{ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } فَتَمَّ خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، أولها يوم الأحد ، وآخرها يوم الجمعة ، مع أن قدرة اللّه ومشيئته صالحة لخلق الجميع في لحظة واحدة ، ولكن مع أنه قدير ، فهو حكيم رفيق ، فمن حكمته ورفقه ، أن جعل خلقها في هذه المدة المقدرة .
واعلم أن ظاهر هذه الآية ، مع قوله تعالى في النازعات ، لما ذكر خلق السماوات قال : { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } يظهر منهما التعارض ، مع أن كتاب اللّه ، لا تعارض فيه ولا اختلاف .
والجواب عن ذلك ، ما قاله كثير من السلف ، أن خلق الأرض وصورتها متقدم على خلق السماوات كما هنا ، ودحي الأرض بأن { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } متأخر عن خلق السماوات كما في سورة النازعات ، ولهذا قال فيها : { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا } إلى آخره ولم يقل : " والأرض بعد ذلك خلقها "
وقوله : { وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا } أي : الأمر والتدبير اللائق بها ، الذي اقتضته حكمة أحكم الحاكمين .
{ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } هي : النجوم ، يستنار ، بها ، ويهتدى ، وتكون زينة وجمالاً للسماء ظاهرًا ، وجمالاً لها ، باطنًا ، بجعلها رجومًا للشياطين ، لئلا يسترق السمع فيها . { ذَلِكَ } المذكور ، من الأرض وما فيها ، والسماء وما فيها { تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ } الذي عزته ، قهر بها الأشياء ودبرها ، وخلق بها المخلوقات . { الْعَلِيمِ } الذي أحاط علمه بالمخلوقات ، الغائب والشاهد .
( فقضاهن سبع سماوات في يومين ) . . ( وأوحى في كل سماء أمرها ) . .
واليومان قد يكونان هما اللذان تكونت فيهما النجوم من السدم . أو تم فيهما التكوين كما يعلمه الله . والوحي بالأمر في كل سماء يشير إلى إطلاق النواميس العاملة فيها ، على هدى من الله وتوجيه ؛ أما ما هي السماء المقصودة فلا نملك تحديداً . فقد تكون درجة البعد سماء . وقد تكون المجرة الواحدة سماء . وقد تكون المجرات التي على أبعاد متفاوتة سماوات . . وقد يكون غير ذلك . مما تحتمله لفظه سماء وهو كثير .
( وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً ) . .
والسماء الدنيا هي كذلك ليس لها مدلول واحد محدد . فقد تكون هي أقرب المجرات إلينا وهي المعروفة بسكة التبان والتي يبلغ قطرها مائة ألف مليون سنة ضوئية ! وقد يكون غيرها مما ينطبق عليه لفظ سماء . وفيه النجوم والكواكب المنيرة لنا كالمصابيح .
( وحفظاً ) . . من الشياطين . . كما يدل على هذا ما ورد في المواضع الأخرى من القرآن . . ولا نملك أن نقول عن الشياطين شيئاً مفصلاً . أكثر من الإشارات السريعة في القرآن . فحسبنا هذا . .
( ذلك تقدير العزيز العليم ) . .
وهل يقدر هذا كله ? ويمسك الوجود كله ، ويدبر الوجود كله . . إلا العزيز القوي القادر ? وإلا العليم الخبير بالموارد والمصادر ?
{ فقضاهن سبع سماوات } فخلقهن خلقا إبداعيا وأتقن أمرهن ، والضمير ل { السماء } على المعنى أو مبهم ، و{ سبع سموات } حال على الأول وتمييز على الثاني . { في يومين } قيل خلق السموات يوم الخميس والشمس والقمر والنجوم يوم الجمعة . { وأوحى في كل سماء أمرها } شأنها وما يتأتى منها بأن حملها عليه اختيارا أو طبعا . وقيل أوحى إلى أهلها بأوامره ونواهيه . { وزينا السماء الدنيا بمصابيح } فإن الكواكب كلها ترى كأنها تتلألأ عليها . { وحفظا } أي وحفظناها من الآفات ، أو من المسترقة حفظا . وقيل مفعول له على المعنى كأنه قال : وخصصنا السماء الدنيا بمصابيح زينة وحفظا . { ذلك تقدير العزيز العليم } البالغ في القدرة والعلم .
{ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماوات فِى يَوْمَيْنِ } .
تفريع على قوله : { فَقَالَ لَهَا وللأرْضضِ ائْتِيَا } [ فصلت : 11 ] .
والقضاء : الإِيجاد الإِبداعي لأن فيه معنى الإِتمام والحكم ، فهو يقتضي الابتكار والإِسراع ، كقول أبي ذؤيب الهذلي :
وعليهما مسرودتان قَضاهما *** دَاود أو صَنَعُ السوابغِ تُبَّعُ
وضَمير { فقضاهن } عائد إلى السماوات على اعتبار تأنيث لفظها ، وهذا تفنن . وانتصب { سَبْعَ سموات } على أنه حال من ضمير « قضاهن » أو عطف بيان له ، وجُوّز أن يكون مفعولاً ثانياً ل « قضاهن » لتضمين « قضاهن » معنى صيرهن ، وهذا كقوله في سورة البقرة ( 29 ) { فسواهن سبع سماوات } .
وكان خلق السماوات في يومين قبل أربعة الأيام التي خُلقت فيها الأرض وما فيها . وقد بيَّنَّا في سورة البقرة أن الأظهر أن خلق السماء كان قبل خلق الأرض وهو المناسب لقواعد علم الهيئة . وليس في هذه الآية ما يقتضي ذلك . وإنما كانت مدة خلق السماوات السبع أقصر من مدة خلق الأرض مع أن عوالم السماوات أعظم وأكثر لأن الله خلق السماوات بكيفية أسرع فلعل خلق السماوات كان بانفصال بعضها عن بعض وتفرقع أحجامها بعضها عن خروج بعض آخر منه ، وهو الذي قَرَّبه حكماء اليونان الأقدمون بما سَمَّوه صدور العقول العشرة بعضها عن بعض ، وكانت سرعة انبثاق بعضها عن بعض مَعلولة لأحوال مناسبة لما تركبت به من الجواهر . وأما خلق الأرض فالأشبه أنه بطريقة التولُّد المبطىء لأنها تكونت من العناصر الطبيعية فكان تولد بعضها عن بعض أيضاً { وما يعلم جنود ربك إلا هو } [ المدثر : 31 ] .
وهذه الأيام كانت هي مبدأ الاصطلاح على ترتيب أيام الأسبوع وقد خاض المفسرون في تعيين مبدأ هذه الأيام ، فأما كتب اليهود ففيها أن مبدأ هذه الأيام هو الأحد وأن سادسها هو يوم الجمعة وأن يوم السبت جعله الله خِلواً من الخلْق ليوافق طقوس دينهم الجاعلة يومَ السبت يوم راحة للناس ودوابّهم اقتداء بإنْهَاءِ خلق العالَمين . وعلى هذا الاعتبار جرى العرب في تسمية الأيام ابتداء من الأحد الذي هو بمعنى أول أو واحد ، واسمه في العربية القديمة ( أَول ) وذلك سرى إليهم من تعاليم اليهود أو من تعاليم أسبق كانت هي الأصل الأصيل لاصطلاح الأمتين . والذي تشهد له الأخبار من السنة أن الله خلق آدم يوم الجمعة وأنه آخر أيام الأسبوع ، وأنه خير أيام الأسبوع وأفضلها ، وأن اليهود والنصارى اختلفوا في تعيين اليوم الأفضل من الأسبوع ، وأن الله هدى إليه المسلمين . قال النبي فهذا اليوم ( أي الجمعة ) هو اليوم الذي اختلفوا فيه فَهدانا الله إليه فالناسُ لنا فيه تبع اليهودُ غداً والنصارى بعد غدٍ . ولا خلاف في أن الله خلق آدم بعد تمام خلق السماء والأرض فتعين أن يكون يومُ خلقه هو اليوم السابع .
وقد رَوى مسلم في « صحيحه » عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم « أن الله ابتدأ الخلق يوم السبت » . وقد ضعّفه البخاري وابن المديني بأنه من كلام كَعب الأحبار حدّث به أبَا هريرة وإنما اشتبه على بعض رواةِ سنده فظنه مرفوعاً .
