194 - 196 إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ .
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نزلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ .
وهذا من نوع التحدي للمشركين العابدين للأوثان ، يقول تعالى : إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ أي : لا فرق بينكم وبينهم ، فكلكم عبيد للّه مملوكون ، فإن كنتم كما تزعمون صادقين في أنها تستحق من العبادة شيئا فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فإن استجابوا لكم وحصلوا مطلوبكم ، وإلا تبين أنكم كاذبون في هذه الدعوى ، مفترون على اللّه أعظم الفرية ، وهذا لا يحتاج إلى التبيين فيه ، فإنكم إذا نظرتم إليها وجدتم صورتها دالة على أنه ليس لديها من النفع شيء ، فليس لها أرجل تمشي بها ، ولا أيد تبطش بها ، ولا أعين تبصر بها ، ولا آذان تسمع بها ، فهي عادمة لجميع الآلات والقوى الموجودة في الإنسان .
فإذا كانت لا تجيبكم إذا دعوتموها ، وهي عباد أمثالكم ، بل أنتم أكمل منها وأقوى على كثير من الأشياء ، فلأي شيء عبدتموها .
قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ أي : اجتمعوا أنتم وشركاؤكم على إيقاع السوء والمكروه بي ، من غير إمهال ولا إنظار{[336]} فإنكم غير بالغين لشيء من المكروه بي .
وفي نهاية هذه المحاجة يوجه الله سبحانه رسوله [ ص ] : أن يتحداهم ويتحدى آلهتهم العاجزة - كلها - وأن يعلن عن عقيدته الناصعة في تولي الله - وحده - له :
( قل : ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون . إن وليي الله الذي نزل الكتاب ، وهو يتولى الصالحين . والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون . . وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا ، وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ) . .
إنها كلمة صاحب الدعوة ، في وجه الجاهلية . . ولقد قالها رسول الله [ ص ] كما أمره ربه ؛ وتحدى بها المشركين في زمانه وآلهتهم المدعاة :
( قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون ) . .
لقد قذف في وجوههم ووجوه آلهتهم المدعاة بهذا التحدي . . وقال لهم : ألا يألوا جهداً في جمع كيدهم وكيد آلهتهم ؛ بلا إمهال ولا إنظار ! وقالها في لهجة الواثق المطمئن إلى السند الذي يرتكن إليه ، ويحتمي به من كيدهم جميعاً :
فأعلن بها عمن إليه يرتكن . إنه يرتكن إلى الله . . الذي نزل الكتاب . . فدل بتنزيله على إرادته - سبحانه - في أن يواجه رسوله الناس بالحق الذي فيه ؛ كما قدر أن يعلي هذا الحق على باطل المبطلين . . وأن يحمي عباده الصالحين الذين يبلغونه ويحملونه ويثقون فيه .
وإنها لكلمة صاحب الدعوة إلى الله - بعد رسول الله [ ص ] - في كل مكان وفي كل زمان :
( قل : ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون ) . . ( إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ) .
إنه لا بد لصاحب الدعوة إلى الله أن يتجرد من أسناد الأرض ؛ وأن يستهين كذلك بأسناد الأرض
إنها في ذاتها واهية واهنة ، مهما بدت قوية قادرة : ( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له : إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له ، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه . ضعف الطالب والمطلوب ! ) . . ( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً ، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ! ) . .
وصاحب الدعوة إلى الله يرتكن إلى الله . فما هذه الأولياء والأسناد الأخرى إذن ؟ وماذا تساوي في حسه ؛ حتى لو قدرت على أذاه ؟ ! إنما تقدر على أذاه بإذن ربه الذي يتولاها . لا عجزاً من ربه عن حمايته من أذاها _ سبحانه وتعالى _ ولا تخلياً منه سبحانه عن نصرة أوليائه . . ولكن ابتلاء لعباده الصالحين للتربية والتمحيص والتدريب . واستدراجاً لعباده الطالحين للإعذار والإمهال والكيد المتين !
لقد كان أبو بكر - رضي الله عنه - يردد ، والمشركون يتناولونه بالأذى ؛ ويضربون وجهه الكريم بالنعال المخصوفة يحرفونها إلى عينيه ووجهه ، حتى تركوه وما يعرف له فم من عين ! . . كان يردد طوال هذا الاعتداء المنكر الفاجر على أكرم من أقلت الأرض بعد رسول الله [ ص ] : " رب ما أحلمك ! رب ما أحلمك ! رب ما أحلمك ! . . . " كان يعرف في قراره نفسه ما وراء هذا الأذى من حلم ربه ! لقد كان واثقاً أن ربه لا يعجز عن التدمير على أعدائه ؛ كما كان واثقاً أن ربه لا يتخلى عن أوليائه !
