ف { قَالَ } موسى عليه السلام -مجيبا له فيما طلبه منه- : { ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ } أي : هذا الشرط ، الذي أنت ذكرت ، رضيت به ، وقد تم فيما بيني وبينك . { أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ } سواء قضيت الثماني الواجبة ، أم تبرعت بالزائد عليها { وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } حافظ يراقبنا ، ويعلم ما تعاقدنا عليه .
وهذا الرجل ، أبو المرأتين ، صاحب مدين ، ليس بشعيب النبي المعروف ، كما اشتهر عند كثير من الناس ، فإن هذا ، قول لم يدل عليه دليل ، وغاية ما يكون ، أن شعيبا عليه السلام ، قد كانت بلده مدين ، وهذه القضية جرت في مدين ، فأين الملازمة بين الأمرين ؟
وأيضا ، فإنه غير معلوم أن موسى أدرك زمان شعيب ، فكيف بشخصه ؟ " ولو كان ذلك الرجل شعيبا ، لذكره اللّه تعالى ، ولسمته المرأتان ، وأيضا فإن شعيبا عليه الصلاة والسلام ، قد أهلك اللّه قومه بتكذيبهم إياه ، ولم يبق إلا من آمن به ، وقد أعاذ اللّه المؤمنين أن يرضوا لبنتي نبيهم ، بمنعهما عن الماء ، وصد ماشيتهما ، حتى يأتيهما رجل غريب ، فيحسن إليهما ، ويسقي ماشيتهما ، وما كان شعيب ، ليرضى أن يرعى موسى عنده ويكون خادما له ، وهو أفضل منه وأعلى درجة ، والله أعلم ، [ إلا أن يقال : هذا قبل نبوة موسى فلا منافاة وعلى كل حال لا يعتمد على أنه شعيب النبي بغير نقل صحيح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ]{[600]} .
وقبل موسى العرض وأمضى العقد ؛ في وضوح كذلك ودقة ، وأشهد الله :
( قال ذلك بيني وبينك . أيما الأجلين قضيت فلا عدوان على . والله علي ما نقول وكيل ) .
إن مواضع العقد وشروط التعاقد لا مجال للغموض فيها ، ولا اللعثمة ، ولا الحياء . ومن ثم يقر موسى العرض ، ويبرم العقد ، على ما عرض الشيخ من الشروط . ثم يقرر هذا ويوضحه : ( أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي ) . . سواء قضيت ثماني سنوات أو أتممت عشرا ، فلا عدوان في تكاليف العمل ، ولا عدوان في تحتيم العشر ؛ فالزيادة على الثمانية اختيار . . ( والله على ما نقول وكيل ) . فهو الشهيد الموكل بالعدل بين المتعاقدين . وكفى بالله وكيلا .
بين موسى - عليه السلام - هذا البيان تمشيا مع استقامة فطرته ، ووضوح شخصيته ، وتوفية بواجب المتعاقدين في الدقة والوضوح والبيان . وهو ينوي أن يوفي بأفضل الأجلين كما فعل . فقد روي أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أخبر أنه : " قضى أكثرهما وأطيبهما " .
وهكذا اطمأن بموسى - عليه السلام - المقام في بيت حميه ؛ وقد أمن من فرعون وكيده . ولحكمة مقدرة في علم الله كان هذا الذي كان . . فلندع الآن هذه الحلقة تمضي في طريقها حتى تنقضي . فقد سكت السياق فيها عند هذا الحد وأسدل الستار . .
{ قال ذلك بيني وبينك } أي ذلك الذي عاهدتني فيه قائم بيننا لا نخرج عنه . { أيما الأجلين } أطولهما أو أقصرهما . { قضيت } وفيتك إياه . { فلا عدوان علي } لا تعتدي علي بطلب الزيادة فكما لا أطالب بالزيادة على العشر لا أطالب بالزيادة على الثمان ، أو فلا أكون متعديا بترك الزيادة عليه كقولك لا إثم علي ، وهو أبلغ في إثبات الخيرة وتساوي الأجلين في القضاء من أن يقال إن قضيت الأقصر فلا عدوان علي . وقرئ { أيما } كقوله :
تنظرت نصرا والسماكين أيما *** علي من الغيث استهلت مواطره
وأي الأجلين ما قضيت فتكون ما مزيدة لتأكيد الفعل أي : أي الأجلين جردت عزمي لقضائه ، وعدوان بالكسر . { والله على ما نقول } من المشارطة . { وكيل } شاهد حفيظ .
