{ 15-16 } { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ }
هذا من لطفه تعالى بعباده وشكره للوالدين أن وصى الأولاد وعهد إليهم أن يحسنوا إلى والديهم بالقول اللطيف والكلام اللين وبذل المال والنفقة وغير ذلك من وجوه الإحسان .
ثم نبه على ذكر السبب الموجب لذلك فذكر ما تحملته الأم من ولدها وما قاسته من المكاره وقت حملها ثم مشقة ولادتها المشقة الكبيرة ثم مشقة الرضاع وخدمة الحضانة ، وليست المذكورات مدة يسيرة ساعة أو ساعتين ،
وإنما ذلك مدة طويلة قدرها { ثَلَاثُونَ شَهْرًا } للحمل تسعة أشهر ونحوها والباقي للرضاع هذا هو الغالب .
ويستدل بهذه الآية مع قوله : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لأن مدة الرضاع -وهي سنتان- إذا سقطت منها السنتان بقي ستة أشهر مدة للحمل ، { حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي : نهاية قوته وشبابه وكمال عقله ، { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي } أي : ألهمني ووفقني { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ } أي : نعم الدين ونعم الدنيا ، وشكره بصرف النعم في طاعة مسديها وموليها ومقابلته منته بالاعتراف والعجز عن الشكر والاجتهاد في الثناء بها على الله ، والنعم على الوالدين نعم على أولادهم وذريتهم لأنهم لا بد أن ينالهم منها ومن أسبابها وآثارها ، خصوصا نعم الدين فإن صلاح الوالدين بالعلم والعمل من أعظم الأسباب لصلاح أولادهم .
{ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ } بأن يكون جامعا لما يصلحه سالما مما يفسده ، فهذا العمل الذي يرضاه الله ويقبله ويثيب عليه . { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي } لما دعا لنفسه بالصلاح دعا لذريته أن يصلح الله أحوالهم ، وذكر أن صلاحهم يعود نفعه على والديهم لقوله : { وَأَصْلِحْ لِي }
{ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ } من الذنوب والمعاصي ورجعت إلى طاعتك { وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }
ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا . .
فهي وصية لجنس الإنسان كله ، قائمة على أساس إنسانيته ، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى وراء كونه إنسانا . وهي وصية بالإحسان مطلقة من كل شرط ومن كل قيد . فصفة الوالدية تقتضي هذا الإحسان بذاتها ، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى كذلك . وهي وصية صادرة من خالق الإنسان ، وربما كانت خاصة بهذا الجنس أيضا . فما يعرف في عالم الطير أو الحيوان أو الحشرات وما إليها أن صغارها مكلفة برعاية كبارها . والمشاهد الملحوظ هو فقط تكليف فطرة هذه الخلائق أن ترعى كبارها صغارها في بعض الأجناس . فهي وصية ربما كانت خاصة بجنس الإنسان .
وتتكرر في القرآن الكريم وفي حديث الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] الوصية بالإحسان إلى الوالدين . ولا ترد وصية الوالدين بالأولاد إلا نادرة ، ولمناسبة حالات معينة . ذلك أن الفطرة وحدها تتكفل برعاية الوالدين للأولاد ، رعاية تلقائية مندفعة بذاتها لا تحتاج إلى مثير . وبالتضحية النبيلة الكاملة العجيبة التي كثيرا ما تصل إلى حد الموت - فضلا على الألم - بدون تردد ، ودون انتظار عوض ، ودون من ولا رغبة حتى في الشكران ! أما الجيل الناشيء فقلما يتلفت إلى الخلف . قلما يتلفت إلى الجيل المضحي الواهب الفاني . لأنه بدوره مندفع إلى الأمام ، يطلب جيلا ناشئا منه يضحي له بدوره ويرعاه ! وهكذا تمضي الحياة !
والإسلام يجعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بنائه ؛ والمحضن الذي تدرج فيه الفراخ الخضر وتكبر ؛ وتتلقى رصيدها من الحب والتعاون والتكافل والبناء . والطفل الذي يحرم من محضن الأسرة ينشأ شاذا غير طبيعي في كثير من جوانب حياته - مهما توفرت له وسائل الراحة والتربية في غير محيط الأسرة - وأول ما يفقده في أي محضن آخر غير محضن الأسرة ، هو شعور الحب . فقد ثبت أن الطفل بفطرته يحب أن يستأثر وحده بأمه فترة العامين الأولين من حياته . ولا يطيق أن يشاركه فيها أحد . وفي المحاضن الصناعية لا يمكن أن يتوفر هذا . إذ تقوم الحاضنة بحضانة عدة أطفال ، يتحاقدون فيما بينهم ، على الأم الصناعية المشتركة ، وتبذر في قلوبهم بذرة الحقد فلا تنمو بذرة الحب أبدا . كذلك يحتاج الطفل إلى سلطة واحدة ثابتة تشرف عليه فترة من حياته كي يتحقق له ثبات الشخصية . وهذا ما لا يتيسر إلا في محضن الأسرة الطبيعي . فأما في المحاضن الصناعية فلا تتوفر السلطة الشخصية الثابتة لتغير الحاضنات بالمناوبة على الأطفال . فتنشأ شخصياتهم مخلخلة ، ويحرمون ثبات الشخصية . . والتجارب في المحاضن تكشف في كل يوم عن حكمة أصيلة في جعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع السليم ، الذي يستهدف الإسلام إنشاءه على أساس الفطرة السليم .
ويصور القرآن هنا تلك التضحية النبيلة الكريمة الواهبة التي تتقدم بها الأمومة ، والتي لا يجزيها أبدا إحسان من الأولاد مهما أحسنوا القيام بوصية الله في الوالدين :
( حملته أمه كرها ، ووضعته كرها ، وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) . .
وتركيب الألفاظ وجرسها يكاد يجسم العناء والجهد والضنى والكلال : ( حملته أمه كرها . ووضعته كرها ) . . لكأنها آهة مجهد مكروب ينوء بعبء ويتنفس بجهد ، ويلهث بالأنفاس ! إنها صورة الحمل وبخاصة في أواخر أيامه ، وصورة الوضع وطلقه وآلامه !
ويتقدم علم الأجنة فإذا به يكشف لنا في عملية الحمل عن جسامة التضحية ونبلها في صورة حسية مؤثرة . .
إن البويضة بمجرد تلقيحها بالخلية المنوية تسعى للالتصاق بجدار الرحم . وهي مزودة بخاصية أكالة . تمزق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله ؛ فيتوارد دم الأم إلى موضعها ، حيث تسبح هذه البويضة الملقحة دائما في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات ؛ وتمتصه لتحيا به وتنمو . وهي دائمة الأكلان لجدار الرحم . دائمة الامتصاص لمادة الحياة . والأم المسكينة تأكل وتشرب وتهضم وتمتص ، لتصب هذا كله دما نقيا غنيا لهذه البويضة الشرهة النهمة الأكول ! وفي فترة تكوين عظام الجنين يشتد امتصاصه للجير من دم الأم فتفتقر إلى الجير . ذلك أنها تعطي محلول عظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير ! وهذا كله قليل من كثير !
ثم الوضع ، وهو عملية شاقة ، ممزقة ، ولكن آلامها الهائلة كلها لا تقف في وجه الفطرة ولا تنسي الأم حلاوة الثمرة . ثمرة التلبية للفطرة ، ومنح الحياة نبتة جديدة تعيش ، وتمتد . . بينما هي تذوي وتموت !
ثم الرضاع والرعاية . حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها في اللبن ، وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية . وهي مع هذا وذلك فرحة سعيدة رحيمة ودود . لا تمل أبدا ولا تكره تعب هذا الوليد . وأكبر ما تتطلع إليه من جزاء أن تراه يسلم وينمو . فهذا هو جزاؤها الحبيب الوحيد !
فأنى يبلغ الإنسان في جزاء هذه التضحية ، مهما يفعل . وهو لا يفعل إلا القليل الزهيد ?
وصدق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقد جاءه رجل كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها ، فسأل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] هل أديت حقها ? فأجابه : " لا ، ولا بزفرة واحدة " .
ويخلص من هذه الوقفة أمام الوصية بالوالدين ، واستجاشة الضمائر بصورة التضحية النبيلة ممثلة في الأم ، إلى مرحلة النضج والرشد ، مع استقامة الفطرة ، واهتداء القلب :
( حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال : رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ، وأن أعمل صالحا ترضاه ، وأصلح لي في ذريتي ، إني تبت إليك ، وإني من المسلمين ) . .
وبلوغ الأشد يتراوح بين الثلاثين والأربعين . والأربعون هي غاية النضج والرشد ، وفيها تكتمل جميع القوى والطاقات ، ويتهيأ الإنسان للتدبر والتفكر في اكتمال وهدوء . وفي هذه السن تتجه الفطرة المستقيمة السليمة إلى ما وراء الحياة وما بعد الحياة . وتتدبر المصير والمآل .
