تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

{ 15-16 } { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ }

هذا من لطفه تعالى بعباده وشكره للوالدين أن وصى الأولاد وعهد إليهم أن يحسنوا إلى والديهم بالقول اللطيف والكلام اللين وبذل المال والنفقة وغير ذلك من وجوه الإحسان .

ثم نبه على ذكر السبب الموجب لذلك فذكر ما تحملته الأم من ولدها وما قاسته من المكاره وقت حملها ثم مشقة ولادتها المشقة الكبيرة ثم مشقة الرضاع وخدمة الحضانة ، وليست المذكورات مدة يسيرة ساعة أو ساعتين ،

وإنما ذلك مدة طويلة قدرها { ثَلَاثُونَ شَهْرًا } للحمل تسعة أشهر ونحوها والباقي للرضاع هذا هو الغالب .

ويستدل بهذه الآية مع قوله : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لأن مدة الرضاع -وهي سنتان- إذا سقطت منها السنتان بقي ستة أشهر مدة للحمل ، { حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي : نهاية قوته وشبابه وكمال عقله ، { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي } أي : ألهمني ووفقني { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ } أي : نعم الدين ونعم الدنيا ، وشكره بصرف النعم في طاعة مسديها وموليها ومقابلته منته بالاعتراف والعجز عن الشكر والاجتهاد في الثناء بها على الله ، والنعم على الوالدين نعم على أولادهم وذريتهم لأنهم لا بد أن ينالهم منها ومن أسبابها وآثارها ، خصوصا نعم الدين فإن صلاح الوالدين بالعلم والعمل من أعظم الأسباب لصلاح أولادهم .

{ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ } بأن يكون جامعا لما يصلحه سالما مما يفسده ، فهذا العمل الذي يرضاه الله ويقبله ويثيب عليه . { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي } لما دعا لنفسه بالصلاح دعا لذريته أن يصلح الله أحوالهم ، وذكر أن صلاحهم يعود نفعه على والديهم لقوله : { وَأَصْلِحْ لِي }

{ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ } من الذنوب والمعاصي ورجعت إلى طاعتك { وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

15

ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا . .

فهي وصية لجنس الإنسان كله ، قائمة على أساس إنسانيته ، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى وراء كونه إنسانا . وهي وصية بالإحسان مطلقة من كل شرط ومن كل قيد . فصفة الوالدية تقتضي هذا الإحسان بذاتها ، بدون حاجة إلى أية صفة أخرى كذلك . وهي وصية صادرة من خالق الإنسان ، وربما كانت خاصة بهذا الجنس أيضا . فما يعرف في عالم الطير أو الحيوان أو الحشرات وما إليها أن صغارها مكلفة برعاية كبارها . والمشاهد الملحوظ هو فقط تكليف فطرة هذه الخلائق أن ترعى كبارها صغارها في بعض الأجناس . فهي وصية ربما كانت خاصة بجنس الإنسان .

وتتكرر في القرآن الكريم وفي حديث الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] الوصية بالإحسان إلى الوالدين . ولا ترد وصية الوالدين بالأولاد إلا نادرة ، ولمناسبة حالات معينة . ذلك أن الفطرة وحدها تتكفل برعاية الوالدين للأولاد ، رعاية تلقائية مندفعة بذاتها لا تحتاج إلى مثير . وبالتضحية النبيلة الكاملة العجيبة التي كثيرا ما تصل إلى حد الموت - فضلا على الألم - بدون تردد ، ودون انتظار عوض ، ودون من ولا رغبة حتى في الشكران ! أما الجيل الناشيء فقلما يتلفت إلى الخلف . قلما يتلفت إلى الجيل المضحي الواهب الفاني . لأنه بدوره مندفع إلى الأمام ، يطلب جيلا ناشئا منه يضحي له بدوره ويرعاه ! وهكذا تمضي الحياة !

