{ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } أي : وما هو على ما أوحاه الله إليه بمتهم يزيد فيه أو ينقص أو يكتم بعضه ، بل هو صلى الله عليه وسلم أمين أهل السماء وأهل الأرض ، الذي بلغ رسالات ربه البلاغ المبين ، فلم يشح بشيء منه ، عن غني ولا فقير ، ولا رئيس ولا مرءوس ، ولا ذكر ولا أنثى ، ولا حضري ولا بدوي ، ولذلك بعثه الله في أمة أمية ، جاهلة جهلاء ، فلم يمت صلى الله عليه وسلم حتى كانوا علماء ربانيين ، وأحبارا متفرسين ، إليهم الغاية في العلوم ، وإليهم المنتهى في استخراج الدقائق والفهوم ، وهم الأساتذة ، وغيرهم قصاراه أن يكون من تلاميذهم .
فهذه صفة الرسول الذي حمل القول وأداه ، فأما الرسول الذي حمله إليكم فهو( صاحبكم ) . . عرفتموه حق المعرفة عمرا طويلا . فما لكم حين جاءكم بالحق تقولون فيه ما تقولون . وتذهبون في أمره المذاهب ، وهو( صاحبكم )الذي لا تجهلون . وهو الأمين على الغيب الذي يحدثكم عنه عن يقين :
( وما صاحبكم بمجنون . ولقد رآه بالأفق المبين . وما هو على الغيب بضنين . وما هو بقول شيطان رجيم . فأين تذهبون ? إن هو إلا ذكر للعالمين ) . .
ولقد قالوا عن النبي الكريم الذي يعرفونه حق المعرفة ، ويعرفون رجاحة عقله ، وصدقه وأمانته وتثبته ، قالوا عنه : إنه مجنون .
وإن شيطانا يتنزل عليه بما يقول . قال بعضهم هذا كيدا له ولدعوته كما وردت بذلك الأخبار . وقاله بعضهم عجبا ودهشة من هذا القول الذي لا يقوله البشر فيما يألفون ويعهدون . وتمشيا مع ظنهم أن لكل شاعر شيطانا يأتيه بالقول الفريد . وأن لكل كاهن شيطانا يأتيه بالغيب البعيد . وأن الشيطان يمس بعض الناس فينطق على لسانهم بالقول الغريب ! وتركوا التعليل الوحيد الصادق ، وهو أنه وحي وتنزيل من رب العالمين .
فجاء القرآن يحدثهم في هذا المقطع من السورة عن جمال الكون البديع ، وحيوية مشاهده الجميلة . ليوحي إلى قلوبهم بأن القرآن صادر عن تلك القدرة المبدعة ، التي أنشأت ذلك الجمال . على غير مثال . وليحدثهم بصفة الرسول الذي حمله ، والرسول الذي بلغه . وهو صاحبهم الذي عرفوه . غير مجنون . والذي رأى الرسول الكريم - جبريل - حق الرؤية ، بالأفق المبين الواضح الذي تتم فيه الرؤية عن يقين . وأنه [ صلى الله عليه وسلم ] لمؤتمن على الغيب ، لا تظن به الظنون في خبره الذي يرويه عنه ، فما عرفوا عنه إلا الصدق واليقين . ( وما هو بقول شيطان رجيم )فالشياطين لا توحي بهذا النهج القويم .
وقوله : { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } أي : وما محمد على ما أنزله الله إليه بظنين ، أي : بمتهم . ومنهم من قرأ ذلك بالضاد ، أي : ببخيل ، بل يبذله لكل أحد .
قال سفيان بن عُيَينة : ظنين وضنين سواء ، أي : ما هو بكاذب ، وما هو بفاجر . والظنين : المتهم ، والضنين : البخيل .
وقال قتادة : كان القرآن غيبا ، فأنزله الله على محمد ، فما ضَنّ به على الناس ، بل بَلَّغه ونشره وبذله لكل من أراده . وكذا قال عكرمة ، وابن زيد ، وغير واحد . واختار ابنُ جرير قراءة الضاد{[29794]} .
وقوله تعالى { وما هو على الغيب بضنين } بالضاد بمعنى : بخيل أي يشح به ، ولا يبلغ ما قيل له ، ويبخل كما يفعل الكاهن حتى يعطى حلوانه{[11667]} ، وبالضاد هي خطوط المصاحف كلها ، فيما قاله الطبري وهي قراءة نافع وعاصم وابن عامر وحمزة وعثمان بن عفان وابن عباس والحسن وأبي رجاء والأعرج وأبي جعفر وشيبة وجماعة وافرة .