ويصور القرآن هنا خوالج النفس المستقيمة ، وهي في مفرق الطريق ، بين شطر من العمر ولى ، وشطر يكاد آخره يتبدى . وهي تتوجه إلى الله :
( رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ) . .
دعوة القلب الشاعر بنعمة ربه ، المستعظم المستكثر لهذه النعمة التي تغمره وتغمر والديه قبله فهي قديمة العهد به ، المستقل المستصغر لجهده في شكرها . يدعو ربه أن يعينه بأن يجمعه كله : ( أوزعني ) . . لينهض بواجب الشكر ؛ فلا يفرق طاقته ولا اهتمامه في مشاغل أخرى غير هذا الواجب الضخم الكبير .
وهذه أخرى . فهو يطلب العون للتوفيق إلى عمل صالح ، يبلغ من كماله وإحسانه أن يرضاه ربه . فرضى ربه هو الغاية التي يتطلع إليها . وهو وحده الرجاء الذي يأمل فيه .
وهذه ثالثة . وهي رغبة القلب المؤمن في أن يتصل عمله الصالح في ذريته . وأن يؤنس قلبه شعوره بأن في عقبه من يعبد الله ويطلب رضاه . والذرية الصالحة أمل العبد الصالح . وهي آثر عنده من الكنوز والذخائر . وأروح لقلبه من كل زينة الحياة . والدعاء يمتد من الوالدين إلى الذرية ليصل الأجيال المتعاقبة في طاعة الله .
وشفاعته إلى ربه . شفاعته التي يتقدم بها بين يدي هذا الدعاء الخالص لله ، هي التوبة والإسلام :
لما ذكر تعالى في الآية الأولى التوحيد له وإخلاص العبادة والاستقامة إليه ، عطف بالوصية بالوالدين ، كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن ، كقوله : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ الإسراء : 23 ] وقال : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ لقمان : 14 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة . وقال هاهنا : { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا } أي : أمرناه بالإحسان إليهما والحنو عليهما .
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، أخبرني سِمَاك بن حرب قال : سمعت مُصْعب بن سعد{[26402]} يحدث عن سعد قال : قالت أم سعد لسعد : أليس قد أمر الله بطاعة الوالدين ، فلا آكل طعاما ، ولا أشرب شرابا حتى تكفر بالله . فامتنعت من الطعام والشراب ، حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا ، ونزلت هذه الآية : { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا } الآية [ العنكبوت : 8 ] .
ورواه مسلم وأهل السنن إلا ابن ماجه ، من حديث شعبة بإسناده ، نحوه وأطول منه {[26403]} .
{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا } أي : قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعبا ، من وِحَام وغشيان وثقل وكرب ، إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة ، { وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا } أي : بمشقة أيضا من الطلق وشدته ، { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا }
وقد استدل علي ، رضي الله عنه ، بهذه الآية مع التي في لقمان : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [ لقمان : 14 ] ، وقوله : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [ البقرة : 233 ] ، على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وهو استنباط قوي صحيح . ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة ، رضي الله عنهم .
قال محمد بن إسحاق بن يسار ، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيْط ، عن بَعْجَةَ{[26404]} بن عبد الله الجهني قال : تزوج رجل منا امرأة من جُهَيْنة ، فولدت له لتمام ستة أشهر ، فانطلق زوجها إلى عثمان فذكر ذلك له ، فبعث إليها ، فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها ، فقالت : ما يبكيك ؟ ! فوالله ما التبس بي أحد من خلق الله غيره قط ، فيقضي الله في ما شاء . فلما أتي بها عثمان أمر برجمها ، فبلغ ذلك عليا فأتاه ، فقال له : ما تصنع ؟ قال : ولدت تماما لستة أشهر ، وهل يكون ذلك ؟ فقال له [ علي ] {[26405]} أما تقرأ القرآن ؟ قال : بلى . قال : أما سمعت الله يقول : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا } وقال : { [ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ ] حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } {[26406]} ، فلم نجده بقي إلا ستة أشهر ، قال : فقال عثمان : والله ما فطنت لهذا ، علي بالمرأة فوجدوها قد فُرِغَ منها ، قال : فقال بَعْجَةُ : فوالله ما الغراب بالغراب ، ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه . فلما رآه أبوه قال : ابني إني والله لا أشك فيه ، قال : وأبلاه{[26407]} الله بهذه القرحة قرحة الآكلة ، فما زالت تأكله حتى مات{[26408]} .
رواه ابن أبي حاتم ، وقد أوردناه من وجه آخر عند قوله : { فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } [ الزخرف : 81 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا فَرْوَة بن أبي المَغْرَاء ، حدثنا علي بن مِسْهَر ، عن داود بن أبي هند ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس{[26409]} قال : إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع أحد وعشرون شهرا ، وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرًا ، وإذا وضعته لستة أشهر فحولين كاملين ؛ لأن الله تعالى يقول : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا }
{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي : قوى وشب وارتجل { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } أي : تناهى عقله وكمل فهمه وحلمه . ويقال : إنه لا يتغير غالبا عما يكون عليه ابن الأربعين .
قال أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن القاسم بن عبد الرحمن قال : قلت لمسروق : متى يؤخذ الرجل بذنوبه ؟ قال : إذا بَلَغْتَ الأربعين ، فَخُذْ حذرك .
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عُبَيد الله القواريري ، حدثنا عَزْرَة بن قيس الأزدي - وكان قد بلغ مائة سنة - حدثنا أبو الحسن السلولي{[26410]} عنه وزادني{[26411]} قال : قال محمد بن عمرو بن عثمان ، عن عثمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العبد المسلم إذا بلغ أربعين سنة خفف الله حسابه ، وإذا بلغ{[26412]} ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه ، وإذا بلغ سبعين سنة أحبّه أهل السماء ، وإذا بلغ ثمانين سنة ثبت الله حسناته ومحا سيئاته ، وإذا بلغ تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وشفَّعه الله في أهل بيته ، وكتب في السماء : أسير{[26413]} الله في أرضه " {[26414]} .
وقد روي هذا من غير هذا الوجه ، وهو في مسند الإمام أحمد{[26415]} {[26416]} .
وقد قال الحجاج بن عبد الله الحكمي أحد أمراء بني أمية بدمشق : تركت المعاصي والذنوب أربعين سنة حياء من الناس ، ثم تركتها حياء من الله ، عز وجل .
صَبَا ما صَبَا حَتى عَلا الشَّيبُ رأسَهُ *** فلمَّا عَلاهُ قال للباطل : ابطُل{[26417]}
{ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي } أي : ألهمني { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ } أي : في المستقبل ، { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي } أي : نسلي وعقبي ، { إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله ، عز وجل ، ويعزم عليها .
وقد روى أبو داود في سننه ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم أن يقولوا في التشهد : " اللهم ، ألف بين قلوبنا ، وأصلح ذات بيننا ، واهدنا سبُل {[26418]} السلام ، ونجنا من الظلمات إلى النور ، وجنّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا ، وأزواجنا ، وذرياتنا ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، واجعلنا شاكرين لنعمتك ، مثنين بها قابليها ، وأتممها علينا " {[26419]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَوَصّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتّىَ إِذَا بَلَغَ أَشُدّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِيَ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِيَ أَنْعَمْتَ عَلَيّ وَعَلَىَ وَالِدَيّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرّيّتِيَ إِنّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ووصينا ابن آدم بوالديه الحسن في صحبته إياهما أيام حياتهما ، والبرّ بهما في حياتهما وبعد مماتهما .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : إحسانا فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة «حُسْنا » بضمّ الحاء على التأويل الذي وصفت . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة إحْسانا بالألف ، بمعنى : ووصيناه بالإحسان إليهما ، وبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب ، لتقارب معاني ذلك ، واستفاضة القراءة بكل واحدة منهما في القرّاء .