ولقد كان عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول ، وقد تناوله المشركون بالأذى - لأنه أسمعهم القرآن في ناديهم إلى جوار الكعبة - حتى تركوه وهو يترنح لا يصلب قامته ! . . كان يقول بعد هذا الأذى المنكر الفاجر الذي ناله : " والله ما كانوا أهون عليّ منهم حينذاك ! " . . كان يعرف أنهم يحادون الله - سبحانه - وكان يستيقن أن الذي يحاد الله مغلوب هين على الله . فينبغي أن يكون مهيناً عند أولياء الله .
ولقد كان عبد الله بن مظعون - رضي الله عنه - يقول ، وقد خرج من جوار عتبة بن ربيعة المشرك ، لأنه لم يستسغ لنفسه أن يحتمي بجوار مشرك فكيف عنه الأذى ، وإخوان له في الله يؤذون في سبيل الله . وقد تجمع عليه المشركون - بعد خروجه من جوار عتبة - فآذوه حتى خسروا عينه . . كان يقول لعتبة وهو يراه في هذه الحال فيدعوه أن يعود إلى جواره : " لأنا في جوار من هو أعز منك ! " . . وكان يرد على عتبة إذ قال له : " يا ابن أخي لقد كانت عينك في غنى عمَّا أصابها ! " . . يقول : " لا والله . وللأخرى أحق لما يصلحها في سبيل الله ! " . . كان يعلم أن جوار ربه أعز من جوار العبيد . وكان يستيقن أن ربه لا يتخلى عنه ، ولو تركه يؤذى في سبيله هذا الأذى لترتفع نفسه إلى هذا الأفق العجيب : " لا والله . وللأخرى أحق لما يصلحها في سبيل الله " . .
هذه نماذج من ذلك الجيل السامق الذي تربى بالقرآن في حجر محمد [ ص ] في ظلال ذلك التوجيه الرباني الكريم :
( قل : ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون . إن وليي الله الذي نزل الكتاب ، وهو يتولى الصالحين ) . .
ثم ماذا كان بعد هذا الأذى الذي احتملوه من كيد المشركين . وهذا الاعتصام بالله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ؟
كان ما يعرفه التاريخ ! كانت الغلبة والعزة والتمكين لأولياء الله . وكانت الهزيمة والهوان والدثور للطواغيت الذين قتلهم الصالحون . وكانت التبعية ممن بقي منهم - ممن شرح الله صدره للإسلام - لهؤلاء السابقين ، الذين احتملوا الأذى بثقة في الله لا تتزعزع ، وبعزمة في الله لا تلين !
إن صاحب الدعوة إلى الله - في كل زمان وفي كل مكان - لن يبلغ شيئاً إلا بمثل هذه الثقة ، وإلا بمثل هذه العزمة ، وإلا بمثل ذلك اليقين :
( إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ) . .
إن أصنامهم هذه الساذجة بهيئتها الظاهرة : ليس لها أرجل تمشي بها ، وليس لها أيد تبطش بها . وليس لها أعين تبصر بها ، وليس لها آذان تسمع بها . . هذه الجوارح التي تتوافر لهم هم . فكيف يعبدون ما هو دونهم من هذه الأحجار الهامدة ؟
فأما ما يرمزون إليه بهذه الأصنام من الملائكة حيناً ، ومن الآباء والأجداد حيناً . . فهم عباد أمثالهم من خلق الله مثلهم . لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ، ولا يملكون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون !
والازدواج في عقائد مشركي العرب بين الأصنام الظاهرة ، والرموز الباطنة هو - فيما نحسب - سبب مخاطبتهم هكذا عن هذه الآلهة : مرة بضمير العاقل ملحوظاً فيها ما وراء الأصنام من الرمز ، ومرة بالإشارة المباشرة إلى الأصنام ذاتها ، وأنها فاقدة للحياة والحركة ! وهي في مجموعها ظاهرة البطلان في منطق العقل البشري ذاته ، الذي يوقظه القرآن ، ويرفعه عن هذه الغفلة المزرية !
