{ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ }
أي : الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله وسبيله ، ولا يتبعونها بما ينقصها ويفسدها من المن بها على المنفق عليه بالقلب أو باللسان ، بأن يعدد عليه إحسانه ويطلب منه مقابلته ، ولا أذية له قولية أو فعلية ، فهؤلاء لهم أجرهم اللائق بهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فحصل لهم الخير واندفع عنهم الشر لأنهم عملوا عملا خالصا لله سالما من المفسدات .
ولكن أي إنفاق هذا الذي ينمو ويربو ؟ وأي عطاء هذا الذي يضاعفه الله في الدنيا والآخرة لمن يشاء ؟
إنه الإنفاق الذي يرفع المشاعر الإنسانية ولا يشوبها . الإنفاق الذي لا يؤذي كرامة ولا يخدش شعورا . الإنفاق الذي ينبعث عن أريحية ونقاء ، ويتجه إلى الله وحده ابتغاء رضاه :
( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ، ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ، لهم أجرهم عند ربهم ، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) . .
والمن عنصر كريه لئيم ، وشعور خسيس واط . فالنفس البشرية لا تمن بما أعطت إلا رغبة في الاستعلاءالكاذب ، أو رغبة في إذلال الآخذ ، أو رغبة في لفت أنظار الناس . فالتوجه إذن للناس لا لله بالعطاء . . وكلها مشاعر لا تجيش في قلب طيب ، ولا تخطر كذلك في قلب مؤمن . . فالمن - من ثم - يحيل الصدقة أذى للواهب وللآخذ سواء . أذى للواهب بما يثير في نفسه من كبر وخيلاء ؛ ورغبة في رؤية أخيه ذليلا له كسيرا لديه ؛ وبما يملأ قلبه بالنفاق والرياء والبعد من الله . . وأذى للآخذ بما يثير في نفسه من انكسار وانهزام ، ومن رد فعل بالحقد والانتقام . . وما أراد الإسلام بالإنفاق مجرد سد الخلة ، وملء البطن ، وتلافي الحاجة . . كلا ! إنما أراده تهذيبا وتزكية وتطهيرا لنفس المعطي ؛ واستجاشة لمشاعره الإنسانية وارتباطه بأخيه الفقير في الله وفي الإنسانية ؛ وتذكيرا له بنعمة الله عليه وعهده معه في هذه النعمة أن يأكل منها في غير سرف ولا مخيلة ، وأن ينفق منها ( في سبيل الله ) في غير منع ولا من . كما أراده ترضية وتندية لنفس الآخذ ، وتوثيقا لصلته بأخيه في الله وفي الإنسانية ؛ وسدا لخلة الجماعة كلها لتقوم على أساس من التكافل والتعاون يذكرها بوحدة قوامها ووحدة حياتها ووحدة اتجاهها ووحدة تكاليفها . والمن يذهب بهذا كله ، ويحيل الإنفاق سما ونارا . فهو أذى وإن لم يصاحبه أذى آخر باليد أو باللسان . هو أذى في ذاته يمحق الإنفاق ، ويمزق المجتمع ، ويثير السخائم والأحقاد .
وبعض الباحثين النفسيين في هذه الأيام يقررون أن رد الفعل الطبيعي في النفس البشرية للإحسان هو العداء في يوم من الأيام !
وهم يعللون هذا بأن الآخذ يحس بالنقص والضعف أمام المعطي ؛ ويظل هذا الشعور يحز في نفسه ؛ فيحاول الاستعلاء عليه بالتجهم لصاحب الفضل عليه واضمار العداوة له ؛ لأنه يشعر دائما بضعفه ونقصه تجاهه ؛ ولأن المعطي يريد منه دائما أن يشعر بأنه صاحب الفضل عليه ! وهو الشعور الذي يزيد من ألم صاحبه حتى يتحول إلى عداء !
وقد يكون هذ كله صحيحا في المجتمعات الجاهلية - وهي المجتمعات التي لا تسودها روح الإسلام ولا يحكمها الإسلام - أما هذا الدين فقد عالج المشكلة على نحو آخر . عالجها بأن يقرر في النفوس أن المال مال الله ؛ وأن الرزق الذي في أيدي الواجدين هو رزق الله . . وهي الحقيقة التي لا يجادل فيها إلا جاهل بأسباب الرزق البعيدة والقريبة ، وكلها منحة من الله لا يقدر الإنسان منها على شيء . وحبة القمح الواحدة قد اشتركت في إيجادها قوى وطاقات كونية من الشمس إلى الأرض إلى الماء إلى الهواء . وكلها ليست في مقدور الإنسان . . وقس على حبة القمح نقطة الماء وخيط الكساء وسائر الأشياء . . فإذا أعطى الواجد من ماله شيئا فإنما من مال الله أعطى ؛ وإذا أسلف حسنة فإنما هي قرض لله يضاعفه له أضعافا كثيرة . وليس المحروم الآخذ إلا أداة وسببا لينال المعطي الواهب أضعاف ما أعطى من مال الله ! ثم شرع هذه الآداب التي نحن الآن بصددها ، توكيدا لهذا المعنى في النفوس ، حتى لا يستعلي معط ولا يتخاذل آخذ . فكلاهما آكل من رزق الله . وللمعطين أجرهم من الله إذا هم أعطوا من مال الله في سبيل الله ؛ متأدبين بالأدب الذي رسمه لهم ، متقيدين بالعهد الذي عاهدهم عليه :
من فقر ولا من حقد ولا من غبن . .
