{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ْ } مستمرين على تقواهم { طَيِّبِينَ ْ } أي : طاهرين مطهرين من كل نقص ودنس يتطرق إليهم ويخل في إيمانهم ، فطابت قلوبهم بمعرفة الله ومحبته وألسنتهم بذكره والثناء عليه ، وجوارحهم بطاعته والإقبال عليه ، { يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ْ } أي : التحية الكاملة حاصلة لكم والسلامة من كل آفة .
وقد سلمتم من كل ما تكرهون { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ْ } من الإيمان بالله والانقياد لأمره ، فإن العمل هو السبب والمادة والأصل في دخول الجنة والنجاة من النار ، وذلك العمل حصل لهم برحمة الله ومنته عليهم لا بحولهم وقوتهم .
ثم يعود السياق خطوة بالمتقين كما عاد من قبلهم خطوة بالمستكبرين . فإذا هم في مشهد الاحتضار وهو مشهد هين لين كريم : ( الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ) طيبة نفوسهم بلقاء الله ، معافين من الكرب وعذاب الموت . ( يقولون : سلام عليكم ) طمأنة لقلوبهم وترحيبا بقدومهم ( ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ) تعجيلا لهم بالبشرى ، وهم على عتاب الآخرة ، جزاء وفاقا على ما كانوا يعملون .
ثم أخبر تعالى عن حالهم عند الاحتضار ، أنهم{[16419]} طيبون ، أي : مخلصون من الشرك والدنس وكل سوء ، وأن الملائكة تسلم عليهم وتبشرهم{[16420]} بالجنة ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } [ فصلت : 30 - 32 ] .
وقد قدمنا الأحاديث الواردة في قبض روح المؤمن وروح الكافر عند قوله تعالى : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } [ إبراهيم : 27 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : كذلك يجزي الله المتقين الذين تَقْبِض أرواحَهم ملائكةُ الله ، وهم طيبون بتطيبب الله إياهم بنظافة الإيمان ، وطهر الإسلام في حال حياتهم وحال مماتهم . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : ثني عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيّبِينَ قال : أحياء وأمواتا ، قدّر الله ذلك لهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقوله : يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ يعني جلّ ثناؤه أن الملائكة تقبض أرواح هؤلاء المتقين ، وهي تقول لهم : سلام عليكم صيروا إلى الجنة بشارة من الله تبشرهم بها الملائكة . كما :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني أبو صخر ، أنه سمع محمد بن كعب القُرَظيّ يقول : إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك فقال : السلام عليك وليّ الله ، الله يقرأ عليك السلام . ثم نزع بهذه الاَية : الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيّبِينَ . . . إلى آخر الاَية .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراسانيّ ، عن ابن عباس ، قوله : فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أصحَابِ اليَمِينِ قال : الملائكة يأتونه بالسلام من قِبَل الله ، وتخبره أنه من أصحاب اليمين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا الأشبّ أبو عليّ ، عن أبي رجاء ، عن محمد بن مالك ، عن البراء ، قال : قوله : سَلامٌ قَوْلاً مِنْ ربّ رَحِيمٍ قال : يسلم عليه عند الموت .
وقوله : بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يقول : بما كنتم تصيبون في الدنيا أيام حياتكم فيها طاعة الله طلب مرضاته .
{ الذين تتوفاهم الملائكة طيّبين } طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي لأنه في مقابلة { ظالمي أنفسهم } . وقيل فرحين ببشارة الملائكة إياهم بالجنة ، أو طيبين بقبض أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية إلى حضرة القدس . { يقولون سلام عليكم } لا يحيقكم بعد مكروه . { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } حين تبعثون فإنها معدة لكم على أعمالكم . وقيل هذا التوفي وفاة الحشر لأن الأمر بالدخول حينئذ .
مقابل قوله في أضدادهم { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } ، فما قيل في مقابله يقال فيه .
وقرأ الجمهور { تتوفاهم } بفوقيّتين ، مثل نظيره . وقرأه حمزة وخلَف بتحتية أولى كذلك .
والطيّب : بزنة فَيْعل ، مثل قَيم وميّت ، وهو مبالغة في الاتّصاف بالطيب وهو حسن الرائحة . ويطلق على محاسن الأخلاق وكمال النّفس على وجه المجاز المشهور فتوصف به المحسوسات كقوله تعالى : { حلالاً طيباً } [ سورة البقرة : 168 ] والمعاني والنفسيات كقوله تعالى : { سلام عليكم طبتم } [ سورة الزمر : 73 ] . وقولهم : طبت نفساً . ومنه قوله تعالى : { والبلد الطيّب يخرج نباته بإذن ربه } [ سورة الأعراف : 58 ] . وفي الحديث « إنّ الله طيّب لا يقبل إلاّ طيّباً » أي مَالاً طيباً حلالاً . فقوله تعالى هنا { طيبين } يجمع كل هذه المعاني ، أي تتوفّاهم الملائكة منزّهين من الشرك مطمئنيّ النفوس . وهذا مقابل قوله في أضدادهم { الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } [ سورة النحل : 28 ] .
وجملة { يقولون سلام عليكم } حال من { الملائكة } وهي حال مقارنة ل { تتوفاهم } ، أي يتوفّونهم مسلّمين عليهم ، وهو سلام تأنيس وإكرام حين مجيئهم ليتوفّوهم ، لأن فعل { تتوفاهم } يبتدىء من وقت حلول الملائكة إلى أن تنتزع الأرواح وهي حصّة قصيرة .
وقولهم : { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } هو مقابل قولهم لأضدادهم { إن الله عليم بما كنتم تعملون فادخلوا أبواب جهنم } [ سورة النحل : 28 ، 29 ] . والقول في الأمر بالدخول للجنّة حين التوفّي كالقول في ضدّه المتقدم آنفاً . وهو هنا نعيم المكاشفة .