( ويجعلون لله البنات - سبحانه - ولهم ما يشتهون . وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم . يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ؟ ألا ساء ما يحكمون ! ) . .
إن الانحراف في العقيدة لا تقف آثاره عند حدود العقيدة ، بل يتمشى في أوضاع الحياة الاجتماعية وتقاليدها . فالعقيدة هي المحرك الأول للحياة ، سواء ظهرت أو كمنت . وهؤلاء عرب الجاهلية كانوا يزعمون أن لله بنات - هن الملائكة - على حين أنهم كانوا يكرهون لأنفسهم ولادة البنات ! فالبنات لله أما هم فيجعلون لأنفسهم ما يشتهون من الذكور ! .
وانحرافهم عن العقيدة الصحيحة سول لهم وأد البنات أو الإبقاء عليهن في الذل والهوان من المعاملة السيئة والنظرة الوضيعة . ذلك أنهم كانوا يخشون العار والفقر مع ولادة البنات . إذ البنات لا يقاتلن ولا يكسبن ؛ وقد يقعن في السبي عند الغارات فيجلبن العار ؛ أو يعشن كلا على أهليهن فيجلبن الفقر .
والعقيدة الصحيحة عصمة من هذا كله . إذ الرزق بيد الله يرزق الجميع ؛ ولا يصيب أحد إلا ما كتب له ؛ ثم إن الإنسان بجنسيه كريم على الله ، والأنثى - من حيث إنسانيتها - صنو الرجل وشطر نفسه كما يقرر الإسلام .
ثم أخبر تعالى عنهم ، أنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن ، إناثا ، وجعلوها بنات الله ، وعبدوها معه ، فأخطؤوا خطأ كبيرًا ، في كل مقام من هذه المقامات الثلاث ، فنسبوا إليه تعالى أن له ولدا ، ولا ولد له ! ثم أعطوه أخس القسمين من الأولاد وهو البنات ، وهم لا يرضونها لأنفسهم ، كما قال : { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } [ النجم : 21 ، 22 ] ، وقال هاهنا : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ } ، أي : عن قولهم وإفكهم ، { أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [ الصافات : 151 - 154 ] .
وقوله : { وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ } ، أي : يختارون لأنفسهم الذكور ، ويأنَفُون لأنفسهم من البنات التي نسبوها إلى الله ، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا ، فإنه { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا } ، أي : كئيبا من الهم ، { وَهُوَ كَظِيمٌ } ، ساكت من شدة ما هو فيه من الحزن .
{ ويجعلون لله البنات } ، كانت خزاعة وكنانة يقولون الملائكة بنات الله . { سبحانه } تنزيه له من قولهم ، أو تعجب منه . { ولهم ما يشتهون } ، يعني : البنين ، ويجوز فيما يشتهون الرفع بالابتداء ، والنصب بالعطف على البنات ، على أن الجعل بمعنى الاختيار ، وهو وإن أفضى إلى أن يكون ضمير الفاعل والمفعول لشيء واحد ، لكنه لا يبعد تجويزه في المعطوف .
عطف على جملة { ويجعلون لما لا يعلمون نصيباً مما رزقناهم } [ سورة النحل : 56 ] .
هذا استدلال بنعمة الله عليهم بالبنين والبنات ، وهي نعمة النّسل ، كما أشار إليه قوله تعالى : { ولهم ما يشتهون } ، أي ما يشتهون مما رزقناهم من الذّرية .
وأدمج في هذا الاستدلال وهذا الامتنان ذكرُ ضرب شنيع من ضروب كفرهم . وهو افتراؤهم : أن زعموا أن الملائكة بنات الله من سروات الجنّ ، كما دل عليه قوله تعالى : { وجعلوا بينه وبين الجنّة نسباً } [ سورة الصافات : 158 ] . وهو اعتقاد قبائل كنانة وخزاعة .
و { سبحانه } مصدر نائب عن الفعل ، وهو منصوب على المفعولية المطلقة ، وهو في محل جملة معترضة وقعت جواباً عن مقالتهم السيّئة التي تضمّنتها حكاية { ويجعلون لله البنات } إذ الجعل فيه جعل بالقول ، فقوله : { سبحانه } مثل قولهم : حاش لله ومعاذَ الله ، أي تنزيهاً له عن أن يكون له ذلك .