ثم عاد عليه بالنقض فقال : { ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيدٍ يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها } وقرئ { إن الذين } بتخفيف { أن } ونصب { عباد } على أنها نافية عملت عمل ما الحجازية ولم يثبت مثله ، و{ يبطشون } بالضم ها هنا وفي " القصص " و " الدخان " . { قل ادعوا شركاءكم } واستعينوا بهم في عداوتي { ثم كيدون } فبالغوا فيما تقدرون عليه من مكر ، وهي أنتم وشركاؤكم . { فلا تنظرون } فلا تمهلون فإني لا أبالي بكم لوثوقي على ولاية الله تعالى وحفظه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الذين عبدوا الأصنام من دونه معرّفهم جهل ما هم عليه مقيمون: ألِأصنامكم هذه أيها القوم "أرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها "فيسعون معكم ولكم في حوائجكم ويتصرّفون بها في منافعكم؟ "أمْ لَهُمْ أيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها" فيدفعون عنكم وينصرونكم بها عند قصد من يقصدكم بشرّ ومكروه؟ "أمْ لَهُمْ أعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها" فيعرّفوكم ما عاينوا وأبصروا مما تغيبون عنه فلا ترونه؟ "أمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ" بِها فيخبروكم بما سمعوا دونكم مما لم تسمعوه؟ يقول جلّ ثناؤه: فإن كانت آلهتكم التي تعبدونها ليس فيها شيء من هذه الآلات التي ذكرتها، والمعظّم من الأشياء إنما يعظّم لما يرجى منه من المنافع التي توصل إليه بعض هذه المعاني عندكم، فما وجه عبادتكم أصنامكم التي تعبدونها، وهي خالية من كلّ هذه الأشياء التي بها يوصل إلى اجتلاب النفع ودفع الضرّ؟
وقوله: "قُلْ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمّ كِيدُونِ" أنتم وهن، "فَلا تُنْظِرُونِ" يقول: فلا تؤخرون بالكيد والمكر، ولكن عجلوا بذلك، يُعلمه جلّ ثناؤه بذلك أنهم لن يضرّوه، وأنه قد عصمه منهم، ويعرّف الكفرة به عجز أوثانهم عن نصرة من بغى أولياءهم بسوء.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
...يسفّه عقولهم بعبادتهم الأصنام التي لا أرجل لهم يمشون بها، يهربون ممن يقصدهم بالسوء، أو يقصدون بهم قصد من أراد الضر بهم والسوء، وكذلك يعبدون ما لا أيدي لهم يبطشون بها يدفعون عن أنفسهم من أراد بهم السوء، أو يأخذون من يقصدهم. وكذلك قوله تعالى: {أم لهم أعين يبصرون بها} يبصرون من يقصدهم بالسوء {أم لهم آذان يسمعون بها} من يشتمهم، ويذكرهم بالسوء؟ يسفّههم في عبادتهم من لا يملك دفع من يقصده بالسوء إما هربا منه وإما قصدا منه إليه بالسوء. فإذا كانوا لا يملكون ذلك كيف تعبدون؟ وهو كقول إبراهيم عليه السلام {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا} [مريم: 42] فإذا كانوا لا يملكون دفع ما يحل بهم كيف يملكون جر النفع إليكم أو دفع الضر عنكم؟ وقوله تعالى: {قل ادعوا شركاءكم} قال بعض أهل التأويل: خاطب كفار مكة بقوله تعالى: {قل ادعوا شركاءكم} الذين تزعمون أنهم آلهة دون الله... {ثم كيدوني} ويحتمل أن يكون الخطاب لجميع الكفار الذين يعبدون الأصنام والأوثان من دون الله. قال ذلك لهم رسول الله بين ظهرانيهم {ثم كيدون فلا تنظرون} ثم لم يقدر أحد الكيد به والضرر مع قوّتهم وعدتهم بالكثرة والأعوان وضعف رسوله وقلة أعوانه. دل عجزهم عن ذلك أنه كان آية في نفسه، وأنه بالله تعالى ينتصر، وبه قوي على أعدائه. وذلك من عظيم آياته لأنه قال ذلك لمن همهم القتل والإهلاك لمن خالفهم في ما في هم فيه. ثم لم يقدر أحد منهم الضرر به. دل أنه بالله حفظه. وكذلك سائر الأنبياء، صلوات الله عليهم، حين كانوا بين ظهراني قومهم من نحو هود ونوح وهؤلاء {فكيدوني جميعا ولا تنظرون} [هود: 55] وقال نوح: {إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون} الآية [هود: 38]...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
بيَّن بهذه الآيات أن الأصنام التي عبدوها دونَهم فيما اعتقدوا فيه صفة المدح، ثم لم يعبد بعضهم بعضاً، فكيف استجازوا عبادةَ ما فاقهم في النقص؟. قوله جلّ ذكره: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونَ}. صدق التوكل على الله يوجب ترك المبالاة بغير الله، كيف لا... والمتفرِّدُ بالقدرة -على النفع والضرر، والخير والشر- اللهُ؟...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَلاَ تُنظِرُونِ} فإني لا أبالي بكم، ولا يقول هذا إلا واثق بعصمة الله، وكانوا قد خوّفوه آلهتهم فأمر أن يخاطبهم بذلك، كما قال قوم هود له: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء} [هود: 54] قال لهم: {إِنّي بريء مّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} [هود: 55]...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {ألهم أرجل...} الغرض من هذه الآية، ألهم حواس الحي وأوصافه؟ فإذا قالوا لا، حكموا بأنها جمادات فجاءت هذه التفصيلات لذلك المجمل الذي أريد التقرير عليه فإذا وقع الإقرار بتفصيلات القضية لزم الإقرار بعمومها وكان بيانها أقوى ولم تبق بها استرابة، قال الزهراوي: المعنى أنتم أفضل منهم بهذه الجوارح النافعة فكيف تعبدونهم؟...