لما فرغ كلام شعيب قرره موسى عليه السلام وكرر معناه على جهة التوثق في أن الشرط إنما وقع في ثمان حجج ، و { أيما } استفهام نصبه ب { قضيت } وما صلة للتأكيد ، وقرأ الحسن «أيْما » بسكون الياء ، وقرأ ابن مسعود «أي الأجلين ما قضيت » ، وقرأ الجمهور «فلا عُدوان » بضم العين وقرأ أبو حيوة «فلا عِدوان » بكسر العين ، والمعنى لا تبعة علي من قول ولا فعل ، و «الوكيل » الشاهد القائم بالأمر ، قال ابن زيد : ولما كمل هذا النكاح بينهما أمر شعيب موسى أن يسير إلى بيت له فيه عصيّ وفيه هذا العصا ، فروي أن العصا وثبت إلى موسى فأخذها وكانت عصا آدم وكانت من عير ورقة الريحان ، فروي أن شعيباً أمره بردها ففعل وذهب يأخذ غيرها ، فوثبت إليه ، وفعل ذلك ثالثة ، فلما رأى شعيب ذلك علم أنه يرشح للنبوءة فتركها له ، وقيل إنما تركها له لأنه أمر موسى بتركها ، فأبى موسى ذلك فقال له شعيب : نمد إليها جميعاً فمن طاوعته فهي له ، فمد إليها شعيب يده فثقلت ، ومد إليها موسى فخفت ووثبت إليه ، فعلما أن هذا من الترشيح ، وقال عكرمة : إن عصا موسى إنما دفعها إليه جبريل ليلاً عند توجهه إلى مدين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال} موسى: {ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت} ثماني سنين أو عشر سنين {فلا عدوان} يعني فلا سبيل {علي والله على ما نقول وكيل} يعني شهيد فيما بيننا... فأتم موسى، عليه السلام، عشر سنين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"قالَ" موسى لأبي المرأتين "ذلكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ "أي هذا الذي قلت من أنك تزوّجني أحدى ابنتيك على أن آجرك ثماني حِجَج، واجب بيني وبينك، على كل واحد منا الوفاء لصاحبه بما أوجب له على نفسه.
وقوله: "أيّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ" يقول: أيّ الأجلين من الثماني الحجج والعشر الحجج "قضيت"، يقول: فرغت منها فوفيتكها رعي غنمك وماشيتك "فَلا عُدْوَانَ عَليّ" يقول: فليس لك أن تعتدي عليّ، فتطالبني بأكثر منه... وقوله: "وَاللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ" كان ابن إسحاق يرى هذا القول من أبي المرأتين... عن ابن إسحاق، قال: قال موسى "ذلكَ بَيْني وبَيْنَكَ أيّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَليّ"، قال: نعم. "واللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ" فزوّجه، وأقام معه يكفيه، ويعمل له في رعاية غنمه، وما يحتاج إليه منه... وقوله: "وَاللّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ" يقول: والله على ما أوجب كلّ واحد منا لصاحبه على نفسه بهذا القول، شهيد وحفيظ... فرعَى له عشر سنين. قال عبد الله بن عباس. كان موسى أحقّ بالوفاء.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فلا عدوان علي} يقول: لا سبيل لك علي بعد ذلك، ولا تبعة. والعدوان: هو الظلم والمجاوزة عن الحد الذي جعل له؛ يقول: لا ظلم علي، ولا مجاوزة علي، أي الاختيار إلي، "قضيت "أي الأجلين: اخترت، وشئت أنا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ} أي لا يعتدي عليّ في طلب الزيادة عليه. فإن قلت: تصوّر العدوان إنما هو في أحد الأجلين الذي هو الأقصر وهو المطالبة بتتمة العشر، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعاً؟ قلت: معناه كما أني إن طولبت بالزيادة على العشر كان عدواناً لا شك فيه، فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثمان. أراد بذلك تقرير أمر الخيار، وأنه ثابت مستقرّ، وأن الأجلين على السواء: إما هذا وإما هذا من غير تفاوت بينهما في القضاء وأما التتمة فموكولة إلى رأيي: إن شئت أتيت بها، وإلا لم أجبر عليها. وقيل: معناه فلا أكون متعدّياً، وهو في نفي العدوان عن نفسه، كقولك: لا إثم عليّ، ولا تبعة عليّ.