وقرأ ابن كثير وعمرو والكسائي وابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وعائشة وعمر بن عبد العزيز وابن جبير وعروة بن الزبير ومسلم وابن جندب ومجاهد وغيرهم : «بظنين » ، بالظاء أي بمتهم ، وهذا في المعنى نظير وصفه ب { آمين } ، وقيل معناه : بضعف القوة عن التبليغ من قولهم : بئر ظنون{[11668]} إذا كانت قليلة الماء ، ورجح أبو عبيد قراءة : الظاء مشالة لأن قريشاً لم تبخل محمداً صلى الله عليه وسلم فيما يأتي به وإما كذبته ، فقيل ما هو بمتهم
الضمير عائد إلى { صاحبكم } [ التكوير : 22 ] كما يقتضيه السياق فإن المشركين لم يدّعوا أن جبريل ضنين على الغيب ، وإنما ادعوا ذلك للنبيء صلى الله عليه وسلم ظلماً وزوراً ، ولقرب المعاد .
و { الغيب } : ما غاب عن عِيان الناس ، أو عن علمهم وهو تسمية بالمصدر . والمراد ما استأثر الله بعلمه إلا أن يُطلع عليه بعض أنبيائه ، ومنه وحي الشرائع ، والعلم بصفات الله تعالى وشؤونه ، ومشاهدة مَلك الوحي ، وتقدم في قوله تعالى : { الذين يؤمنون بالغيب } في سورة البقرة ( 3 ) .
وكتبت كلمة { بضنين } في مصاحف الأمصار بضاد ساقطة كما اتفق عليه القراء .
وحكي عن أبي عبيدٍ ، قال الطبري : هو ما عليه مصاحف المسلمين متفقة وإن اختلفت قراءتهم به .
وفي « الكشاف » : « هو في مصحف أُبي بالضاد وفي مصحف ابن مسعود بالظاء » وقد اقتصر الشاطبي في منظومته في الرسم على رسمه بالضاد إذ قال :
والضَادُ في { بضنين } تَجمع البشرا
وقد اختلف القراء في قراءته فقرأه نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر وخلف وروَح عن يعقوب بالضاد الساقطة التي تخرج من حافة اللسان مما يلي الأضراس وهي القراءة الموافقة لرسم المصحف الإمام .
وقرأه الباقون بالظاء المشالة التي تخرج من طرف اللسان وأصول الثنايا العُليا ، وذكر في « الكشاف » أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بهما ، وذلك مما لا يحتاج إلى التنبيه ، لأن القراءتين مَا كانتا متواترتين إلا وقد رُويتا عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والضاد والظاء حرفان مختلفان والكلمات المؤلفة من أحدهما مختلفة المعاني غالباً إلا نحو حُضَضضِ بضادين ساقطتين وحُظظ بظاءين مشالين وحُضظ بضاد ساقطة بعدها ظاء مشالة وثلاثتها بضم الحاء وفتح ما بعد الحاء . فقد قالوا : إنها لغات في كلمة ذات معنى واحد وهو اسم صَمَغ يقال له : خولان .
ولا شك أن الذين قرأوه بالظاء المشالة من أهل القراءات المتواترة وهم ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب قد رووه متواتراً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك فلا يقدح في قراءتهم كونُها مخالفة لجميع نسخ مصاحف الأمصار لأن تواتر القراءة أقوى من تواتر الخط إن اعتبر للخط تواتر .
وما ذُكر من شرط موافقة القراءة لما في مصحف عثمان لتكون قراءة صحيحة تجوز القراءة بها ، إنما هو بالنسبة للقراءات التي لم تُرْو متواترة كما بيناه في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير .
وقد اعتذر أبو عبيدة عن اتفاق مصاحف الإمام على كتابتها بالضاد مع وجود الاختلاف فيها بين الضاد والظاء في القراءات المتواترة ، بأن قال : « ليس هذا بخلاف الكتَّاب لأن الضاد والظاء لا يختلف خطهما في المصاحف إلا بزيادة رأس إحداهما على رأس الأخرى فهذا قد يتشابه ويتدانَى » اه .