وقوله : حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْها وَوَضَعَتْهُ كُرْها يقول تعالى ذكره : ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا برّا بهما ، لما كان منهما إليه حملاً ووليدا وناشئا ، ثم وصف جلّ ثناؤه ما لديه من نعمة أمه ، وما لاقت منه في حال حمله ووضعه ، ونبهه على الواجب لها عليه من البرّ ، واستحقاقها عليه من الكرامة وجميل الصحبة ، فقال : حَمَلَتْهُ أُمّهُ يعني في بطنها كرها ، يعني مشقة ، وَوَضَعَتْهُ كُرْها يقول : وولدته كرها يعني مشقة . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْها وَوَضَعَتْهُ كُرْها يقول : حملته مشقة ، ووضعته مشقة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والحسن ، في قوله : حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْها وَوَضَعَتْهُ كُرْها قالا : حملته في مشقة ، ووضعته في مشقة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْها قال : مشقة عليها .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : كُرْها فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة «كَرْها » بفتح الكاف . وقرأته عامة قرّاء الكوفة كُرْها بضمها ، وقد بيّنت اختلاف المختلفين في ذلك قبل إذا فتح وإذا ضمّ في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقوله : وحَمْلُهُ وفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرا يقول تعالى ذكره : وحمل أمه إياه جنينا في بطنها ، وفصالها إياه من الرضاع ، وفطمها إياه ، شرب اللبن ثلاثون شهرا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَفِصَالُهُ ، فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار غير الحسن البصري : وحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ بمعنى : فاصلته أمه فصالاً ومفاصلة . وذُكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأه : «وحَمْلُهُ وَفَصْلُهُ » بفتح الفاء بغير ألف ، بمعنى : وفصل أمه إياه .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، ما عليه قرّاء الأمصار ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، وشذوذ ما خالفه .
وقوله : حتى إذَا بَلَغَ أشُدّهُ اختلف أهل التأويل في مبلغ حدّ ذلك من السنين ، فقال بعضهم : هو ثلاث وثلاثون سنة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : أشدّه : ثلاث وثلاثون سنة ، واستواؤه أربعون سنة ، والعذر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة حتى إذَا بَلَغَ أشُدّهُ قال : ثلاثا وثلاثين .
وقال آخرون : هو بلوغ الحلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مجالد ، عن الشعبيّ ، قال : الأشدّ : الحلم إذا كتبت له الحسنات ، وكتبت عليه السيئات .
وقد بيّنا فيما مضى الأشدّ جمع شدّ ، وأنه تناهي قوّته واستوائه . وإذا كان ذلك كذلك ، كان الثلاث والثلاثون به أشبه من الحلم ، لأن المرء لا يبلغ في حال حُلمه كمال قواه ، ونهاية شدّته ، فإن العرب إذا ذكرت مثل هذا من الكلام ، فعطفت ببعض على بعض جعلت كلا الوقتين قريبا أحدهما من صاحبه ، كما قال جلّ ثناؤه : إنّ رَبّكَ يَعْلَمُ أنّكَ تَقُومُ أدنى مِنْ ثُلُثَي اللّيْل وَنِصْفَهُ ولا تكاد تقول أنا أعلم أنك تقوم قريبا من ساعة من الليل وكله ، ولا أخذت قليلاً من مال أو كله ، ولكن تقول : أخذت عامة مالي أو كله ، فكذلك ذلك في قوله : حتى إذَا بَلَغَ أشُدّهُ وَبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً لا شكّ أن نسق الأربعين على الثلاث والثلاثين أحسن وأشبه ، إذ كان يُراد بذلك تقريب أحدهما من الاَخر من النسق على الخمس عشرة أو الثمان عشرة .
وقوله : وَبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً ذلك حين تكاملت حجة الله عليه ، وسير عنه جهالة شبابه وعرف الواجب لله من الحقّ في برّ والديه . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً وقد مضى من سيء عمله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً ، قالَ رَبّ أوْزِعْنِي حتى بلغ مِنَ المُسْلِمِينَ وقد مضى من سيء عمله ما مضى .
وقوله : قالَ رَبّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِي أنْعَمْتَ عَليّ وَعَلى وَالِدَيّ يقول تعالى ذكره : قال هذا الإنسان الذي هداه الله لرشده ، وعرف حقّ الله عليه فيما ألزمه من برّ والديه رَبّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ يقول : أغرني بشكر نعمتك التي أنعمت عليّ في تعريفك إياي توحيدك وهدايتك لي للإقرار بذلك ، والعمل بطاعتك وَعَلىَ وَالِدَيّ من قبلي ، وغير ذلك من نعمك علينا ، وألهمني ذلك . وأصله من وزعت الرجل على كذا : إذا دفعته عليه . وكان ابن زيد يقول في ذلك ما :
حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ قال : اجعلني أشكر نعمتك ، وهذا الذي قاله ابن زيد في قوله : ربّ أوْزِعْنِي وإن كان يؤول إليه معنى الكلمة ، فليس بمعنى الإيزاع على الصحة .
وقوله : وأنْ أعمَلَ صَالِحا تَرْضَاهُ يقول تعالى ذكره : أوزعني أن أعمل صالحا من الأعمال التي ترضاها ، وذلك العمل بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقوله : وأصْلِحْ لي في ذُرّيّتِي يقول : وأصلح لي أموري في ذرّيتي الذين وهبتهم ، بأن تجعلهم هداة للإيمان بك ، واتباع مرضاتك ، والعمل بطاعتك ، فوصاه جلّ ثناؤه بالبرّ بالاَباء والأمهات والبنين والبنات . وذُكر أن هذه الاَية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه .
وقوله : إنّي تُبْتُ إلَيْكَ وَإنّي مِنَ المُسْلِمِينَ يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هذا الإنسان : إنّي تُبْتُ إلَيْكَ يقول : تبت من ذنوبي التي سلفت مني في سالف أيامي إليك وَإنّي مِنَ المُسْلِمِينَ يقول : وإني من الخاضعين لك بالطاعة ، المستسلمين لأمرك ونهيك ، المنقادين لحكمك .
وقوله تعالى : { ووصينا الإنسان بوالديه } يريد النوع ، أي هكذا مضت شرائعي وكتبي لأنبيائي ، فهي وصية من الله في عباده .
وقرأ جمهور القراء : «حُسْناً » بضم الحاء وسكون السين ، ونصبه على تقدير وصيناه ليفعل أمراً ذا حسن ، فكأن الفعل تسلط عليه مفعولاً ثانياً . وقرأ علي بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن وعيسى : «حَسَناً » بفتح الحاء والسين ، وهذا كالأول ومحتمل كونهما مصدرين كالبُخل والبَخل{[10302]} ، ومحتمل ، أن يكون هذا الثاني اسماً لا مصدراً ، أي ألزمناه بهما فعلاً حسناً{[10303]} . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «إحساناً » ، ونصب هذا على المصدر الصريح والمفعول الثاني في المجرور ، والباء متعلقة ب { وصينا } أو بقوله : «إحساناً »{[10304]} .
وبر الوالدين واجب بهذه الآية وغيرها ، وعقوقهما كبيرة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : كل شيء بينه وبين الله حجاب إلا شهادة أن لا إله إلا الله ودعوة الوالدين{[10305]} .
قال القاضي أبو محمد : : ولن يدعوا إلا إذا ظلمهما الولد ، فهذا الحديث في عموم قوله عليه السلام : «اتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب »{[10306]} .
ثم عدد تعالى على الأبناء منن الأمهات وذكر الأم في هذه الآيات في أربع مراتب ، والأب في واحدة ، جمعهما الذكر في قوله : { بوالديه } ، ثم ذكر الحمل للأم ثم الوضع لها ثم الرضاع الذي عبر عنه بالفصال ، فهذا يناسب ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر ، والربع للأب ، وذلك إذ قال له رجل : يا رسول الله من أبر ؟ «قال : أمك ، قال ثم من ؟ قال : ثم أمك ، قال ثم من ؟ قال : ثم أمك ، قال ثم من ؟ قال : أباك »{[10307]} .
وقوله : { كرهاً } معناه في ثاني استمرار الحمل حين تتوقع حوادثه ، ويحتمل أن يريد في وقت الحمل ، إذ لا تدبير لها في حمله ولا تركه ، وقال مجاهد والحسن وقتادة : المعنى حملته مشقة ووضعته مشقة .
وقرأ أكثر القراء : «كُرهاً » بضم الكاف . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة والأعرج : «كَرهاً » بفتح الكاف ، وقرأ بهما معاً مجاهد وأبو رجاء وعيسى . قال أبو علي وغيره : هما بمعنى ، الضم الاسم ، والفتح المصدر . وقالت فرقة : الكره بالضم : المشقة ، والكره بالفتح هو الغلبة والقهر ، وضعفوا على هذا قراءة الفتح . قال بعضهم : لو كان «كَرهاً » لرمت به عن نفسها ، إذ الكره القهر والغلبة ، والقول الذي قدمناه أصوب .
وقرأ جمهور الناس : «وفصاله » وذلك أنها مفاعلة من اثنين ، كأنه فاصل أمه وفاصلته . وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري : «وفصله » ، كأن الأم هي التي فصلته .
وقوله : { ثلاثون شهراً } يقتضي أن مدة الحمل والرضاع هذه المدة ، لأن في القول حذف مضاف تقديره : ومدة حمله وفصاله ، وهذا لا يكون إلا بأن يكون أحد الطرفين ناقصاً ، وذلك إما بأن تلد المرأة لستة أشهر وترضع عامين ، وإما بأن تلد لتسعة على العرف وترضع عامين غير ربع العام ، فإن زادت مدة الحمل نقصت مدة الرضاع ، وبالعكس فيترتب من هذا أن أقل مدة الحمل ستة أشهر .