والإسلام يجعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بنائه ؛ والمحضن الذي تدرج فيه الفراخ الخضر وتكبر ؛ وتتلقى رصيدها من الحب والتعاون والتكافل والبناء . والطفل الذي يحرم من محضن الأسرة ينشأ شاذا غير طبيعي في كثير من جوانب حياته - مهما توفرت له وسائل الراحة والتربية في غير محيط الأسرة - وأول ما يفقده في أي محضن آخر غير محضن الأسرة ، هو شعور الحب . فقد ثبت أن الطفل بفطرته يحب أن يستأثر وحده بأمه فترة العامين الأولين من حياته . ولا يطيق أن يشاركه فيها أحد . وفي المحاضن الصناعية لا يمكن أن يتوفر هذا . إذ تقوم الحاضنة بحضانة عدة أطفال ، يتحاقدون فيما بينهم ، على الأم الصناعية المشتركة ، وتبذر في قلوبهم بذرة الحقد فلا تنمو بذرة الحب أبدا . كذلك يحتاج الطفل إلى سلطة واحدة ثابتة تشرف عليه فترة من حياته كي يتحقق له ثبات الشخصية . وهذا ما لا يتيسر إلا في محضن الأسرة الطبيعي . فأما في المحاضن الصناعية فلا تتوفر السلطة الشخصية الثابتة لتغير الحاضنات بالمناوبة على الأطفال . فتنشأ شخصياتهم مخلخلة ، ويحرمون ثبات الشخصية . . والتجارب في المحاضن تكشف في كل يوم عن حكمة أصيلة في جعل الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع السليم ، الذي يستهدف الإسلام إنشاءه على أساس الفطرة السليم .

ويصور القرآن هنا تلك التضحية النبيلة الكريمة الواهبة التي تتقدم بها الأمومة ، والتي لا يجزيها أبدا إحسان من الأولاد مهما أحسنوا القيام بوصية الله في الوالدين :

( حملته أمه كرها ، ووضعته كرها ، وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) . .

وتركيب الألفاظ وجرسها يكاد يجسم العناء والجهد والضنى والكلال : ( حملته أمه كرها . ووضعته كرها ) . . لكأنها آهة مجهد مكروب ينوء بعبء ويتنفس بجهد ، ويلهث بالأنفاس ! إنها صورة الحمل وبخاصة في أواخر أيامه ، وصورة الوضع وطلقه وآلامه !

ويتقدم علم الأجنة فإذا به يكشف لنا في عملية الحمل عن جسامة التضحية ونبلها في صورة حسية مؤثرة . .

إن البويضة بمجرد تلقيحها بالخلية المنوية تسعى للالتصاق بجدار الرحم . وهي مزودة بخاصية أكالة . تمزق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله ؛ فيتوارد دم الأم إلى موضعها ، حيث تسبح هذه البويضة الملقحة دائما في بركة من دم الأم الغني بكل ما في جسمها من خلاصات ؛ وتمتصه لتحيا به وتنمو . وهي دائمة الأكلان لجدار الرحم . دائمة الامتصاص لمادة الحياة . والأم المسكينة تأكل وتشرب وتهضم وتمتص ، لتصب هذا كله دما نقيا غنيا لهذه البويضة الشرهة النهمة الأكول ! وفي فترة تكوين عظام الجنين يشتد امتصاصه للجير من دم الأم فتفتقر إلى الجير . ذلك أنها تعطي محلول عظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير ! وهذا كله قليل من كثير !

ثم الوضع ، وهو عملية شاقة ، ممزقة ، ولكن آلامها الهائلة كلها لا تقف في وجه الفطرة ولا تنسي الأم حلاوة الثمرة . ثمرة التلبية للفطرة ، ومنح الحياة نبتة جديدة تعيش ، وتمتد . . بينما هي تذوي وتموت !

ثم الرضاع والرعاية . حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها في اللبن ، وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية . وهي مع هذا وذلك فرحة سعيدة رحيمة ودود . لا تمل أبدا ولا تكره تعب هذا الوليد . وأكبر ما تتطلع إليه من جزاء أن تراه يسلم وينمو . فهذا هو جزاؤها الحبيب الوحيد !

فأنى يبلغ الإنسان في جزاء هذه التضحية ، مهما يفعل . وهو لا يفعل إلا القليل الزهيد ?

وصدق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقد جاءه رجل كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها ، فسأل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] هل أديت حقها ? فأجابه : " لا ، ولا بزفرة واحدة " .

ويخلص من هذه الوقفة أمام الوصية بالوالدين ، واستجاشة الضمائر بصورة التضحية النبيلة ممثلة في الأم ، إلى مرحلة النضج والرشد ، مع استقامة الفطرة ، واهتداء القلب :

( حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال : رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ، وأن أعمل صالحا ترضاه ، وأصلح لي في ذريتي ، إني تبت إليك ، وإني من المسلمين ) . .