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذا الرجل، أبو المرأتين، صاحب مدين، ليس بشعيب النبي المعروف، كما اشتهر عند كثير من الناس، فإن هذا، قول لم يدل عليه دليل، وغاية ما يكون، أن شعيبا عليه السلام، قد كانت بلده مدين، وهذه القضية جرت في مدين، فأين الملازمة بين الأمرين؟ وأيضا، فإنه غير معلوم أن موسى أدرك زمان شعيب، فكيف بشخصه؟ "ولو كان ذلك الرجل شعيبا، لذكره اللّه تعالى، ولسمته المرأتان، وأيضا فإن شعيبا عليه الصلاة والسلام، قد أهلك اللّه قومه بتكذيبهم إياه، ولم يبق إلا من آمن به، وقد أعاذ اللّه المؤمنين أن يرضوا لبنتي نبيهم، بمنعهما عن الماء، وصد ماشيتهما، حتى يأتيهما رجل غريب، فيحسن إليهما، ويسقي ماشيتهما، وما كان شعيب، ليرضى أن يرعى موسى عنده ويكون خادما له، وهو أفضل منه وأعلى درجة، والله أعلم، [إلا أن يقال: هذا قبل نبوة موسى فلا منافاة وعلى كل حال لا يعتمد على أنه شعيب النبي بغير نقل صحيح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم].
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقبل موسى العرض وأمضى العقد؛ في وضوح كذلك ودقة، وأشهد الله:
(قال ذلك بيني وبينك. أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي. والله علي ما نقول وكيل).
إن مواضع العقد وشروط التعاقد لا مجال للغموض فيها، ولا اللعثمة، ولا الحياء. ومن ثم يقر موسى العرض، ويبرم العقد، على ما عرض الشيخ من الشروط. ثم يقرر هذا ويوضحه: (أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي).. سواء قضيت ثماني سنوات أو أتممت عشرا، فلا عدوان في تكاليف العمل، ولا عدوان في تحتيم العشر؛ فالزيادة على الثمانية اختيار.. (والله على ما نقول وكيل). فهو الشهيد الموكل بالعدل بين المتعاقدين. وكفى بالله وكيلا.
بين موسى -عليه السلام- هذا البيان تمشيا مع استقامة فطرته، ووضوح شخصيته، وتوفية بواجب المتعاقدين في الدقة والوضوح والبيان. وهو ينوي أن يوفي بأفضل الأجلين كما فعل. فقد روي أن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أخبر أنه:"قضى أكثرهما وأطيبهما".
وهكذا اطمأن بموسى -عليه السلام- المقام في بيت حميه؛ وقد أمن من فرعون وكيده. ولحكمة مقدرة في علم الله كان هذا الذي كان.. فلندع الآن هذه الحلقة تمضي في طريقها حتى تنقضي. فقد سكت السياق فيها عند هذا الحد وأسدل الستار..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والعبرة من سياقة هذا الجزء من القصة المفتتح بقوله تعالى {ولما توجه تلقاء مدين} [القصص: 22] إلى قوله {والله على ما نقول وكيل} [القصص: 28] هو ما تضمنته من فضائل الأعمال ومناقب أهل الكمال وكيف هيأ الله تعالى موسى لتلقي الرسالة بأن قلّبه في أطوار الفضائل، وأعظمها معاشرة رسول من رسل الله ومصاهرته، وما تتضمنه من خصال المروءة والفتوة التي استكنت في نفسه من فعل المعروف، وإغاثة الملهوف، والرأفة بالضعيف، والزهد، والقناعة، وشكر ربه على ما أسدى إليه، ومن العفاف والرغبة في عشرة الصالحين، والعمل لهم، والوفاء بالعقد، والثبات على العهد حتى كان خاتمة ذلك تشريفه بالرسالة وما تضمنته من خصال النبوءة التي أبداها شعيب من حب القرى، وتأمين الخائف، والرفق في المعاملة، ليعتبر المشركون بذلك إن كان لهم اعتبار في مقايسة تلك الأحوال بأجناسها من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم فيهتدوا إلى أن ما عرفوه به من زكي الخصال قبل رسالته وتقويم سيرته، وزكاء سريرته، وإعانته على نوائب الحق، وتزوجه بأفضل امرأة من نساء قومه، إن هي إلا خصال فاذة فيه بين قومه وإن هي إلا بوارق لانهطال سحاب الوحي عليه.