وأقل ما يرضع الطفل عام وتسعة أشهر ، وإكمال العامين هو لمن أراد أن يتم الرضاعة ، وهذا في أمر الحمل هو مذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجماعة من الصحابة ومذهب مالك رحمه الله .
واختلف الناس في الأشد : فقال الشعبي وزيد بن أسلم : البلوغ إذا كتبت عليه السيئات وله الحسنات . وقال ابن إسحاق : ثمانية عشر عاماً ، وقيل عشرون عاماً ، وقال ابن عباس وقتادة : ثلاثة وثلاثون عاماً ، وقال الجمهور من النظار : ثلاثة وثلاثون . وقال هلال بن يساف وغيره : أربعون ، وأقوى الأقوال ستة وثلاثون ، ومن قال بالأربعين قال في الآية إنه أكد وفسر الأشد بقوله : { وبلغ أربعين سنة } .
قال القاضي أبو محمد : وإنما ذكر تعالى الأربعين ، لأنها حد للإنسان في فلاحه ونجابته ، وفي الحديث : «إن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب فيقول : بأبي وجه لا يفلح »{[10308]} وقال أيمن بن خريم الأسدي : [ الطويل ]
إذا المرء وفّى الأربعين ولم يكنْ . . . له دون ما يأتي حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى . . . وإن جر أسباب الحياة له العمر{[10309]}
وفي مصحف ابن مسعود : «حتى إذا استوى أشده وبلغ أربعين سنة »{[10310]} وقوله : { أوزعني } معناه : ادفعني عن الموانع وازجرني عن القواطع لأجل أن أشكر نعمتك{[10311]} ، ويحتمل أن يكون { أوزعني } بمعنى اجعل حظي ونصيبي ، وهذا من التوزيع والقوم الأوزاع ، ومن قوله توزعوا المال ، ف «أن » على هذا مفعول صريح . وقال ابن عباس { نعمتك } في التوحيد . و : { صالحاً ترضاه } الصلوات . والإصلاح في الذرية كونهم أهل طاعة وخيرية ، وهذه الآية معناها أن هكذا ينبغي للإنسان أن يفعل ، وهذه وصية الله للإنسان في كل الشرائع .
وقال الطبري : وذُكر أن هذه الآية من أولها نزلت في شأن أبي بكر الصديق ، ثم هي تتناول من بعده ، وكان رضي الله عنه قد أسلم أبواه ، فلذلك قال : { وعلى والدي } ، وفي هذا القول اعتراض بأن هذه الآية نزلت بمكة لا خلاف في ذلك ، وأبو قحافة أسلم عام الفتح فإنما يتجه هذا التأويل على أن أبا بكر كان يطمع بإيمان أبويه ويرى مخايل ذلك فيهما ، فكانت هذه نعمة عليهما أن ليسا ممن عسى{[10312]} في الكفر ولج وحتم عليه ثم ظهر إيمانهما بعد ، والقول بأنها عامة في نوع الإنسان لم يقصد بها أبو بكر ولا غيره أصح{[10313]} ، وباقي الآية بين إلى قوله : { من المسلمين } .
{ وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه إحسانا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهرا }
تطلب بعض المفسرين وجه مناسبة وقوع هذه الآية عقب التي قبلها ، وذكر القرطبي عن القشيري أن وجه اتصال الكلام بعضه ببعض أن المقصود بيان أنه لا يبعد أن يستجيب بعض الناس للنبيء صلى الله عليه وسلم ويكفر به بعضهم كما اختلف حال الناس مع الوالدين . وقال ابن عساكر : لما ذكر الله التوحيد والاستقامة عطف الوصية بالوالدين كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن . وكلا هذين القولين غير مقنع في وجه الاتصال . ووجه الاتصال عندي أن هذا انتقال إلى قول آخر من أقوال المشركين وهو كلامهم في إنكار البعث وجدالهم فيه فإن ذلك من أصول كفرهم بمحل القصد من هذه الآيات قوله : { والذي قال لوالديه أفَ لكما إلى قوله : { خاسرين } [ الأحقاف : 17 ، 18 ] .
وصيغ هذا في أسلوب قصة جدال بين والدين مؤمنين ووَلد كافر ، وقصة جدال بين ولد مؤمن ووالدين كافرين لأن لذلك الأسلوب وقعا في أنفس السامعين مع ما روي أن ذلك إشارة إلى جدال جرى بين عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق قبل إسلامه وبين وَالديه كما سيأتي . ولذلك تعيّن أن يكون ما قبله توطئة وتمهيداً لذكر هذا الجدال .
وقد روى الواحدي عن ابن عبّاس أن قوله : { ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً } إلى قوله : { يوعدون } [ الأحقاف : 15 ، 16 ] نزل في أبي بكر الصديق . وقال ابن عطية وغير واحد : نزلت في أبي بكر وأبيه ( أبي قحافة ) وأمه ( أم الخير ) أسلم أبواه جميعاً . وقد تكررت الوصاية ببر الوالدين في القرآن وحرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن عديدة فكان البر بالوالدين أجلى مظهراً في هذه الأمة منه في غيرها وكان من بركات أهلها بحيث لم يبلغ بر الوالدين مبلغاً في أمة مبلغه في المسلمين . وتقدم { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا } في سورة العنكبوت ( 8 ) .
والمراد بالإنسان الجنس ، أي وصينا الناس وهو مراد به خصوص الناس الذين جاءتهم الرسل بوصايا الله والذين آمنوا وعملوا الصالحات وذلك هو المناسب لقوله في آخرها { أولئك الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا } [ الأحقاف : 16 ] الآية .
وكذلك هو فيما ورد من الآيات في هذا الغرض كما في سورة العنكبوت وفي سورة لقمان بصيغة واحدة .
والحُسن : مصدر حَسُن ، أي وصيناه بحُسن المعاملة . وقرأه الجمهور كذلك . وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف { إحسانا } . والنصب على القراءتين إما بنزع الخافض وهو الباء وإما بتضمين { وصيْنَا } معنى : ألزمنا .
والكره : بفتح الكاف وبضمها مصدر أكره ، إذا امتعض من شيء ، أي كان حمله مكروهاً لها ، أي حالة حمله وولادته لذلك . وقرأ الجمهور { كَرها } في الموضعين بفتح الكاف . وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر ويعقوب بضم الكاف في الموضعين .
وانتصب { كرها } على الحال ، أي كارهة أو ذات كَره .
والمعنى : أنها حملته في بطنها متعبَة من حمله تعباً يجعلها كارهة لأحوال ذلك الحمل . ووضعته بأوجاع وآلام جعلتها كارهة لوضعه . وفي ذلك الحمل والوضع فائدة له هي فائدة وجوده الذي هو كمال حال الممكن وما ترتب على وجوده من الإيمان والعمل الصالح الذي به حصول النعم الخالدة .
وأشير إلى ما بعد الحمل من إرضاعه الذي به علاج حياته ودفع ألم الجوع عنه وهو عمل شاق لأمه فذُكرت مدة الحمل والإرضاع لأنها لطولها تستدعي صبرَ الأم على تحمل كلفة الجنين والرضيع .
والفصال : الفطام ، وذكر الفصال لأنه انتهاء مدة الرضاع فذكر مبدأ مدة الحمل بقوله : { وحملُه } وانتهاءُ الرضاع بقوله : { وفصالُه } . والمعنى : وحمله وفصاله بينهما ثلاثون شهراً . وقرأ يعقوب { وفصْله } بسكون الصاد ، أي فصله عن الرضاعة بقرينة المقام .
ومن بديع معنى الآية جمع مدة الحمل إلى الفصال في ثلاثين شهراً لتُطابق مختلف مدد الحمل إذ قد يكون الحمل ستة أشهر وسبعة أشهر وثمانية أشهر وتسعة وهو الغالب ، قيل : كانوا إذا كان حمل المرأة تسعة أشهر وهو الغالب أرضعتْ المولود أحد وعشرين شهراً ، وإذا كان الحمل ثمانية أشهر أرضعت اثنين وعشرين شهراً ، وإذا كان الحمل سبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهراً ، وإذا كان الحمل ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهراً ، وذلك أقصى أمد الإرضاع فعوضوا عن نقص كل شهر من مدة الحمل شهراً زائداً في الإرضاع لأن نقصان مدة الحمل يؤثر في الطفل هزالاً .