اعلم أن هذا نوع آخر من الدليل في بيان أنه يقبح من الإنسان العاقل أن يشتغل بعبادة هذه الأصنام. وتقريره أنه تعالى ذكر في هذه الآية أعضاء أربعة، وهي الأرجل والأيدي والأعين والآذان، ولا شك أن هذه الأعضاء إذا حصل في كل واحدة منها ما يليق بها من القوى المحركة والمدركة تكون أفضل منها إذا كانت خالية عن هذه القوى، فالرجل القادرة على المشي واليد القادرة على البطش أفضل من اليد والرجل الخاليتين عن قوة الحركة والحياة، والعين الباصرة والأذن السامعة أفضل من العين والأذن الخاليتين عن القوة الباصرة والسامعة، وعن قوة الحياة، وإذا ثبت هذا ظهر أن الإنسان أفضل بكثير من هذه الأصنام، بل لا نسبة لفضيلة الإنسان إلى فضل هذه الأصنام البتة، وإذا كان كذلك فكيف يليق بالأفضل الأكمل الأشرف أن يشتغل بعبادة الأخس الأدون الذي لا يحس منه فائدة البتة، لا في جلب المنفعة ولا في دفع المضرة. هذا هو الوجه في تقرير هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وقوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} الخ تبكيتٌ إثرَ تبكيتٍ مؤكدٌ لما يفيده الأمرُ التعجيزيُّ من عدم الاستجابةِ ببيان فُقدانِ آلاتِها بالكلية فإن الاستجابةَ من الهياكل الجسمانية إنما تُتصوّر إذا كان لها حياةٌ وقُوىً محرّكة ومُدركة وما ليس له شيءٌ من ذلك فهو بمعزل من الأفاعيل بالمرة كأنه قيل: ألهم هذه الآلاتُ التي بها تتحقق الاستجابةُ حتى يمكن استجابتُهم لكم؟ وقد وجه الإنكار إلى كل واحدةٍ من هذه الآلات الأربعِ على حدة تكريراً للتبكيت وتثنيةً للتقريع وإشعاراً بأن انتفاءَ كلِّ واحدةٍ منها بحيالها كافٍ في الدلالة على استحالةِ الاستجابة، ووصفُ الأرجلِ بالمشي بها للإيذان بأن مدارَ الإنكارِ هو الوصفُ وإنما وُجّه إلى الأرجلِ لا إلى الوصف بأن يقال: أيمشون بأرجلهم؟ لتحقيق أنها حيث لم يظهر منها ما يظهر من سائر الأرجلِ فهي ليست بأرجل في الحقيقة وكذا الكلامُ فيما بعده من الجوارحِ الثلاثِ الباقية...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... هذا تقريع موجه إلى الوجدان، في إثر احتجاج وجه قبله إلى الجنان، والاستفهام فيه للإنكار، وهو خاص بالأصنام والأوثان، ومعناه أنهم لفقدهم لجوارح الكسب، التي يناط بها في عالم الأسباب النفع والضر، قد هبطوا عن درجة مماثلتكم من كل وجه، فليس لهم أرجل يسعون بها إلى دفع ضر أو جلب نفع، وليس لهم أيد يبطشون بها فيما ترجون منهم من خير أو تخافون من شر، وليس لهم أعين يبصرون بها حالكم، وليس لهم آذان، يسمعون بها أقوالكم، ويعرفون بها مطالبكم، فأنتم تفضلونهم في الصفات والقوى التي أودعها الله في الخلق، فلماذا ترفعونهم عن مماثلتكم، وهم بدليل المشاهدة والاختبار دونكم؟ وها أنتم أولاء تستكبرون عن قبول الهدى والرشاد من الرسول وتعللون ذلك بأنه بشر مثلكم، فيقول بعضكم لبعض {ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون * ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون} [المؤمنون: 33، 34] أفتأبون قبول الحق والخير من مثلكم، وقد فضله الله بالعلم والهدى عليكم، وهو لا يستذلكم بادعاء أنه ربكم أو إلهكم، ثم ترفعون ما دونه ودونكم إلى مقام الألوهية، مع انحطاطه وتسفله عن هذه المثلية؟
{قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون} أي قل أيها الرسول لهؤلاء المرزوئين بعقولهم، المحتقرين لنعم الله تعالى عليهم، نادوا شركاءكم الذين اتخذتموهم أولياء، وزعمتم أنهم فيكم شفعاء، ثم تعاونوا على كيدي جميعا، وأجمعوا مكركم الخفي لإيقاع الضر بي سريعا، فلا تنظرون أي لا تؤخروني ساعة من نهار، بعد إحكام المكر الكبَّار. وحكمة مطالبتهم بهذا أن العقائد والتقاليد الموروثة تتغلغل في أعماق الوجدان، حتى يتضاءل دونها كل برهان، ويظل صاحبها مع ظهور الدليل على بطلانها يتوهم أنها تضر وتنفع، وتقرب من الله وتشفع، فطالبهم بأمر عملي يستل هذا الوهم من أعماق قلوبهم، ويمتلخ الشعور به من خبايا صدورهم، وهو أن ينادوا هؤلاء الشركاء نداء استغاثة واستنجاد لإبطال دعوة الداعي إلى الكفر بها، وإثباته العجز لها، وبذل الجهد فيما ينسبون إليها من التأثير الباطن، والتدبير الكامن، الذي هو عندهم أمر غيبي، يدخل في معنى الكيد الخفي. فإن كان لها شيء ما من السلطان الغيبي في أنفسها أو عند الله تعالى فهذا وقت ظهوره، فإن لم يظهر لإبطال عبادتها وتعظيمها، ونصر عابديها ومعظمي شأنها، فمتى يظهر وينتفعون به؟ وهم منكرون للبعث، وكل ما يرجونه أو يخافونه منها فهو خاص بما يكون في هذه الأرض؟
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تأكيد لما تضمنته الجملة قبلها من أمر التعجيز وثبوت العجز، لأنه إذا انتفت عن الأصنام أسباب الاستجابة تحقق عجزها عن الإجابة، وتأكد معنى أمر التعجيز المكنى به عن عجز الأصنام وعجز عبدتها... ووصف الأرجل ب {يمشون} والأيدي ب {يبطشون} والأعين ب {يبصرون} والآذان ب {يسمعون} إما لزيادة تسجيل العجز عليهم فيما يحتاج إليه الناصر، وإما لأن بعض تلك الأصنام كانت مجعولة على صور الآدميين مثل هبل، وذي الكفين، وكعيب في صور الرجال، ومثل سواع كان على صورة امرأة، فإذا كان لأمثال أولئك صور أرجل وأيد وأعين وآذان، فإنها عديمة العمل الذي تختص به الجوارح، فلا يطمع طامع في نصرها، وخص الأرجل والأيدي والأعين والآذان، لأنها آلات العلم والسعي والدفع للنصر، ولهذا لم يذكر الألسن لما علمت من أن الاستجابة مراد بها النجدة والنصرة، ولم يكونوا يسألون عن سبب الاستنجاد، ولكنهم يسرعون إلى الالتحاق بالمستنجد. والمشي انتقال الرجلين من موضع انتقالاً متوالياً. والبطش الأخذ باليد بقوة، والإضرار باليد بقوة،... وترتيب هذه الجوارح الأربع على حسب ما في الآية ملحوظ فيه أهميتها بحسب الغرض، الذي هو النصر والنجدة، فإن الرجلين تسرعان إلى الصريخ قبل التأمل، واليدين تعملان عمل النصر وهو الطعن والضرب، وأما الأعين والآذان فإنهما وسيلتان لذلك كله فأخرا، وإنما قدم ذكر الأعين هنا على خلاف معتاد القرءان في تقديم السمع على البصر كما سبق في أول سورة البقرة لأن الترتيب هنا كان بطريق الترقي. إذن من الله لرسوله بأن يتحداهم بأنهم إن استطاعوا استصرخوا أصنامهم لتتألب على الكيد للرسول عليه السلام، والمعنى ادعوا شركاءكم لينصروكم علي فتستريحوا مني. والكيد الإضرار الواقع في صورة عدم الإضرار، كما تقدم عند قوله تعالى آنفاً {وأملي لهم إن كيدي متين} [الأعراف: 183]. والأمر والنهي في قوله: {كيدون فلا تنظرون} للتعجيز. وقوله: {فلا تنظرون} تفريع على الأمر بالكيد، أي فإذا تمكنتم من اضراري فأعجلوا ولا تؤجلوني. وفي هذا التحدي تعريض بأنه سيبلغهم وينتصر عليهم ويستأصل آلهتهم وقد تحداهم بأتم أحوال النصر وهي الاستنصار بأقدر الموجودات في اعتقادهم، وأن يكون الاضرار به خفياً، وأن لا يتلوم له ولا ينتظر، فإذا لم يتمكنوا من ذلك كان انتفاؤه أدل على عجزهم وعجز آلهتهم...