وإنا قدم { سبحانه } على قوله : { ولهم ما يشتهون } ليكون نصّاً في أن التّنزيه عن هذا الجعل لذاته وهو نسبة البنوّة لله ، لا عن جعلهم له خصوص البنات دون الذكور الذي هو أشدّ فظاعة ، كما دلّ عليه قوله تعالى : { ولهم ما يشتهون } ، لأن ذلك زيادة في التّفظيع ، فقوله : { ولهم ما يشتهون } جملة في موضع الحال . وتقديم الخبر في الجملة للاهتمام بهم في ذلك على طريقة التهكّم .
وما صدق { ما يشتهون } الأبناء الذكور بقرينة مقابلته بالبنات ، وقوله تعالى : { وإذا بشر أحدهم بالأنثى } [ سورة النحل : 58 ] ، أي والحال أن لهم ذكوراً من أبنائهم فهلّا جعلوا لله بنين وبنات . وهذا ارتقاء في إفساد معتقدهم بحسب عرفهم وإلا فإنه بالنسبة إلى الله سواء للاستواء في التولّد الذي هو من مقتضى الحدوث المنزّه عنه واجب الوجود .
وسيخصّ هذا بالإبطال في قوله تعالى : { ويجعلون لله ما يكرهون } [ سورة النحل : 62 ] . ولهذا اقتصر هنا على لفظ البنات الدالّ على الذّوات ، واقتصر على أنهم يشتهون الأبناء ، ولم يتعرّض إلى كراهتهم البنات وإن كان ذلك مأخوذاً بالمفهوم لأن ذلك درجة أخرى من كفرهم ستخصّ بالذّكر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال يعنيهم: {ويجعلون}، يعني: ويصفون {لله البنات}، حين زعموا أن الملائكة بنات الله تعالى، {سبحانه}، نزه نفسه عن قولهم، ثم قال عز وجل: {ولهم ما يشتهون}، من البنين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ومن جهل هؤلاء المشركين وخُبث فعلهم وقبح فِرْيتهم على ربهم، أنهم يجعلون لمن خلقهم ودبّرهم وأنعم عليهم، فاستوجب بنعمه عليهم الشكر واستحقّ عليهم الحمد، البَنَاتِ، ولا ينبغي أن يكون لله ولد ذكر ولا أنثى سبحانه، نزّه جلّ جلاله بذلك نفسه عما أضافوا إليه ونسبوه من البنات، فلم يرضوا بجهلهم، إذ أضافوا إليه ما لا ينبغي إضافته إليه. ولا ينبغي أن يكون له من الولد، أن يضيفوا إليه ما يشتهونه لأنفسهم ويحبونه لها، ولكنهم أضافوا إليه ما يكرهونه لأنفسهم، ولا يرضونه لها من البنات ما يقتلونها إذا كانت لهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فرضوا لله بما لم يرضوا لأنفسهم. ويلتحق بهؤلاء في استحقاق الذمِّ، كلُّ مَنْ آثر حَظَّ نَفْسِه على حقِّ مولاه... ثم إنه عابهم على قبيح ما كانوا يفعلونه، ويتصفون به من كراهةِ أَنْ تُولَد لهم الإناثُ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا تعديد لقبح قول الكفار: الملائكة بنات الله، ورد عليهم من وجهين: أحدهما: نسبة النسل إلى الله، تعالى عن ذلك. والآخر: أنهم نسبوا من النسل... المكروه عندهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بين سفههم في صرفهم مما آتاهم، إلى ما هو في عداد العدم الذي لا يعلم، بين لهم سفهاً هو أعظم من ذلك؛ بجعلهم لمالك الملك وملكه أحقر ما يعدونه مما أوجده لهم، لافتقارهم إليه، وغناه عنه، على وجه التوالد المستحيل عليه، مع كراهته لأنفسهم، فصار ذلك أعجب العجب، فقال تعالى: {ويجعلون لله}، أي: الذي لا معلوم على الحقيقة سواه، لاستجماعه لصفات الجلال والإكرام. ولما كان المراد تقريعهم، وكانت الأنوثة ربما أطلقت على كرائم الأشجار، نص على المراد بقوله: {البنات}، فلا أعجب منهم، حيث يجعلون الوجود للمعدوم المجهول، ويجعلون العدم للموجود المعلوم؛ ثم نزه نفسه عن ذلك، معجباً من وقوعه من عاقل، بقوله تعالى: {سبحانه}. ولما ذكر ما جعلوا له، مع الغنى المطلق، بين ما نسبوا لأنفسهم، مع لزوم الحاجة والضعف، فقال: {ولهم ما يشتهون}، من البنين، وذلك في جملة اسمية مدلولها الثبات، ليكون منادياً عليهم بالفضيحة، لأنهم لا يبقون لأبنائهم ولا يبقى أبناؤهم لهم، وقد يكونون أعدى أعدائهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الانحراف في العقيدة لا تقف آثاره عند حدود العقيدة، بل يتمشى في أوضاع الحياة الاجتماعية وتقاليدها. فالعقيدة هي المحرك الأول للحياة، سواء ظهرت أو كمنت. وهؤلاء عرب الجاهلية كانوا يزعمون أن لله بنات -هن الملائكة- على حين أنهم كانوا يكرهون لأنفسهم ولادة البنات! فالبنات لله أما هم فيجعلون لأنفسهم ما يشتهون من الذكور!. وانحرافهم عن العقيدة الصحيحة سول لهم وأد البنات أو الإبقاء عليهن في الذل والهوان من المعاملة السيئة والنظرة الوضيعة. ذلك أنهم كانوا يخشون العار والفقر مع ولادة البنات. إذ البنات لا يقاتلن ولا يكسبن؛ وقد يقعن في السبي عند الغارات فيجلبن العار؛ أو يعشن كلا على أهليهن فيجلبن الفقر...