يمدح تعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ، ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات منا على من{[4419]} أعطوه ، فلا يمنون على أحد ، ولا يمنون به لا بقول ولا فعل .
وقوله : { وَلا أَذًى } أي : لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروها يحبطون به ما سلف من الإحسان . ثم وعدهم تعالى الجزاء الجزيل على ذلك ، فقال : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم } أي : ثوابهم على الله ، لا على أحد سواه { وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِم } أي : فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } أي : [ على ]{[4420]} ما خلفوه من الأولاد وما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها{[4421]} لا يأسفون عليها ؛ لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك .
{ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }
يعني تعالى ذكره بذلك : المعطي ماله المجاهدين في سبيل الله معونة لهم على جهاد أعداء الله . يقول تعالى ذكره : الذين يعنون المجاهدين في سيبل الله بالإنفاق عليهم وفي حمولتهم ، وغير ذلك من مؤنهم ، ثم لم يتبع نفقته التي أنفقها عليهم منّا عليهم بإنفاق ذلك عليهم ولا أذى لهم¹ فامتنانه به عليهم بأن ظهر لهم أنه قد اصطنع إليهم بفعله ، وعطائه الذي أعطاهموه ، تقوية لهم على جهاد عدوّهم معروفا ، ويبدي ذلك إما بلسان أو فعل . وأما الأذى فهو شكايته إياهم بسبب ما أعطاهم وقّواهم من النفقة في سبيل الله أنهم لم يقوموا بالواجب عليهم في الجهاد ، وما أشبه ذلك من القول الذي يؤذيبه من أنفق عليه . وإنما شرط ذلك في المنفق في سبيل الله ، وأوجب الأجر لمن كان غير مانّ ولا مؤذ من أنفق عليه في سبيل الله ، لأن النفقة التي هي في سبيل الله مما ابتغي به وجه الله ، وطلبه ما عنده ، فإذا كان معنى النفقة في سبيل الله هو ما وصفنا ، فلا وجه لمنّ المنفق على من أنفق عليه ، لأنه لا يد له قبله ولا صنيعة يستحق بها عليه إن لم يكافئه عليها المنّ والأذى ، إذ كانت نفقته ما أنفق عليه احتساباوابتغاء ثواب الله وطلب مَرضاته وعلى الله مثويته دون من أنفق ذلك عليه .
وبنحو المعنى الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ لاَ يُتْبَعُونَ ما أنْفَقُوا مَنّا وَلا أذًى لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } علم الله أن أناسا يمنون بعطيتهم ، فكره ذلك وقدّم فيه فقال : { قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةً يَتْبَعُها أذًى وَاللّهُ غَنِيّ حَلِيمٌ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، قال للاَخرين يعني : قال الله للاَخرين ، وهم الذين لا يخرجون في جهاد عدوّهم : الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ، ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى . قال : فشرط عليهم . قال : والخارج لم يشرط عليه قليلاً ولا كثيرا ، يعني بالخارج الخارج في الجهاد الذي ذكر الله في قوله : { مَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبّةٍ } . . . الآية . قال ابن زيد : وكان أبي يقول : إن أذن لك أن تعطي من هذا شيئا ، أو تقوى فقويت في سبيل الله ، فظننت أنه يثقل عليه سلامك فكفّ سلامك عنه . قال ابن زيد : فهو خير من السلام . قال : وقالت امرأة لأبي : يا أبا أسامة ، تدلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا ، فإنهم لا يخرجون إلا ليأكلوا الفواكه ! عندي جعبة وأسهم فيها . فقال لها : لا بارك الله لك في جعبتك ، ولا في أسهمك ، فقد آذيْتِهم قبل أن تعطيهم ! قال : وكان رجل يقول لهم : اخرجوا وكلوا الفواكه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قوله : { لاَ يُتْبِعُونَ ما أنْفَقُوا مَنّا وَلا أذًى } قال : أن لا ينفق الرجل ماله خير من أن ينفقه ثم يتبعه منّا وأذى .
وأما قوله : { لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ } فإنه يعني للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله على ما بين . والهاء والميم في لهم عائدة على «الذين » .
ومعنى قوله : { لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبّهِمْ } لهم ثوابهم وجزاؤهم على نفقتهم التي أنفقوها في سبيل الله ، ثم لا يتبعونها منّا ولا أذى .
وقوله : { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } يقول : وهم مع ما لهم من الجزاء والثواب على نفقتهم التي أنفقوها على ما شرطنا¹ لا خوف عليهم عند مقدمهم على الله ، وفراقهم الدنيا ، ولا في أهوال القيامة ، وأن ينالهم من مكارهها ، أو يصيبهم فيها من عقاب الله ، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم في الدنيا .