وبلوغ الأشد يتراوح بين الثلاثين والأربعين . والأربعون هي غاية النضج والرشد ، وفيها تكتمل جميع القوى والطاقات ، ويتهيأ الإنسان للتدبر والتفكر في اكتمال وهدوء . وفي هذه السن تتجه الفطرة المستقيمة السليمة إلى ما وراء الحياة وما بعد الحياة . وتتدبر المصير والمآل .

ويصور القرآن هنا خوالج النفس المستقيمة ، وهي في مفرق الطريق ، بين شطر من العمر ولى ، وشطر يكاد آخره يتبدى . وهي تتوجه إلى الله :

( رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ) . .

دعوة القلب الشاعر بنعمة ربه ، المستعظم المستكثر لهذه النعمة التي تغمره وتغمر والديه قبله فهي قديمة العهد به ، المستقل المستصغر لجهده في شكرها . يدعو ربه أن يعينه بأن يجمعه كله : ( أوزعني ) . . لينهض بواجب الشكر ؛ فلا يفرق طاقته ولا اهتمامه في مشاغل أخرى غير هذا الواجب الضخم الكبير .

( وأن أعمل صالحا ترضاه ) . .

وهذه أخرى . فهو يطلب العون للتوفيق إلى عمل صالح ، يبلغ من كماله وإحسانه أن يرضاه ربه . فرضى ربه هو الغاية التي يتطلع إليها . وهو وحده الرجاء الذي يأمل فيه .

( وأصلح لي في ذريتي ) . .

وهذه ثالثة . وهي رغبة القلب المؤمن في أن يتصل عمله الصالح في ذريته . وأن يؤنس قلبه شعوره بأن في عقبه من يعبد الله ويطلب رضاه . والذرية الصالحة أمل العبد الصالح . وهي آثر عنده من الكنوز والذخائر . وأروح لقلبه من كل زينة الحياة . والدعاء يمتد من الوالدين إلى الذرية ليصل الأجيال المتعاقبة في طاعة الله .

وشفاعته إلى ربه . شفاعته التي يتقدم بها بين يدي هذا الدعاء الخالص لله ، هي التوبة والإسلام :

( إني تبت إليك وإني من المسلمين ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

لما ذكر تعالى في الآية الأولى التوحيد له وإخلاص العبادة والاستقامة إليه ، عطف بالوصية بالوالدين ، كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن ، كقوله : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [ الإسراء : 23 ] وقال : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ لقمان : 14 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة . وقال هاهنا : { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا } أي : أمرناه بالإحسان إليهما والحنو عليهما .

وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، أخبرني سِمَاك بن حرب قال : سمعت مُصْعب بن سعد{[26402]} يحدث عن سعد قال : قالت أم سعد لسعد : أليس قد أمر الله بطاعة الوالدين ، فلا آكل طعاما ، ولا أشرب شرابا حتى تكفر بالله . فامتنعت من الطعام والشراب ، حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا ، ونزلت هذه الآية : { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا } الآية [ العنكبوت : 8 ] .

ورواه مسلم وأهل السنن إلا ابن ماجه ، من حديث شعبة بإسناده ، نحوه وأطول منه {[26403]} .

{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا } أي : قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعبا ، من وِحَام وغشيان وثقل وكرب ، إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة ، { وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا } أي : بمشقة أيضا من الطلق وشدته ، { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا }

وقد استدل علي ، رضي الله عنه ، بهذه الآية مع التي في لقمان : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [ لقمان : 14 ] ، وقوله : { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [ البقرة : 233 ] ، على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وهو استنباط قوي صحيح . ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة ، رضي الله عنهم .

