{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ْ } وهذا يشمل سائر نفوس الخلائق ، وإن هذا كأس لا بد من شربه وإن طال بالعبد المدى ، وعمّر سنين ، ولكن الله تعالى أوجد عباده في الدنيا ، وأمرهم ، ونهاهم ، وابتلاهم بالخير والشر ، بالغنى والفقر ، والعز والذل والحياة والموت ، فتنة منه تعالى ليبلوهم أيهم أحسن عملا ، ومن يفتتن عند مواقع الفتن ومن ينجو ، { وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ْ } فنجازيكم بأعمالكم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ْ } وهذه الآية ، تدل على بطلان قول من يقول ببقاء الخضر ، وأنه مخلد في الدنيا ، فهو قول ، لا دليل عليه ، ومناقض للأدلة الشرعية .
( كل نفس ذائقة الموت ) . هذا هو الناموس الذي يحكم الحياة . وهذه هي السنة التي ليس لها استثناء . فما أجدر الأحياء أن يحسبوا حساب هذا المذاق !
إنه الموت نهاية كل حي ، وعاقبة المطاف للرحلة القصيرة على الأرض . وإلى الله يرجع الجميع . فأما ما يصيب الإنسان في أثناء الرحلة من خير وشر فهو فتنة له وابتلاء :
( ونبلوكم بالشر والخير فتنة ) . .
والابتلاء بالشر مفهوم أمره . ليتكشف مدى احتمال المبتلى ، ومدى صبره على الضر ، ومدى ثقته في ربه ، ورجائه في رحمته . . فأما الابتلاء بالخير فهو في حاجة إلى بيان . .
إن الابتلاء بالخير أشد وطأة ، وإن خيل للناس أنه دون الابتلاء بالشر . .
إن كثيرين يصمدون للابتلاء بالشر ولكن القلة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير .
كثيرون يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف . ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة . ويكبحون جماح القوة الهائجة في كيانهم الجامحة في أوصالهم .
كثيرون يصبرون على الفقر والحرمان فلا تتهاوى نفوسهم ولا تذل . ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الثراء والوجدان . وما يغريان به من متاع ، وما يثيرانه من شهوات وأطماع !
كثيرون يصبرون على التعذيب والإيذاء فلا يخفيهم ، ويصبرون على التهديد والوعيد فلا يرهبهم . ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الإغراء بالرغائب والمناصب والمتاع والثراء !
كثيرون يصبرون على الكفاح والجراح ؛ ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الدعة والمراح . ثم لا يصابون بالحرص الذي يذل أعناق الرجال . وبالاسترخاء الذي يقعد الهمم ويذلل الأرواح !
إن الابتلاء بالشدة قد يثير الكبرياء ، ويستحث المقاومة ويجند الأعصاب ، فتكون القوى كلها معبأة لاستقبال الشدة والصمود لها . أما الرخاء فيرخي الأعصاب وينيمها ويفقدها القدرة على اليقظة والمقاومة !
لذلك يجتاز الكثيرون مرحلة الشدة بنجاح ، حتى إذا جاءهم الرخاء سقطوا في الابتلاء ! وذلك شأن البشر . . إلا من عصم الله فكانوا ممن قال فيهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] :
" عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " . . وهم قليل !
فاليقظة للنفس في الابتلاء بالخير أولى من اليقظة لها في الابتلاء بالشر . والصلة بالله في الحالين هي وحدها الضمان . .
وقد روي عن الشافعي ، رحمه الله ، أنه أنشد واستشهد بهذين البيتين :
تمنى رجال أن أموت وإن أمت *** فَتلْكَ سَبيل لَسْت فيهَا بأوْحد
فقُلْ للَّذي يَبْغي خلاف الذي مضى : *** تَهَيَّأ لأخْرى مثْلها فكَأن قد{[19627]} وقوله : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } أي : نختبركم بالمصائب تارة ، وبالنعم أخرى ، لننظر من يشكر ومن يكفر ، ومن يصبر ومن يقنط ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { ونبلوكم } ، يقول : نبتليكم بالشر والخير فتنة ، بالشدة والرخاء ، والصحة والسقم ، والغنى والفقر ، والحلال والحرام ، والطاعة والمعصية والهدى والضلال . .
وقوله : { وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } أي : فنجازيكم بأعمالكم .
جمل معترضات بين الجملتين المتعاطفتين .
ومضمون الجملة الأولى مؤكد لمضمون الجملة المعطوف عليها ، وهي { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } [ الأنبياء : 34 ] . ووجه إعادتها اختلاف القصد فإن الأولى للرد على المشركين وهذه لتعليم المؤمنين .
واستعير الذوق لمطلق الإحساس الباطني لأن الذوق إحساس باللسان يقارنه ازدراد إلى بالباطن .
وذوقُ الموت ذوق آلاممِ مقدماته وأما بعد حصوله فلا إحساس للجسد .
والمراد بالنفس النفوس الحالّة في الأجساد كالإنسان والحيوان . ولا يدخل فيه الملائكة لأن إطلاق النفوس عليهم غير متعارف في العربية بل هو اصطلاح الحكماء وهو لا يطلق عندهم إلا مقيّداً بوصف المجرداتِ ، أي التي لا تحل في الأجساد ولا تلابس المادة . وأما إطلاق النفس على الله تعالى فمشاكلة : إما لفظية كما في قوله تعالى { تَعْلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } في سورة المائدة ( 116 ) . وإما تقديرية كما في قوله تعالى { ويحذركم الله نفسه } في آل عمران ( 28 ) .
وجملة { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } عطف على الجملة المعترضة بمناسبة أن ذوق الموت يقتضي سبق الحياة ، والحياة مدة يعتري فيها الخير والشرّ جميع الأحياء ، فعلّم الله تعالى المسلمين أن الموت مكتوب على كل نفس حتى لا يحسبوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم مخلد . وقد عرض لبعض المسلمين عارض من ذلك ، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد قال يوم انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى : « ليرجعَنّ رسولُ الله فيُقطِّع أيدي قوم وأرجلَهم » حتى حضر أبو بكر رضي الله عنه وثبته الله في ذلك الهول فكشف عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقبّله وقال : « طبت حياً وميتاً والله لا يجمع الله عليك موتتين » . وقد قال عبد بني الحسحاس وأجاد :
رأيت المنايا لمَ يدَعْنَ مُحمداً *** ولا باقياً إلاّ لَه الموتُ مرصدا
وأعقب الله ذلك بتعليمهم أن الحياة مشتملة على خير وشرّ وأن الدنيا دار ابتلاء .
والبلوى : الاختبار . وتقدم غير مرة . وإطلاق البلوى على ما يبدو من الناس من تجلد ووهن وشكر وكفر ، على ما ينالهم من اللذات والآلام مما بنى الله تعالى عليه نظام الحياة ، إطلاقٌ مجازي ، لأن ابتناء النظام عليه دَل على اختلاف أحوال الناس في تصرفهم فيه وتلقيهم إياه . أشبَه اختبارَ المختبِر ليعلم أحوال من يختبرهم .
و { فتنةً } منصوب على المفعولية المطلقة توكيداً لفعل { نبْلوكم } لأن الفتنة ترادف البَلْوَى .
وجملة { وإلينا تُرجعون } إثبات للبعث ، فجمعت الآية الموت والحياة والنشر .
وتقديم المجرور للرعاية على الفاصلة وإفادة تقوي الخبر . وأمّا احتمال القصر فلا يقوم هنا إذ ليس ذلك باعتقاد للمخاطبين كيفما افترضتَهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.