يريد بهذا الكلام أن ما رسم في المصحف الإمام ليس مخالفة من كتَّاب المصاحف للقراءات المتواترة ، أي أنهم يراعون اختلاف القراءات المتواترة فيكتبون بعض نسخ المصاحف على اعتبار اختلاف القراءات وهو الغالب . وههنا اشتبه الرسم فجاءت الظاء دقيقة الرأس .
ولا أرى للاعتذار عن ذلك حاجة لأنه لما كانت القراءتان متواترتين عن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمد كتاب المصاحف على إحداهما وهي التي قرأ بها جمهور الصحابة وخاصة عثمان بن عفان ، وأوكلوا القراءة الأخرى إلى حفظ القارئين .
وإذ تواترت قراءة { بضنين } بالضاد الساقطة ، و { بظنين بالظاء المشالة علمنا أن الله أنزله بالوجهين وأنه أراد كلا المعنيين .
فأما معنى ضنين بالضاد الساقطة فهو البخيل الذي لا يعطي ما عنده مشتقّ من الضَنّ بالضاد مصدر ضَنَّ ، إذا بخل ، ومضارعه بالفتح والكسر .
فيجوز أن يكون على معناه الحقيقي ، أي وما صاحبكم ببخيل أي بما يوحَى إليه وما يخبر به عن الأمور الغيبية طلباً للانتفاع بما يخبر به بحيث لا ينبئكم عنه إلا بِعِوَض تُعطونه ، وذلك كناية عن نفي أن يكون كاهناً أو عرَّافاً يتلقّى الأخبار عن الجنِ إذ كان المشركون يترددون على الكهان ويزعمون أنهم يخبرون بالمغيبات ، قال تعالى : { وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون } [ الحاقة : 41 42 ] فأقام لهم الفرق بين حال الكهان وحال النبي صلى الله عليه وسلم بالإِشارة إلى أن النبي لا يسألهم عوضاً عما يخبرهم به وأن الكاهن يأخذ على ما يخبر به ما يسمونه حُلْواناً ، فيكون هذا المعنى من قبيل قوله تعالى : { قل ما أسألكم عليه من أجر } [ الفرقان : 57 ] { قل لا أسألكم عليه أجراً } [ الأنعام : 90 ] ونحو ذلك .
ويجوز أن يكون « ضنين » مجازاً مرسلاً في الكِتمان بعلاقة اللزوم لأن الكتمان بخل بالأمر المعلوم للكاتم ، أي ما هو بكاتم الغيب ، أي ما يوحى إليه ، وذلك أنهم كانوا يقولون : { ايتِ بقرآن غيرِ هذا أو بَدِّلْه } [ يونس : 15 ] وقالوا : { ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه } [ الإسراء : 93 ] .
ويتعلق { على الغيب } بقوله : { بضنين } .
وحرف ( على ) على هذا الوجه بمعنى الباء مثل قوله تعالى : { حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق } [ الأعراف : 105 ] أي حقيق بي ، أو لتضمين « ضنين » معنى حريص ، والحرص : شدة البخل وما محمد بكاتم شيئاً من الغيب فما أخبركم به فهو عين ما أوحيناه إليه . وقد يكون البخيل على هذه كناية عن كاتم وهو كناية بمرتبة أخرى عن عدم التغيير . والمعنى : وما صاحبكم بكاتم شيئاً من الغيب ، أي ما أخبرَكم به فهو الحق .
وأما معنى « ظنين » بالظاء المشالة فهو فعيل بمعنى مفعول مشتق من الظن بمعنى التهمة ، أي مظنون . ويراد أنه مظنون به سوءٌ ، أي أن يكون كاذباً فيما يخبر به عن الغيب ، وكثر حذف مفعول ظنين بهذا المعنى في الكلام حتى صار الظن يطلق بمعنى التهمة فَعُدّي إلى مفعول واحد . وأصل ذلك أنهم يقولون : ظَنّ به سُوءاً ، فيتعدى إلى متعلّقه الأول بحرف باء الجر فلما كثر استعماله حذفوا الباء ووصلوا الفعل بالمجرور فصار مفعولاً فقالوا ظنه : بمعنى اتهمه ، يقال : سُرِق لي كذا وظَننْت فلاناً .
وحرف { على } في هذا الوجه للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى الظرفية نحو { أو أجِدُ على النار هدى } [ طه : 10 ] ، أي ما هو بمتهم في أمر الغيب وهو الوحي أن لا يكون كما بلغه ، أي أن ما بَلَّغَهُ هو الغيب لا ريب فيه ، وعكسه قولهم : ائتمنه على كذا .