ومن بديع هذا الطيّ في الآية أنها صالحة للدلالة على أن مدة الحمل قد تكون دون تسعة أشهر ولولا أنها تكون دون تسعة أشهر لحددته بتسعة أشهر لأن الغرض إظهار حق الأم في البر بما تحملته من مشقة الحمل فإن مشقة مدة الحمل أشدّ من مشقة الإرضاع فلولا قصد الإيماء إلى هذه الدلالة لكان التحديد بتسعة أشهر أجدرَ بالمقام . وقد جعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه هذه الآية مع آية سورة البقرة ( 233 ) { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } دليلاً على أن الوضع قد يكون لستة أشهر ، ونسب مثله إلى ابن عباس . ورووا عن معمر بن عبد الله الجهني قال : تزوج رجل منا امرأة من جهينة فولدت لتمام ستة أشهر فانطلق زوجها إلى عثمان بن عفان فذكر له فبعث إليها عثمان ، فلما أتي بها أمر برجمها فبلغ ذلك عَليّاً فأتاه فقال : أما تقرأ القرآن قال : بلى . قال : أما سمعت قوله : { وحملهُ وفصاله ثلاثون شهراً } ، وقال : { حولين كامِلين } فلم نجده بَقي إلا ستة أشهر . فرجع عثمان إلى ذلك وهو استدلال بني على اعتبار أن شمول الصور النادرة التي يحتملها لفظ القرآن هو اللائق بكلام علاّم الغيوب الذي أنزله تبياناً لكل شيء من مثل هذا .
وتقدم الكلام على أحكام الحمل في سورة البقرة .
{ حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أوزعنى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى والدي وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه وَأَصْلِحْ لِي فِى ذريتى إِنَّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ المسلمين } .
{ حتى } ابتدائية ومعناها معنى فاء التفريع على الكلام المتقدم ، وإذ كانت { حتى } لا يفارقها معنى الغاية كانت مؤذنة هنا بأن الإنسان تدرج في أطواره من وقت فصاله إلى أن بلغ أشده ، أي هو موصًى بوالديه حسناً في الأطوار الموالية لفصاله ، أي يوصيه وليّه في أطوار طفولته ثم عليه مراعاة وصية الله في وقت تكليفه .
ووقوع { إذا } بعد { حتى } ليرتب عليها توقيت ما بعد الغاية من الخبر ، أي كانت الغاية وقت بلوغه الأشدّ ، وقد تقدمت نظائر ذلك قريباً وبعيداً منها قوله تعالى : { حتى إذا فشلتم } في سورة آل عمران ( 152 ) .
ولما كان إذا } ظرفاً لزمن مستقبل كان الفعل الماضي بعدها منقلباً إلى الاستقبال ، وإنما صيغ بصيغة الماضي تشبيهاً للمؤكد تحصيله بالواقع ، فهو استعارة .
و { إذا } تجريد للاستعارة ، والمعنى : حتى يبلغ أشده ، أي يستمر على الإحسان إليهما إلى أن يبلغ أشده فإذا بلغه { قال رب أوزِعْني } ، أي طلب العون من الله على زيادة الإحسان إليهما بأن يلهمه الشكر على نعمه عليه وعلى والديه . ومن جملة النعم عليه أن ألهمه الإحسان لِوالديه . ومن جملة نعمه على والديه أن سخر لهما هذا الولد ليحسن إليهما ، فهاتان النعمتان أول ما يتبادر عن عموم نعْمة الله عليه وعلى والديه لأن المقام للحديث عنهما .
وهذا إشارة إلى أن الفعل المؤقت ببلوغ الأشد وهو فعل { قال ربّ أوزعني } من جملة ما وُصِي به الإنسان ، أي أن يحسن إلى والديه في وقت بلوغه الأشد . فالمعنى : ووصينا الإنسان حُسناً بوالديه حتى في زمن بلوغه الأشد ، أي أن لا يفتر عن الإحسان إليهما بكل وجه حتى بالدعاء لهما . وإنما خص زمان بلوغه الأشد لأنه زمن يكثر فيه الكلف بالسعي للرزق إذ يكون له فيه زوجة وأبناء وتكثر تكاليف المرأة فيكون لها فيه زوج وبيت وأبناء فيكونان مظنة أن تشغلهما التكاليف عن تعهد والديهما والإحسان إليهما فنبها بأن لا يفتُرا عن الإحسان إلى الوالدين .
ومعنى { قال ربّ أوزعني } أنه دعا ربه بذلك ، ومعناه : أنه مأمور بالدعاء إليهما بأنه لا يشغله الدعاء لنفسه عن الدعاء لهما وبأنه يحسن إليهما بظهر الغيب منهما حين مناجاته ربه ، فلا جرم أن إحسانه إليهما في المواجهة حاصل بفحوى الخطاب كما في طريقة الفحوى في النهي عن أذاهما بقوله تعالى : { فلا تقل لهما أف } [ الإسراء : 23 ] .
وحاصل المعنى : أن الله أمر بالإحسان إلى الوالدين في المشاهدة والغيبة وبجميع وسائل الإحسان الذي غايته حصول النفع لهما ، وهو معنى قوله تعالى : { وقل رب ارحمهما كما رَبَّياني صغيرا } [ الإسراء : 24 ] وأن الله لمّا أمر بالدعاء للأبوين وعد بإجابته على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم لقوله : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم بثه في صدور الرجال ، وولد صالح يدعو له بخير " وما شُكر الولد ربه على النعمة التي أنعمها الله على والديه إلا من باب نيابته عنهما في هذا الشكر ، وهو من جملة العمل الذي يؤديه الولد عن والديه .
وفي حديث الفضل بن عباس أن المرأة الخثعمية قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع « إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة أفيجزِىءُ أن أحُجّ عنه ، قال : " نعم حُجِّي عنه " ، وهو حج غير واجب على أبيها لعجزه .
والأشُدّ : حالة اشتداد القوى العقلية والجسدية وهو جمع لم يسمع له بمفرد . وقيل مفرده : شِدّة بكسر الشين وهاء التأنيث مثل نعمة جمعها أنْعُم ، وليس الأشد اسماً لعدد من سني العمر وإنما سِنُو العمر مظنة للأشُدّ . ووقتُه ما بعد الثلاثين سنة وتمامه عند الأربعين سنة ولذلك عطف على { بلَغ أشده } قوله : { وبلغ أربعين سنة } أي بلغ الأشد ووصل إلى أكمله فهو كقوله تعالى : { ولما بلغ أشده واستوى } [ القصص : 14 ] ، وتقدم في سورة يوسف ، وليس قوله : { وبلغ أربعين سنة } تأكيداً لقوله { بلغ أشده } لأن إعادة فعل بلغ تبعد احتمال التأكيد وحرف العطف أيضاً يبعد ذلك الاحتمال .
و { أوزعني } : ألهمني . وأصل فعل أوزع الدلالة على إزالة الوَزْع ، أي الانكفاف عن عمل ما ، فالهمزة فيه للإزالة ، وتقدم في سورة النمل .
و { نعمتك } اسم مصدر مضاف يعمّ ، أي ألهمني شكر النعم التي أنعمت بها علي وعلى والدي من جميع النعم الدينية كالإيمان والتوفيق ومن النعم الدنيوية كالصحة والجِدة .
وما ذكر من الدعاء لذريته بقوله : { وأصلح لي في ذريتي } استطراد في أثناء الوصاية بالدعاء للوالدين بأن لا يغفل الإنسان عن التفكر في مستقبله بأن يصرف عنايته إلى ذريته كما صرفها إلى أبويه ليكون له من إحسان ذريته إليه مثل ما كان منه لأبويه وإصلاح الذرية يشمل إلهامهم الدعاء إلى الوالد .
وفي إدماج تلقين الدعاء بإصلاح ذريته مع أن سياق الكلام في الإحسان إلى الوالدين إيماء إلى أن المرء يلقى من إحسان أبنائه إليه مثل ما لقي أبواه من إحسانه إليهما ، ولأن دعوة الأب لابنه مرجوة الإجابة . وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن : دعوة الوالد على ولده ، ودعوة المسافر ، ودعوة المظلوم " ، وفي رواية « لولده » وهو حديث حسن متعددة طرقه .
واللام في { وأصلح لي } لام العلة ، أي أصلح في ذريتي لأجلي ومنفعتي كقوله تعالى :
{ ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] . ونكتة زيادة هذا في الدعاء أنه بعد أن أشار إلى نعم الله عليه وعلى والديه تعرض إلى نفحات الله فسأله إصلاح ذريته وعرَّض بأن إصلاحهم لفائدته ، وهذ تمهيد لبساط الإجابة كأنه يقول : كما ابتدأتني بنعمتك وابتدأت والديّ بنعمتك ومتعتهما بتوفيقي إلى برهما ، كَمِّلْ إنعامك بإصلاح ذريتي فإن إصلاحهم لي . وهذه ترقيات بديعة في درجات القرب .
ومعنى ظرفية { في ذريتي } أن ذريته نزلت منزلة الظرف يَستقر فيه ما هو به الإصلاح ويحتوي عليه ، وهو يفيد تمكن الإصلاح من الذرية وتغلغله فيهم . ونظيره في الظرفية قوله تعالى : { وجعلها كلمة باقية في عقبه } [ الزخرف : 28 ] .