ولهذه تفصيلات ليس وراءها طائل وإنما ألمْمنَا بها هنا لئلا يعروَ التفسير عنها فيقع من يراها في غيرِهِ في حَيْرةٍ وإنما مقصد القرآن العِبرة .
{ وأوحى فِى كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بمصابيح وحفظا } .
والوحي : الكلام الخفي ، ويطلق الوحي على حصول المعرفة في نفس من يراد حصولها عنده دون قوللٍ ، ومنه قوله تعالى حكاية عن زكرياء { فأوحى إليهم } [ مريم : 11 ] أي أومأ إليهم بما يدل على معنى : سَبحوا بُكرة وعشياً . وقول أبي دُؤاد :
يَرمُون بالخُطب الطِّوالِ وتارةً *** وَحْيَ الملاَحظ خيفةَ الرُّقَباء
ثم يتوسع فيه فيطلق على إلهام الله تعالى المخلوقات لما تتطلبه مما فيه صلاحها كقوله : { وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً } [ النحل : 68 ] أي جَبَلها على إدراك ذلك وتطلّبه ، ويطلق على تسخير الله تعالى بعض مخلوقاته لقبول أثر قدرته كقوله : { إذا زلزلت الأرض زلزالها } [ الزلزلة : 1 ] إلى قوله : { بأن ربك أوحى لها } [ الزلزلة : 5 ] .
والوحي في السماء يقع على جميع هذه المعاني من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازاته ، فهو أوحى في السماوات بتقادير نُظُم جاذبيتها ، وتقادير سير كواكبها ، وأوحى فيها بخلق الملائكة فيها ، وأوحى إلى الملائكة بما يتلقونه من الأمر بما يعملون ، قال تعالى : { وهم بأمره يعملون } [ الأنبياء : 27 ] وقال : { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [ الأنبياء : 20 ] .
و { أمرها } بمعنى شأنها ، وهو يصدق بكل ما هو من ملابساتها من سكانها وكواكبها وتماسك جرمها والجاذبية بينها وبين ما يجاورها . وذلك مقابل قوله في خلق الأرض { وجعَلَ فِيهَا رواسي مِن فَوْقِهَا وبارك فِيهَا وقَدَّرَ فِيهَا أقواتها } [ فصلت : 10 ] . { وانتصب أمرها } على نزع الخافض ، أي بأمرها أو على تضمين أَوحَى معنى قدَّر أو أودَع .
ووقع الالتفات من طريق الغيبة إلى طريق التكلم في قوله : { وَزَيَّنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بمصابيح } تجديداً لنشاط السامعين لطول استعمال طريق الغيبة ابتداءً من قوله : { بالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَينِ } [ فصلت : 9 ] مع إظهار العناية بتخصيص هذا الصنع الذي ينفع الناس ديناً ودُنيا وهو خلق النجوم الدقيقة والشهب بتخصيصه بالذكر من بين عموم { وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أمْرَهَا } ، فما السماء الدنيا إلا من جملة السماوات ، وما النجوم والشُّهُب إلا من جملة أمرها .
والمصابيح : جمع مصباح ، وهو ما يوقد بالنار في الزيت للإضاءة وهو مشتق من الصباح لأنهم يحاولون أن يجعلوه خلفاً عن الصباح . والمراد بالمصابيح : النجوم ، استعير لها المصابيح لما يبدو من نورها .
وانتصب { حفظاً } على أنه مفعول لأجله لفعل محذوف دل عليه فعل { زيَّنَّا } . والتقدير : وجعلنَاها حفظاً . والمراد : حفظاً للسماء من الشياطين المسترقة للسمع . وتقدم الكلام على نظيره في سورة الصّافات .
{ ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم }
الإِشارة إلى المذكور من قوله : { وَجَعَلَ فِيهَا رواسي مِن فَوْقِهَا } [ فصلت : 10 ] إلى قوله : { وَزَيَّنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بمصابيح وَحِفْظاً } . والتقدير : وضْع الشيء على مقدار معيَّن ، وتقدم نظيره في سورة يَس . وتقدم وجهُ إيثار وصفي { العَزِيزِ العَلِيمِ } بالذكر .