنى ممانعة ؟
وبعد هذا الجدل التهكمي الذي يكشف عن سخف ما يعتقده المشركون وخوائه من المنطق والدليل . . يضرب السياق عن مجادلتهم ؛ ويكشف عن علة لجاجتهم ؛ ثم يلمس وجدانهم لمسة تهز القلوب ، وهو يوجهها إلى تأمل يد القدرة ، وهي تطوي رقعة الأرض تحت أقدام الغالبين ، وتقص أطرافها فتردهم إلى حيز منها منزو صغير ، بعد السعة والمنعة والسلطان !
( بل متعنا هؤلاء وآباؤهم حتى طال عليهم العمر . أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ? أفهم الغالبون ? ) . .
فهو المتاع الطويل الموروث الذي أفسد فطرتهم . والمتاع ترف . والترف يفسد القلب ويبلد الحس . وينتهي إلى ضعف الحساسية بالله ، وانطماس البصيرة دون تأمل آياته . وهذا هو الابتلاء بالنعمة حين لا يستيقظ الإنسان لنفسه ويراقبها ، ويصلها دائما بالله ، فلا تنساه .
ومن ثم يلمس السياق وجدانهم بعرض المشهد الذي يقع كل يوم في جانب من جنبات الأرض حيث تطوى رقعة الدول المتغلبة وتنحسر وتتقلص . فإذا هي دويلات صغيرة وكانت إمبراطوريات . وإذا هي مغلوبة على أمرها وكانت غالبة . وإذا هي قليلة العدد وكانت كثيرة . قليلة الخيرات وكانت فائضة بالخيرات . .
والتعبير يرسم يد القدرة وهي تطوي الرقعة وتنقص الأطراف وتزوي الأبعاد . . . فإذا هو مشهد ساحر فيه الحركة اللطيفة ، وفيه الرهبة المخيفة !
{ بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر } إضراب عما توهموا ببيان ما هو الداعي إلى حفظهم وهو الاستدراج والتمتع بما قدر لهم من الأعمار ، أو عن الدلالة على بطلانه ببيان ما أوهمهم ذلك ، وهو أنه تعالى متعهم بالحياة الدنيا وأمهلهم حتى طالت أعمارهم فحسبوا أن لا يزالوا كذلك وأنه بسبب ما هم عليه ولذلك عقبه بما يدل على أنه أمل كاذب فقال : { أفلا يرون أنا نأتي الأرض } أرض الكفرة . { ننقصها من أطرافها } بتسليط المسلمين عليها ، وهو تصوير لما يجريه الله تعالى على أيدي المسلمين . { أفهم الغالبون } رسول الله والمؤمنين .
{ بل متعنا هؤلاء وءاباءهم حتى طال عليهم العمر }
والإشارة ب { هؤلاء } لحَاضرين في الأذهان وهم كفار قريش .
وقد استقريْت أن القرآن إذا ذكرت فيه هذه الإشارة دون وجود مشار إليه في الكلام فهو يعني بها كفارَ قريش .
{ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الارض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الغالبون }
تفريع على إحالتهم نصر المسلمين وعدّهم تأخير الوعد به دليلاً على تكذيب وقوعه حتى قالوا : { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [ الأنبياء : 38 ] تهكماً وتكذيباً . فلما أنذرهم بما سيحل بهم في قوله تعالى : { لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفّون عن وجوههم النار } إلى قوله تعالى : { ما كانوا به يستهزئون } [ الأنبياء : 3941 ] فرّع على ذلك كله استفهاماً تعجيبياً من عدم اهتدائهم إلى إمارات اقتران الوعد بالموعود استدلالاً على قربه بحصول أماراته .
والرؤية علمية ، وسَدت الجملة مسَدّ المفعولين لأنها في تأويل مصدر ، أي أعجبوا من عدم اهتدائهم إلى نقصان أرضهم من أطرافها ، وأن ذلك من صنع الله تعالى بتوجه عناية خاصة ، لكونه غير جار على مقتضى الغالب المعتاد ، فمَن تأمّل علم أنه من عجيب صنع الله تعالى ، وكفى بذلك دليلاً على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى صدق ما وعدهم به وعنايةِ ربه به كما دلّ عليه فعل { نأتي } .
فالإتيان تمثيل بِحال الغازي الذي يسعى إلى أرض قوم فيقتُل ويأسِرُ كما تقدم في قوله تعالى : { فأتى الله بنيانهم من القواعد } [ النحل : 26 ] .
والتعريف في { الأرض } تعريف العهد ، أي أرض العرب كما في قوله تعالى في [ سورة يوسف : 80 ] { فلن أبرح الأرض } أي أرضَ مصر .
والأطراف : جمع طَرف بفتح الطاء والراء . وهو ما ينتهي به الجسم من جهة من جهاته ، وضده الوسط .
والمراد بنقصان الأرض : نقصان مَن عليها من الناس لا نقصان مساحتها لأن هذه السورة مكية فلم يكن ساعتئذ شيء من أرض المشركين في حوزة المسلمين ، والقرينة المشاهدة .
والمراد : نقصان عدد المشركين بدخول كثير منهم في الإسلام ممن أسلم من أهل مكة ، ومن هاجر منهم إلى الحبشة ، ومَن أسلم من أهل المدينة إن كانت الآية نزلت بعد إسلام أهل العقبة الأولى أو الثانية ، فكان عدد المسلمين يومئذ يتجاوز المائتين . وتقدم نظير هذه الجملة في ختام سورة الرعد .
وجملة { أفَهمُ الغالبون } مفرعة على جملة التعجيب من عدم اهتدائهم إلى هذه الحالة . والاستفهام إنكاري ، أي فكيف يحسبون أنهم غلَبوا المسلمين وتمكنوا من الحجة عليهم .
واختيار الجملة الاسمية في قوله تعالى : { أفهم الغالبون } دون الفعلية لدلالتها بتعريف جُزْأيْهَا على القصر ، أي ما هم الغالبون بل المسلمون الغالبون ، إذ لو كان المشركون الغالبين لما كان عددهم في تناقص ، ولَمَا خلت بلدتهم من عدد كثير منهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.