والله أعلم حيث يجعل رسالاته وليأتسي المسلمون بالأسوة الحسنة من أخلاق أهل النبوءة والصلاح.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
تعليق وتحقيق حول الرجل الذي لقيه موسى وبقي اسمه "مبهما "في طي الكتمان من دون أن يكشف عنه القرآن: والآن وبعد أن فرغنا من تفسير الآيات الكريمة المتعلقة بهجرة موسى من مصر وحلوله بأرض مدين، وما جرى له مع بنتي "شيخ مدين الكبير" وما انتهى إليه أمره معه من مؤاجرة ومصاهرة، وإقامة بجواره خلال عشر سنوات، من حق أي سائل أن يتساءل: من هو ذلك "الشيخ الكبير" الذي لم يصرح كتاب الله باسمه، وإنما تركه "مبهما "؟ هل صحيح ما جرى على كثير من الألسنة والأقلام، من أن المراد به هو نفس النبي شعيب عليه السلام؟ أم ان ذلك مجرد تخمين أو التباس، أوقع فيه ما هو متعارف من كون" مدين "هي وطن النبي" شعيب"، وكون "شعيب" هو "أخ مدين" المرسل إلى أهلها، حتى أصبح اسم "مدين" مقرونا باسم "شعيب" واسم "شعيب" مقرونا باسم "مدين"، من باب" تداعي الخواطر والمعاني والأفكار "؟ وجوابا على هذا السؤال الملح نقدم الملاحظات التالية التي انتهينا إليها، بعد أن أعدنا النظر في هذا الموضوع، ودققنا البحث فيه بقدر المستطاع. ـ أولا: إن شعيبا عليه السلام ـ حسبما حكى عنه كتاب الله ـ لم يكن فريدا ولا وحيدا دون أتباع ولا أنصار، بل كان له ـ كبقية الأنبياء ـ "رهط" من قومه المومنين به يقفون بجانبه في الشدة والرخاء، والسراء والضراء، حتى أن كفار مدين ـ رغما عن مهاجمتهم إياه وتحديهم له ـ لم يسعهم إلا الاعتراف بأن له عصبة قوية تقف في وجوههم، وتدفع عنه أذاهم، وهم يتفادون المواجهة معها، بدليل قولهم لشعيب وهم يخاطبونه: {ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز} كما حكى عنهم كتاب الله في سورة هود [الآية: 91]، بينما "الشيخ الكبير" الذي سقى موسى لبناته يصوره كتاب الله فريدا وحيدا عاجزا عن القيام بشؤونه، ولذلك لجأ إلى تكليف بناته برعي غنمه وسقيها، وعندما يرد بناته "ماء مدين" يقفن منتظرات، من دون أن يبادر أحد من الرعاة الأشداء إلى مساعدتهن، اللهم إلا هذا الغريب و "عابر السبيل" الذي وفد من مصر إلى مدين ذات يوم، قبل أن ينبأ، واسمه "موسى"، ولو كان" الشيخ الكبير "الذي لقي موسى بناته هو نفس النبي شعيب عليه السلام لما وكله" رهطه "والمؤمنون برسالته إلى نفسه، ولما تركوا بناته يقمن بهذا العمل المضنى، ولكان نبيهم هو أول من يسقون له ويرعون غنمه، ويقومون بخدمته، ولاسيما وهم يرون انه بلغ سن الشيخوخة والكبر، الذي يعجز فيه أغلب الناس عن كثير من الأعمال، ويحتاجون إلى المزيد من البرور والإحسان. ـ
ثانيا: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه"، وفي لفظ آخر: "ما بعث الله نبيا إلا وهو في عز من قومه ومنعة في بلده" ـ رواه الإمام أحمد في مسنده. وهذا الحديث يتفق معناه مع الآية السابقة الواردة في سورة هود، التي تثبت أن لشعيب عليه السلام "رهطا" ينصرونه ويقفون بجانبه، وبذلك كان شعيب عليه السلام فعلا في "عز قومه ومنعة في بلده"، بينما" الشيخ الكبير "الذي لقي موسى بناته لما" ورد ماء مدين "يصوره كتاب الله في عزلة تامة لا يأخذ بيده إلا بناته المحتشمات من دون غيرهن، ولا يأخذ بيدهن أحد، لولا المفاجأة التي حصلت لهن عند حلول موسى بأرض مدين. ـ