قال محمد بن إسحاق بن يسار ، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيْط ، عن بَعْجَةَ{[26404]} بن عبد الله الجهني قال : تزوج رجل منا امرأة من جُهَيْنة ، فولدت له لتمام ستة أشهر ، فانطلق زوجها إلى عثمان فذكر ذلك له ، فبعث إليها ، فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها ، فقالت : ما يبكيك ؟ ! فوالله ما التبس بي أحد من خلق الله غيره قط ، فيقضي الله في ما شاء . فلما أتي بها عثمان أمر برجمها ، فبلغ ذلك عليا فأتاه ، فقال له : ما تصنع ؟ قال : ولدت تماما لستة أشهر ، وهل يكون ذلك ؟ فقال له [ علي ] {[26405]} أما تقرأ القرآن ؟ قال : بلى . قال : أما سمعت الله يقول : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا } وقال : { [ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ ] حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } {[26406]} ، فلم نجده بقي إلا ستة أشهر ، قال : فقال عثمان : والله ما فطنت لهذا ، علي بالمرأة فوجدوها قد فُرِغَ منها ، قال : فقال بَعْجَةُ : فوالله ما الغراب بالغراب ، ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه . فلما رآه أبوه قال : ابني إني والله لا أشك فيه ، قال : وأبلاه{[26407]} الله بهذه القرحة قرحة الآكلة ، فما زالت تأكله حتى مات{[26408]} .

رواه ابن أبي حاتم ، وقد أوردناه من وجه آخر عند قوله : { فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } [ الزخرف : 81 ] .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا فَرْوَة بن أبي المَغْرَاء ، حدثنا علي بن مِسْهَر ، عن داود بن أبي هند ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس{[26409]} قال : إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع أحد وعشرون شهرا ، وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرًا ، وإذا وضعته لستة أشهر فحولين كاملين ؛ لأن الله تعالى يقول : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا }

{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي : قوى وشب وارتجل { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } أي : تناهى عقله وكمل فهمه وحلمه . ويقال : إنه لا يتغير غالبا عما يكون عليه ابن الأربعين .

قال أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن القاسم بن عبد الرحمن قال : قلت لمسروق : متى يؤخذ الرجل بذنوبه ؟ قال : إذا بَلَغْتَ الأربعين ، فَخُذْ حذرك .

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عُبَيد الله القواريري ، حدثنا عَزْرَة بن قيس الأزدي - وكان قد بلغ مائة سنة - حدثنا أبو الحسن السلولي{[26410]} عنه وزادني{[26411]} قال : قال محمد بن عمرو بن عثمان ، عن عثمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العبد المسلم إذا بلغ أربعين سنة خفف الله حسابه ، وإذا بلغ{[26412]} ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه ، وإذا بلغ سبعين سنة أحبّه أهل السماء ، وإذا بلغ ثمانين سنة ثبت الله حسناته ومحا سيئاته ، وإذا بلغ تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وشفَّعه الله في أهل بيته ، وكتب في السماء : أسير{[26413]} الله في أرضه " {[26414]} .

وقد روي هذا من غير هذا الوجه ، وهو في مسند الإمام أحمد{[26415]} {[26416]} .

وقد قال الحجاج بن عبد الله الحكمي أحد أمراء بني أمية بدمشق : تركت المعاصي والذنوب أربعين سنة حياء من الناس ، ثم تركتها حياء من الله ، عز وجل .

وما أحسن قول الشاعر :

صَبَا ما صَبَا حَتى عَلا الشَّيبُ رأسَهُ *** فلمَّا عَلاهُ قال للباطل : ابطُل{[26417]}

{ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي } أي : ألهمني { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ } أي : في المستقبل ، { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي } أي : نسلي وعقبي ، { إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدد التوبة والإنابة إلى الله ، عز وجل ، ويعزم عليها .

وقد روى أبو داود في سننه ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم أن يقولوا في التشهد : " اللهم ، ألف بين قلوبنا ، وأصلح ذات بيننا ، واهدنا سبُل {[26418]} السلام ، ونجنا من الظلمات إلى النور ، وجنّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا ، وأزواجنا ، وذرياتنا ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، واجعلنا شاكرين لنعمتك ، مثنين بها قابليها ، وأتممها علينا " {[26419]} .