وجملة { إني تبت إليك } كالتعليل للمطلوب بالدعاء تعليل توسل بصلة الإيمان والإقرار بالنعمة والعبودية . وحرف ( إنَّ ) للاهتمام بالخبر كما هو ظاهر ، وبذلك يستعمل حرف ( إنَّ ) في مقام التعليل ويغني غناء الفاء .
والمراد بالتوبة : الإيمان لأنه توبة من الشرك ، وبكونه من المسلمين أنه تبع شرائع الإسلام وهي الأعمال . وقال : { من المسلمين } دون أن يقول : وأسلمت كما قال : { تُبت إليك } لما يؤذن به اسم الفاعل من التلبس بمعنى الفعل في الحال وهو التجدد لأن الأعمال متجددة متكررة ، وأما الإيمان فإنما يحصل دفعة فيستقر لأنه اعتقاد ، وفيه الرعي على الفاصلة . هذا وجه تفسير الآية بما تعطيه تراكيبها ونظمها دون تكلف ولا تحمّل ، وهي عامة لكل مسلم أهل لوصاية الله تعالى بوالديه والدعاء لهما إن كانا مؤمنين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ووصينا ابن آدم بوالديه الحسن في صحبته إياهما أيام حياتهما، والبرّ بهما في حياتهما وبعد مماتهما...
وقوله:"حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْها وَوَضَعَتْهُ كُرْها" يقول تعالى ذكره: ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا برّا بهما، لما كان منهما إليه حملاً ووليدا وناشئا، ثم وصف جلّ ثناؤه ما لديه من نعمة أمه، وما لاقت منه في حال حمله ووضعه، ونبهه على الواجب لها عليه من البرّ، واستحقاقها عليه من الكرامة وجميل الصحبة، فقال: "حَمَلَتْهُ أُمّهُ "يعني في بطنها كرها، يعني مشقة، "وَوَضَعَتْهُ كُرْها" يقول: وولدته كرها يعني مشقة... وقوله: "وحَمْلُهُ وفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرا" يقول تعالى ذكره: وحمل أمه إياه جنينا في بطنها، وفصالها إياه من الرضاع، وفطمها إياه، شرب اللبن ثلاثون شهرا...
وقوله: "حتى إذَا بَلَغَ أشُدّهُ"، اختلف أهل التأويل في مبلغ حدّ ذلك من السنين؛ فقال بعضهم: هو ثلاث وثلاثون سنة... عن ابن عباس، قال: أشدّه: ثلاث وثلاثون سنة، واستواؤه أربعون سنة، والعذر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون...
وقال آخرون: هو بلوغ الحلم... عن الشعبيّ، قال: الأشدّ: الحلم إذا كتبت له الحسنات، وكتبت عليه السيئات.
وقد بيّنا فيما مضى الأشدّ جمع شدّ، وأنه تناهي قوّته واستوائه. وإذا كان ذلك كذلك، كان الثلاث والثلاثون به أشبه من الحلم، لأن المرء لا يبلغ في حال حُلمه كمال قواه، ونهاية شدّته، فإن العرب إذا ذكرت مثل هذا من الكلام، فعطفت ببعض على بعض جعلت كلا الوقتين قريبا أحدهما من صاحبه، كما قال جلّ ثناؤه: "إنّ رَبّكَ يَعْلَمُ أنّكَ تَقُومُ أدنى مِنْ ثُلُثَي اللّيْل وَنِصْفَهُ" ولا تكاد تقول أنا أعلم أنك تقوم قريبا من ساعة من الليل وكله، ولا أخذت قليلاً من مال أو كله، ولكن تقول: أخذت عامة مالي أو كله، فكذلك ذلك في قوله: "حتى إذَا بَلَغَ أشُدّهُ وَبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً" لا شكّ أن نسق الأربعين على الثلاث والثلاثين أحسن وأشبه، إذ كان يُراد بذلك تقريب أحدهما من الآخر من النسق على الخمس عشرة أو الثمان عشرة.
وقوله: "وَبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً" ذلك حين تكاملت حجة الله عليه، وسير عنه جهالة شبابه وعرف الواجب لله من الحقّ في برّ والديه...
وقوله: "قالَ رَبّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِي أنْعَمْتَ عَليّ وَعَلى وَالِدَيّ" يقول تعالى ذكره: قال هذا الإنسان الذي هداه الله لرشده، وعرف حقّ الله عليه فيما ألزمه من برّ والديه "رَبّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ" يقول: أغرني بشكر نعمتك التي أنعمت عليّ في تعريفك إياي توحيدك وهدايتك لي للإقرار بذلك، والعمل بطاعتك "وَعَلىَ وَالِدَيّ" من قبلي، وغير ذلك من نعمك علينا، وألهمني ذلك. وأصله من وزعت الرجل على كذا: إذا دفعته عليه...
وقوله: "وأنْ أعمَلَ صَالِحا تَرْضَاهُ" يقول تعالى ذكره: أوزعني أن أعمل صالحا من الأعمال التي ترضاها، وذلك العمل بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "وأصْلِحْ لي في ذُرّيّتِي" يقول: وأصلح لي أموري في ذرّيتي الذين وهبتهم، بأن تجعلهم هداة للإيمان بك، واتباع مرضاتك، والعمل بطاعتك، فوصاه جلّ ثناؤه بالبرّ بالآباء والأمهات والبنين والبنات. وذُكر أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه.
وقوله: "إنّي تُبْتُ إلَيْكَ وَإنّي مِنَ المُسْلِمِينَ" يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هذا الإنسان: "إنّي تُبْتُ إلَيْكَ" يقول: تبت من ذنوبي التي سلفت مني في سالف أيامي إليك "وَإنّي مِنَ المُسْلِمِينَ" يقول: وإني من الخاضعين لك بالطاعة، المستسلمين لأمرك ونهيك، المنقادين لحكمك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ووصّينا الإنسان بوالديه إحسانا} وحسنًا؛ كأنه قال: أمرنا الإنسان أن يحسن إلى والديه فالحسن هو اسم ما يقع بهما من البر، وهو المفعول. والإحسان هو اسم فِعْله الذي يفعل بهما...
{حملته أمه كُرها ووضعته كرها} وقال في آية أخرى: {وحملته أمه وهنا على وَهْن} [لقمان: 14]. وقال في آية أخرى: {حملت حملا خفيفا} أي أنها في أول ما حملته [كان] حملا خفيفا، فلما كبر {أثقلت} [الأعراف: 189]. وهو وصف الولد. وقوله تعالى: {وهنا على وهن} وذلك في الأم لأنها لا تزال تضعُف، وتهِن، من أول ما حملت إلى آخر ما وضعت. وقوله تعالى: {حملته أمه كرها ووضعته كرها}، يحتمل وجهين: أحدهما: في أول ما تحمل تجد كراهة في نفسها إلى وقت وضعها. والثاني: يشبه أن يكون على الجمع في الأم دون الولد على اختلاف الأحوال، وهو في الابتداء يخفّ عليها الحمل، ويثقل ذلك عليها إذا دنا وقت وضعها...
وما ذكر من الكراهة فهو إذا تمّ حملها شق ذلك عليها، وكذلك الوضع، لا شك أنّ ذلك يشق عليها...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَحَمْلُهُ وفصاله} ومدّة حمله وفصاله {ثلاثون شَهْراً} وهذا دليل على أن أقل الحمل ستة أشهر؛ لأن مدّة الرضاع إذا كانت حولين لقوله عز وجل: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} [البقرة: 233] بقيت للحمل ستة أشهر. فإن قلت: المراد بيان مدّة الرضاع لا الفطام، فكيف عبر عنه بالفصال؟ قلت: لما كان الرضاع يليه الفصال ويلابسه لأنه ينتهي به ويتم: سمى فصالاً،وفيه فائدة وهي الدلالة على الرضاع التام المنتهى بالفصال ووقته. وبلوغ الأشد: أن يكتهل ويستوفي السنّ التي تستحكم فيها قوّته وعقله وتمييزه، وذلك إذا أناف على الثلاثين وناطح الأربعين. والمراد بالنعمة التي استوزع الشكر عليها: نعمة التوحيد والإسلام، وجمع بين شكري النعمة عليه وعلى والديه؛ لأن النعمة عليهما نعمة عليه. وقيل في العمل المرضي: هو الصلوات الخمس. فإن قلت: ما معنى (في) في قوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي}؟ قلت: معناه: أن يجعل ذريّته موقعاً للصلاح ومظنة له كأنه قال: هب لي الصلاح في ذرّيتي وأوقعه فيهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وبر الوالدين واجب بهذه الآية وغيرها، وعقوقهما كبيرة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كل شيء بينه وبين الله حجاب إلا شهادة أن لا إله إلا الله ودعوة الوالدين...