ثالثا: إن كتاب الله وضح في سور عديدة المآل الذي آل إليه أمر شعيب عليه السلام، بعد أن بذل كل جهوده في تبليغ الرسالة إلى قومه ومحاجته لهم، ولم يبق له أمل في إيمانه الكثرة الساحقة منهم، وهو أنه" تولى عنهم "وفارقهم بالمرة، غير" آسف عليهم ولا محزون"، ووكلهم إلى عقاب الله وعذابه، فأصاب كفار مدين من العذاب ثلاثة ألوان: عذاب "يوم الظلة"، وهي سحابة اظلتهم، فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم، وعذاب" الصيحة "التي جاءتهم من فوق رؤوسهم، وعذاب" الرجفة "التي جاءتهم من تحت أرجلهم، فزهقت منهم الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام، {فأصبحوا في دارهم جاثمين}. ومعنى هذا أن قوم مدين الذي أرسل الله إليهم أخاهم شعيبا فكفروا به بادوا وانقرضوا. وإذن" فالأمة من الناس "الذين وجدهم موسى يسقون لما" ورد ماء مدين "لا يمكن أن يكونوا هم قوم شعيب الذين عاقبهم الله وقطع دابرهم، ولا يعقل أن يكونوا من الفئة القليلة التي آمنت به، إذ لو كانوا من المؤمنين برسالة شعيب، وشعيب لا يزال حيا يرزق بين أظهرهم، لما أهملوا أمره وأمر أهله إلى هذا الحد، بل لا شك أنهم قوم آخرون عمروا هذا المكان، واستقروا به بعد ذهاب أهله وانقراضهم، وانتهاء عصر شعيب ورسالته، ودخولهما في ذمة التاريخ. ـ
رابعا: على فرض أن النبي شعيبا عليه السلام عاش ولم يفارق مدين حتى ادركه موسى، وأنه هو الذي استضافه وصاهره واستأجره، فقضى موسى بجانبه عشر سنوات كاملة، هل يعقل أن لا يتحدث كتاب الله عن عشرتهما الطويلة ـ والحال ان الأول نبي ورسول، والثاني مرشح في علم الله للنبوة والرسالة ـ إلا حديثا مقتضبا لا يتجاوز سبع آيات، من الآية 21 إلى الآية 28 في هذا الثمن، ومن دون أن يمس في الصميم أي جانب من جوانب الدين الأساسية، التي طالما حاور شعيب قومه في شأنها، والتي سيحاور موسى في شأنها فرعون وملأه بعد فترة من الزمن، عندما يفارق مدين ويبعث من ربه رسولا. بينما نجد كتاب الله يطيل النفس في الحديث عن لقاء موسى، بعد نبوءته، بعبد من عباد الله آتاه الله من لدنه علما، ويفصل القول في تسجيل حوارهما الممتع والمثير، ويصف المفاجآت التي فوجئ بها موسى من طرف محاوره الصالح الحكيم أدق وصف وأغربه. وها هي سورة الكهف شاهدة على ذلك، فقد خصصت للقائهما اثنتين وعشرين آية، من الآية 60 إلى الآية 72، هذا وموسى وقتئذ هو الرسول، ومحاوره إنما هو رجل صالح علمه الله ما لم يكن يعلم، وليس في عداد الأنبياء، ألا يدل هذا كله على أن" الشيخ الكبير "الذي لقيه موسى بمدين لم يكن هو النبي شعيبا عليه السلام؟ ـ