والعقيدة الصحيحة عصمة من هذا كله. إذ الرزق بيد الله يرزق الجميع؛ ولا يصيب أحد إلا ما كتب له؛ ثم إن الإنسان بجنسيه كريم على الله، والأنثى -من حيث إنسانيتها- صنو الرجل وشطر نفسه كما يقرر الإسلام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا استدلال بنعمة الله عليهم بالبنين والبنات، وهي نعمة النّسل، كما أشار إليه قوله تعالى: {ولهم ما يشتهون}، أي ما يشتهون مما رزقناهم من الذّرية...
وأدمج في هذا الاستدلال وهذا الامتنان ذكرُ ضرب شنيع من ضروب كفرهم. وهو افتراؤهم: أن زعموا أن الملائكة بنات الله من سروات الجنّ، كما دل عليه قوله تعالى: {وجعلوا بينه وبين الجنّة نسباً} [سورة الصافات: 158]...
وإنا قدم {سبحانه} على قوله: {ولهم ما يشتهون} ليكون نصّاً في أن التّنزيه عن هذا الجعل لذاته وهو نسبة البنوّة لله، لا عن جعلهم له خصوص البنات دون الذكور الذي هو أشدّ فظاعة، كما دلّ عليه قوله تعالى: {ولهم ما يشتهون}، لأن ذلك زيادة في التّفظيع، فقوله: {ولهم ما يشتهون} جملة في موضع الحال. وتقديم الخبر في الجملة للاهتمام بهم في ذلك على طريقة التهكّم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن الأوهام إذا كانت هي مصدر علم طائفة من الناس فلا تعجب، والأمثال على ذلك واقعة بين أيدينا في هذا الزمان ومن شأن من تحكمه الأوهام أن يتخيل ثم يظن ثم يتوهم ثم يعتقد، كان العرب يعرفون الملائكة، ويعرفون الله وإنه خالق كل شيء، وأنه المستغاث لكل مستغيث، وأنه الملجأ في الشديد ولكن خلطوا بذلك أوهاما كثيرة أفسدت تفكيرهم، فأشركوا الأوثان مع الله تعالى، ومن ذلك أنهم توهموا أن الملائكة إناث لا ذكور، وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا، وجعلوها بنات الله تعالى، ثم ذهب بهم فرط أوهامهم إلى أن كان منهم من عبدها؛ ولذا قال تعالى: {ويجعلون لله البنات سبحانه وله ما يشتهون (57)}، أي أنهم جعلوا لله البنات – تنزه وتقدس عن ذلك – ولهم ما يشتهون، وهم الذكور، ومعنى يشتهون يختارون راغبين ملحفين في الدعوة حتى كأنهم شهوة يشتهونها؛ لأنهم يرونهم امتدادا لوجودهم، ولأنهم يرون فيهم النصرة في الحرب؛ ولذا كان الرجل يكون في قوة ببنيه ويكون أعز نفرا... هكذا تدرج بهم الوهم من زعم أن لله ولدا، وإن هذا الولد من الإناث اللائي لا يرغبن فيهم، ثم استرسل بهم الوهم حتى كان منهم من عبد الملائكة، وهم طائفة من الصائبة كانت تعبد الأرواح...