{قل ادعوا شركاءكم ثم كيدوني فلا تنظرون}: ويتحداهم صلى الله عليه وسلم أن يكيدوهم وآلهتهم، والكيد هو التدبير الخفي المحكم. وانظروا ما سوف يحدث، ولن يصيب رسول الله بإذن ربه أدنى ضر. ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى قد أجرى على رسول الله أشياء، ليثبت بها أشياء، وقد قالوا: إن واحدا قد سحر النبي، ولنفرض أن مثل ذلك السحر قد حصل، فكيف ينسحر النبي؟ ونقول: ومن ذا الذي قال: إنه سحر؟. إن ربنا أعلمه بالساحر وبنوع السحر، وأين وضع الشيء الذي عليه السحر، ليبين لهم أن كيدهم حتى بواسطة شياطينهم مفضوح عند الله. {وإذ يَمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} (من الآية 30 سورة الأنفال). وهم كانوا قد بيتوا المكر لرسول الله وأرادوا أن يضربوه ضربة واحدة ليتفرق دمه في القبائل، فأوضح ربنا: أنتم بيتم، ولكن مكركم يبور أمام أعينكم. وليثبت لهم أنهم بالمواجهة لن يستطيعوا مصادمته في دعوته. ولا بالتبييت البشري يستطيعون أن يصدموا دعوته، ولا بتبييت الجن –وهم أكثر قدرة على التصرف- يستطيعون مواجهة دعوته. وما داموا قد عرفوا أنهم لن يظهروا على الرسول، ولن يفيد مكرهم أو سحرهم أو كيدهم مع شياطينهم، إذن فلا بد أن ييأسوا، ولذلك تحداهم وقال: {قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلا تُنظِرُونِ} (من الآية 195 سورة الأعراف). وأنظره يعني أخره، والقول هنا: لا تؤخروا كيدكم مع شركائكم، بل نفذوا الكيد بسرعة، وقد أمر الحق رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما آوى إلى ركن شديد؛ لذلك يقول رسول الله بأمر الحق: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)}...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وفي البيان الثّالث تبرهن الآية على أنّ الأصنام أضعف حتى من عبادها المشركين، فتساءل مستنكرةً: (ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون 6 بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم أذان يسمعون بها).
وهكذا فإنّ الأصنام من الضعة بمكان حتى أنّها بحاجة إلى من يدافع عنها ويحامي عنها، فليس لها أعين تبصر بها، ولا أذان تسمع بها، ولا أرجل تمشي بها، ولا أي إحساس آخر. وأخيراً فإنّ الآية تبيّن ضمن تعبير هو في حكم الدليل الرّابع مخاطبة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلةً: (قل ادعوا شركاءكم ثمّ كيدون فلا تنظرون).
أي إذا كنتُ كاذباً، وأنّ الأصنام مقربات عند الله، وقد تجرأتُ عليها فلِمَ لا تغضب عليّ؟ وليس لها ولا لكم ولمكائدكم أي تأثير علي. فبناءً على ذلك فاعلموا أنّ هذه الأصنام موجودات غير مؤثرة، وإنّما تصوراتكم هي التي أضْفَتْ عليها ذلك التوهّم!.