ثم عدد تعالى على الأبناء منن الأمهات وذكر الأم في هذه الآيات في أربع مراتب، والأب في واحدة، جمعهما الذكر في قوله: {بوالديه}، ثم ذكر الحمل للأم ثم الوضع لها ثم الرضاع الذي عبر عنه بالفصال، فهذا يناسب ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر، والربع للأب، وذلك إذ قال له رجل: يا رسول الله من أبر؟ «قال: أمك، قال ثم من؟ قال: ثم أمك، قال ثم من؟ قال: ثم أمك، قال ثم من؟ قال: أباك»...
وقوله: {أوزعني} معناه: ادفعني عن الموانع وازجرني عن القواطع لأجل أن أشكر نعمتك... والإصلاح في الذرية كونهم أهل طاعة وخيرية، وهذه الآية معناها أن هكذا ينبغي للإنسان أن يفعل، وهذه وصية الله للإنسان في كل الشرائع...
{ووصينا الإنسان بوالديه} أمرناه أن يحسن إليهما إحسانا. ثم قال تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} وفيه مسائل: المسألة الأولى: هذا من باب حذف المضاف، والتقدير ومدة حمله وفصاله ثلاثون شهرا والفصال الفطام وهو فصله عن اللبن...
{حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي} فهذا يدل على أن توجه الإنسان إلى عالم العبودية والاشتغال بطاعة الله إنما يحصل من هذا الوقت، وهذا تصريح بأن القوة النفسانية العقلية النطقية إنما تبتدئ بالاستكمال من هذا الوقت فسبحان من أودع في هذا الكتاب الكريم هذه الأسرار الشريفة المقدسة، قال المفسرون لم يبعث نبي قط إلا بعد أربعين سنة، وأقول هذا مشكل بعيسى عليه السلام فإن الله جعله نبيا من أول عمره إلا أنه يجب أن يقال الأغلب أنه ما جاءه الوحي إلا بعد الأربعين...
{حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي} ومعلوم أنه ليس كل إنسان يقول هذا القول، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية إنسانا معينا قال هذا القول، وأما أبو بكر فقد قال هذا القول في قريب من هذا السن، لأنه كان أقل سنا من النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين وشيء، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث عند الأربعين وكان أبو بكر قريبا من الأربعين وهو قد صدق النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به...
{وأصلح لي في ذريتي} لأن ذلك من أجل نعم الله على الوالد، كما قال إبراهيم عليه السلام: {واجنبني وبني أن نعبد الأصنام} فإن قيل ما معنى {في} في قوله {وأصلح لي في ذريتي}؟ قلنا تقدير الكلام هب لي الصلاح في ذريتي وأوقعه فيهم. واعلم أنه تعالى لما حكى عن ذلك الداعي، أنه طلب هذه الأشياء الثلاثة، قال بعد ذلك {إني تبت إليك وإني من المسلمين} والمراد أن الدعاء لا يصح إلا مع التوبة، وإلا مع كونه من المسلمين فتبين أني إنما أقدمت على هذا الدعاء بعد أن تبت إليك من الكفر ومن كل قبيح، وبعد أن دخلت في الإسلام والانقياد لأمر الله تعالى ولقضائه...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" ووصينا الإنسان بوالديه "بين اختلاف حال الإنسان مع أبويه، فقد يطيعهما وقد يخالفهما، أي فلا يبعد مثل هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقومه حتى يستجيب له البعض ويكفر البعض. فهذا وجه اتصال الكلام بعضه ببعض، قاله القشيري...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} أي: أمرناه بالإحسان إليهما والحنو عليهما...
{حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا} أي: قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعبا، من وِحَام وغشيان وثقل وكرب، إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة،... {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} أي: نسلي وعقبي، {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله، عز وجل، ويعزم عليها
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ووصينا الإنسان} أي هذا النوع الذي أنس بنفسه {بوالديه} ولما استوفى {وصى} مفعوليه كان التقدير: ليأتي إليهما حسناً، وقرأ الكوفيون: {إحساناً} وهو أوفق للسياق. ولما كان حق الأب ظاهراً لا له من الكسب والإنفاق والذب والتأديب لم يذكره، وذكر ما للأم لأن أمده يسير، فربما استهين به فقال مستأنفاً أو معللاً: {حملته أمه} أي بعد أن وضعه أبوه بمشاركتها في أحشائها، حملاً {كرهاً} بثقل الحبل وأمراضه وأوصابه وأعراضه {ووضعته} أي بعد تمام مدة حمله {كرهاً} فدل هذا -مع دلالته على وجوب حق الأم- على أن الأمر في تكوينه لله وحده، وذكر أوسط ما للأم من مدة التعب بذكر أقل مدة الحمل وأنهى مدة الرضاع لانضباطها فقال تعالى: {وحمله وفصاله} أي و- مدة حمله وغاية فطامه من الرضاع...
. {ثلاثون شهراً} فانصرف الفصال إلى الكامل الذي تقدم في البقرة فعرف أن أقل مدة الحمل ستة أشهر... {حتى إذا بلغ أشده} قال في القاموس: قوته...
{وبلغ أربعين سنة} -فاجتمع أشده وتم حزمه وجده، وزالت عنه شرة الشباب وطيش الصبا ورعونة الجهل...
{قال} إن كان محسناً قابلاً لوصية ربه: {رب} أي أيها المحسن إليّ بالإيجاد وتيسير الأبوين وغيرهما وتسخيره {أوزعني} أي اجعلني أطيق {أن أشكر نعمتك} أي وازعاً للشكر أي كافاً مرتبطاً حتى لا يغلبني في وقت من الأوقات، وذلك الشكر بالتوحيد في العبادة كما أنه يوحد بنعمة الإيجاد والترزيق...
{التي أنعمت عليّ} أي بالفعل لوجوب ذلك عليّ لخصوصه بي {وعلى والديّ} ولو بمطلق الإيجاد والعافية في البدن، لأن النعمة عليهما نعمة عليّ...
{وأن أعمل} أي- أنا في خاصة نفسي {صالحاً} -. ولما كان الصالح في نفسه قد يقع الموقع لعدم الإذن فيه قال: {ترضاه} والتنكير إشارة إلى العجز عن بلوغ الغاية فإنه لن يقّدر الله حق قدره أحد... {وأصلح} أي أوقع الإصلاح، وقال: {لي في ذريتي} لأن صلاحهم يلحقه نفعه، والمراد بقصر الفعل وجعلهم ظرفاً له أن يكون ثابتاً راسخاً سارياً فيهم وهم محيطون به فيكونوا صالحين. ولما استحضر عند كمال العقل في الأربعين أن ما مضى من العمر كان أغلبه ضائعاً فدعا، وكان من شرط قبول الدعاء التوبة، علله بقوله: {إني تبت} أي رجعت {إليك} أي عن كل ما يقدح في الإقبال عليك، وأكده إعلاماً بأن حاله في الإقبال على الشهوات حال من يبعد منه الإقلاع فينكر إخباره به، وكذا قوله: {وإني من المسلمين} أي الذين أسلموا ظواهرهم وبواطنهم لك فانقادوا أتم انقياد وأحسنه.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} أي: نعم الدين ونعم الدنيا، وشكره بصرف النعم في طاعة مسديها وموليها ومقابلته منته بالاعتراف والعجز عن الشكر والاجتهاد في الثناء بها على الله، والنعم على الوالدين نعم على أولادهم وذريتهم لأنهم لا بد أن ينالهم منها ومن أسبابها وآثارها، خصوصا نعم الدين فإن صلاح الوالدين بالعلم والعمل من أعظم الأسباب لصلاح أولادهم...
{وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} بأن يكون جامعا لما يصلحه سالما مما يفسده، فهذا العمل الذي يرضاه الله ويقبله ويثيب عليه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا.. فهي وصية لجنس الإنسان كله، قائمة على أساس إنسانيته، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى وراء كونه إنسانا. وهي وصية بالإحسان مطلقة من كل شرط ومن كل قيد. فصفة الوالدية تقتضي هذا الإحسان بذاتها، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى كذلك... (حملته أمه كرها، ووضعته كرها، وحمله وفصاله ثلاثون شهرا).. وتركيب الألفاظ وجرسها يكاد يجسم العناء والجهد والضنى والكلال: (حملته أمه كرها. ووضعته كرها).. لكأنها آهة مجهد مكروب ينوء بعبء ويتنفس بجهد، ويلهث بالأنفاس! إنها صورة الحمل وبخاصة في أواخر أيامه، وصورة الوضع وطلقه وآلامه ...
... (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال: رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي، وأن أعمل صالحا ترضاه، وأصلح لي في ذريتي، إني تبت إليك، وإني من المسلمين)...