خامسا: إن كتاب الله عندما قص في سورة الأعراف قصة آدم في ست عشرة آية أتبعها بقصص مجموعة من الأنبياء والمرسلين على التتابع، فبدأ بقصة نوح مع قومه، التي استغرقت خمس آيات، أولها: {لقد أرسلنا نوحا إلى قومه}، ثم ثنى بقصة هود مع عاد، التي استغرقت سبع آيات، أولها: {وإلى عاد أخاهم هودا}، ثم ثلث بقصة صالح مع ثمود، التي استغرقت سبع آيات أيضا، أولها: {وإلى ثمود أخاهم صالحا}، ثم ربع بقصة لوط مع قومه، التي استغرقت أربع آيات، أولها: {ولوطا إذ قال لقومه}، ثم خمس بقصة شعيب مع مدين، التي استغرقت ثمان آيات، أولها: {وإلى مدين أخاهم شعيبا}، وعقب على قصص هذه المجموعة من الرسل بقوله تعالى: {تلك القرى نقص عليك من أنبائها، ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليومنوا} إلى قوله تعالى تعقيبا على الجميع، وإلحاقا بكل ما سبق من أخبار أولئك الرسل وأقوامهم: {ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه}، واستغرقت قصة موسى التي جاءت مستقلة عما سبقها من قصص الرسل السابقين أربعا وخمسين آية.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
1 ـ شرطان أساسيان للإدارة الصحيحة
في العبارة القصيرة التي وردت في الآيات المتقدمة على لسان بنت شعيب في شأن استئجار موسى، كان من أهم الشروط وأكثرها أصالةً شرطان لخّصا في «القوّة» و«الأمانة».
ومن البديهي أنّ القوّة المذكورة ـ آنفاً ـ ليس المراد منها قوّة الجسم فحسب، بل القدرة على تحمّل المسؤولية أيضاً.
فالطبيب «القوي الأمين» هو الطبيب الذي له معرفة جيدة وكافية في عمله، وله تسلّط عليه أيضاً.
والمدير القوى هو الذي يعرف «أصول الإدارة» ويعرف الأهداف المطلوبة.. وله تسلط في وضع الخطط و«البرامج»، وله سهم وافر في الابتكار وتنظيم الأعمال.. ويعبي القوى في سبيل الوصول للهدف المعين.
وفي الوقت ذاته يكون مشفقاً وناصحاً وأميناً وصادقاً في العمل.
والأشخاص الذين يقنعون في تحمل المسؤولية وجود الأمانة والطهارة فحسب، هم مخطئون بمقدار خطأ من يعتمد على سمة التخصص والعلم فحسب.
فالمتخصصون الخونة والعلماء المنحرفون يضربون ضربتهم كما يضربها المخلصون الذين لاحظ لهم من الاطلاع والمهارة في العمل.
وإذا أردنا أن نخرّب دولة ما فينبغي أن نوكل الأُمور إلى إحدى هاتين الطائفتين.. إلى مدراء خائنين لـ «الأمانة»، إلى المخلصين الذين لاحظ لهم من العلم والإدارة والنتيجة واحدة.
إنّ منطق الإسلام هو أن يوكل كل عمل إلى شخص قوي أمين مقتدر، ليصل نظام المجتمع إلى الكمال، وإذا ما تأمّلنا في سبب زوال الحكومات في طول التأريخ، وفكّرنا في الأمر، وجدنا العامل الأصلي هو إيكال الأمر إلى إحدى هاتين الطائفتين اللتين تكلمنا عنهما آنفاً.
ومن الطريف أنّ منهج الإسلام في جميع الأُمور أنّه يقرن «العلم مع التقوى» جنباً إلى جنب.
فمرجع التقليد لابدّ أن يكون «مجتهداً عادلا» والقاضي وكذلك القائد يجب أن يكون «مجتهداً عادلا».. وبالطبع فإن شروطاً أُخرى ينبغي توفرها أيضاً، ولكن أساس هذه الشروط جميعاً شرطان هما «العلم المقترن بالتقوى والعدل».