. ويصور القرآن هنا خوالج النفس المستقيمة، وهي في مفرق الطريق، بين شطر من العمر ولى، وشطر يكاد آخره يتبدى. وهي تتوجه إلى الله: (رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي).. دعوة القلب الشاعر بنعمة ربه، المستعظم المستكثر لهذه النعمة التي تغمره وتغمر والديه قبله فهي قديمة العهد به، المستقل المستصغر لجهده في شكرها. يدعو ربه أن يعينه بأن يجمعه كله: (أوزعني).. لينهض بواجب الشكر؛ فلا يفرق طاقته ولا اهتمامه في مشاغل أخرى غير هذا الواجب الضخم الكبير. (وأن أعمل صالحا ترضاه).. وهذه أخرى. فهو يطلب العون للتوفيق إلى عمل صالح، يبلغ من كماله وإحسانه أن يرضاه ربه. فرضى ربه هو الغاية التي يتطلع إليها. وهو وحده الرجاء الذي يأمل فيه. (وأصلح لي في ذريتي).. وهذه ثالثة. وهي رغبة القلب المؤمن في أن يتصل عمله الصالح في ذريته. وأن يؤنس قلبه شعوره بأن في عقبه من يعبد الله ويطلب رضاه. والذرية الصالحة أمل العبد الصالح. وهي آثر عنده من الكنوز والذخائر. وأروح لقلبه من كل زينة الحياة. والدعاء يمتد من الوالدين إلى الذرية ليصل الأجيال المتعاقبة في طاعة الله. وشفاعته إلى ربه. شفاعته التي يتقدم بها بين يدي هذا الدعاء الخالص لله، هي التوبة والإسلام: (إني تبت إليك وإني من المسلمين)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى: أنها حملته في بطنها متعبَة من حمله تعباً يجعلها كارهة لأحوال ذلك الحمل. ووضعته بأوجاع وآلام جعلتها كارهة لوضعه. وفي ذلك الحمل والوضع فائدة له هي فائدة وجوده الذي هو كمال حال الممكن وما ترتب على وجوده من الإيمان والعمل الصالح الذي به حصول النعم الخالدة. وأشير إلى ما بعد الحمل من إرضاعه الذي به علاج حياته ودفع ألم الجوع عنه وهو عمل شاق لأمه فذُكرت مدة الحمل والإرضاع لأنها لطولها تستدعي صبرَ الأم على تحمل كلفة الجنين والرضيع. والفصال: الفطام، وذكر الفصال لأنه انتهاء مدة الرضاع فذكر مبدأ مدة الحمل بقوله: {وحملُه} وانتهاءُ الرضاع بقوله: {وفصالُه}. والمعنى: وحمله وفصاله بينهما ثلاثون شهراً...
حتى يبلغ أشده، أي يستمر على الإحسان إليهما إلى أن يبلغ أشده فإذا بلغه {قال رب أوزِعْني}، أي طلب العون من الله على زيادة الإحسان إليهما بأن يلهمه الشكر على نعمه عليه وعلى والديه...
فالمعنى: ووصينا الإنسان حُسناً بوالديه حتى في زمن بلوغه الأشد، أي أن لا يفتر عن الإحسان إليهما بكل وجه حتى بالدعاء لهما. وإنما خص زمان بلوغه الأشد لأنه زمن يكثر فيه الكلف بالسعي للرزق إذ يكون له فيه زوجة وأبناء وتكثر تكاليف المرأة فيكون لها فيه زوج وبيت وأبناء فيكونان مظنة أن تشغلهما التكاليف عن تعهد والديهما والإحسان إليهما فنبها بأن لا يفتُرا عن الإحسان إلى الوالدين. ومعنى {قال ربّ أوزعني} أنه دعا ربه بذلك، ومعناه: أنه مأمور بالدعاء إليهما بأنه لا يشغله الدعاء لنفسه عن الدعاء لهما وبأنه يحسن إليهما بظهر الغيب منهما حين مناجاته ربه، فلا جرم أن إحسانه إليهما في المواجهة حاصل بفحوى الخطاب...
{وبلغ أربعين سنة} أي بلغ الأشد ووصل إلى أكمله...و {أوزعني}: ألهمني...
{وأصلح لي في ذريتي} استطراد في أثناء الوصاية بالدعاء للوالدين بأن لا يغفل الإنسان عن التفكر في مستقبله بأن يصرف عنايته إلى ذريته كما صرفها إلى أبويه ليكون له من إحسان ذريته إليه مثل ما كان منه لأبويه وإصلاح الذرية يشمل إلهامهم الدعاء إلى الوالد...
. {إني تبت إليك} كالتعليل للمطلوب بالدعاء تعليل توسل بصلة الإيمان والإقرار بالنعمة والعبودية...
.وقال: {من المسلمين} دون أن يقول: وأسلمت كما قال: {تُبت إليك} لما يؤذن به اسم الفاعل من التلبس بمعنى الفعل في الحال وهو التجدد لأن الأعمال متجددة متكررة، وأما الإيمان فإنما يحصل دفعة فيستقر لأنه اعتقاد، وفيه الرعي على الفاصلة. هذا وجه تفسير الآية بما تعطيه تراكيبها ونظمها دون تكلف ولا تحمّل، وهي عامة لكل مسلم أهل لوصاية الله تعالى بوالديه والدعاء لهما إن كانا مؤمنين...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وقوله تعالى: {ووصينا الإنسان}، إشارة إلى أن الإحسان إلى الوالدين من مقتضيات "الإنسانية المجردة"، بحيث لا يكون الإنسان إنسانا، ولا يثبت إنسانيته بطريقة عملية، أيا كان دينه أو معتقده، إلا إذا أحسن إلى والديه، برورا بهما، وأداء لحقهما...
ومن وصية الله للإنسان بالإحسان إلى الوالدين انتقل كتاب الله إلى وصف نموذجين من نماذج الأولاد التي يواجهها الآباء والأمهات في حياتهم باستمرار: الأول: نموذج الولد البار المهتدي الذي يمتثل وصية الله بالإحسان إلى والديه، ويقوم بها حق القيام، وهذا له الجزاء الحسن عند الله...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
تتناول هاتان الآيتان، ومن خلال نماذج بشرية محدّدة، كيفية تعاطي المحسنين والظالمين مع الوالدين، كشكلٍ من أشكال العلاقات التي يبنيها الإنسان في حياته...
ونقف مع النموذج الأوّل الذي تحدثت عنه هذه الآيات، وهو نموذج البرّ بالوالدين، وعن الواقع الذي يتحرك في دائرته. {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوالِدَيْهِ إِحْسَاناً} أن يحسن إليهما، وأن يتطلع، بعمقٍ وانفتاح وإنسانيّةٍ، إلى الجهد الذي بذلاه في تربيته، بما لا يبذله أحدٌ معه، ولا يقدّمه إليه إنسانٌ، لا سيّما الأمّ التي تتحمل الجهد الجسدي الشاق في حمله وولادته ورضاعه، {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} فكان حملها له مشقة ومعاناة ثقيلة تواجه فيها حالة صحيّة صعبة، حيث يتغير مزاجها ويضطرب وضعها الجسدي بكل أجهزته، وكانت ولادته حركة آلام قاسية في مكابدة الجهد والخطر على الحياة، ولكنها بالرغم من حالة الكره الطبيعي للإحساس الجسدي بالثقل والألم والمعاناة، تتقبل ذلك كله، بالرضى والحنان والعاطفة، فتحتضن ولدها بالعاطفة الدافقة الطاهرة، وتستمر في رعايته في حمله ورضاعه،...
{قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى والِدَيَّ} أي اجعلني أعيش وعي النعمة، إلهاماً روحياً، يلزمني بمسؤولية الشكر لك قولاً وفعلاً يلتزمان سبل ومواقع وغايات رضاك، وبما يحولها إلى طاقةٍ حيّةٍ منفتحةٍ على مواقع القرب منك والحب والصدق لك، {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ}، فالإيمان بالله والاعتراف بنعمته يفرض عملياً على الإنسان الذي يتطلع للحصول على رضاه، أن يؤدي في حياته العمل الصالح، وأن يربي أولاده من بعده على الإيمان والعمل الصالح...
{وَإِنّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} الذين أسلموا كل حياتهم لك، فعاشوا الانتماء إليك وحدك، ورفضوا كل انتماءٍ إلى الآخرين إلاّ من خلالك...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً)...
إلى أنّه يرجو أن يكون أولاده في وضع من الصلاح والخير بحيث تعود نتائجه وحسناته عليه. والتعبير ب (في ذريتي) بصورة مطلقة، يشير الى استمرار الخير والصلاح في كلّ نسله وذريته. والطريف أنّه يشرك أبويه في دعائه الأوّل، وأولاده في الدعاء الثالث، أمّا الدعاء الثّاني فيخص نفسه به، وهكذا يكون الإنسان الصالح، فإنّه إذا نظر إلى نفسه بعين، ينظر بالأُخرى إلى الآخرين الذين تفضلوا عليه ولهم حق في رقبته...