[26402]:- (1) في أ: "حرب".
[26403]:- (1) مسند الطيالسي برقم (208) وصحيح مسلم يرقم (1748) وسنن أبي داود برقم (2740) وسنن الترمذي برقم (3079) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11196) لكن النسائي لم يرو الشاهد هنا وإنما روى أوله.
[26404]:- (2) في ت، أ: "معمر".
[26405]:- (3) زيادة من ت، أ.
[26406]:- (4) زيادة من أ.
[26407]:- (5) في ت، م، أ: "وابتلاه".
[26408]:- (6) ورواه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور للسيوطي 07/441).
[26409]:- (7) في ت: "عن عكرمة وروى عن ابن عباس".
[26410]:- (1) في م، أ: "أبو الحسن الكوفي - عمر بن أوس".
[26411]:- (2) في ت: "وروى الحافظ".
[26412]:- (3) في ت، م: "رزقه".
[26413]:- (4) في ت، م، أ: "أمين".
[26414]:- (5) قال الهيثمي في المجمع (10/205): "رواه أبو يعلى في الكبير وفيه عزرة بن قيس الأزدي، وهو ضعيف".
[26415]:- (6) في ت: "وهذا الحديث في مسند الإمام أحمد".
[26416]:- (7) رواه الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، المسند (3/218).
[26417]:- (8) في ت، م، أ: "أبعد".
[26418]:- (9) في ت: "سبيل".
[26419]:- (10) سنن أبي داود برقم (969).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَوَصَّيۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيۡهِ إِحۡسَٰنًاۖ حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ثَلَٰثُونَ شَهۡرًاۚ حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَبَلَغَ أَرۡبَعِينَ سَنَةٗ قَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِيٓ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِيٓ أَنۡعَمۡتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَٰلِدَيَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَٰلِحٗا تَرۡضَىٰهُ وَأَصۡلِحۡ لِي فِي ذُرِّيَّتِيٓۖ إِنِّي تُبۡتُ إِلَيۡكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (15)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَوَصّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتّىَ إِذَا بَلَغَ أَشُدّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِيَ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِيَ أَنْعَمْتَ عَلَيّ وَعَلَىَ وَالِدَيّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرّيّتِيَ إِنّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } .

يقول تعالى ذكره : ووصينا ابن آدم بوالديه الحسن في صحبته إياهما أيام حياتهما ، والبرّ بهما في حياتهما وبعد مماتهما .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : إحسانا فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة «حُسْنا » بضمّ الحاء على التأويل الذي وصفت . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة إحْسانا بالألف ، بمعنى : ووصيناه بالإحسان إليهما ، وبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب ، لتقارب معاني ذلك ، واستفاضة القراءة بكل واحدة منهما في القرّاء .

وقوله : حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْها وَوَضَعَتْهُ كُرْها يقول تعالى ذكره : ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا برّا بهما ، لما كان منهما إليه حملاً ووليدا وناشئا ، ثم وصف جلّ ثناؤه ما لديه من نعمة أمه ، وما لاقت منه في حال حمله ووضعه ، ونبهه على الواجب لها عليه من البرّ ، واستحقاقها عليه من الكرامة وجميل الصحبة ، فقال : حَمَلَتْهُ أُمّهُ يعني في بطنها كرها ، يعني مشقة ، وَوَضَعَتْهُ كُرْها يقول : وولدته كرها يعني مشقة . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْها وَوَضَعَتْهُ كُرْها يقول : حملته مشقة ، ووضعته مشقة .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة والحسن ، في قوله : حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْها وَوَضَعَتْهُ كُرْها قالا : حملته في مشقة ، ووضعته في مشقة .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْها قال : مشقة عليها .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : كُرْها فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة «كَرْها » بفتح الكاف . وقرأته عامة قرّاء الكوفة كُرْها بضمها ، وقد بيّنت اختلاف المختلفين في ذلك قبل إذا فتح وإذا ضمّ في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان معروفتان ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .

وقوله : وحَمْلُهُ وفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرا يقول تعالى ذكره : وحمل أمه إياه جنينا في بطنها ، وفصالها إياه من الرضاع ، وفطمها إياه ، شرب اللبن ثلاثون شهرا .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَفِصَالُهُ ، فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار غير الحسن البصري : وحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ بمعنى : فاصلته أمه فصالاً ومفاصلة . وذُكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأه : «وحَمْلُهُ وَفَصْلُهُ » بفتح الفاء بغير ألف ، بمعنى : وفصل أمه إياه .

والصواب من القول في ذلك عندنا ، ما عليه قرّاء الأمصار ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، وشذوذ ما خالفه .

وقوله : حتى إذَا بَلَغَ أشُدّهُ اختلف أهل التأويل في مبلغ حدّ ذلك من السنين ، فقال بعضهم : هو ثلاث وثلاثون سنة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : أشدّه : ثلاث وثلاثون سنة ، واستواؤه أربعون سنة ، والعذر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة حتى إذَا بَلَغَ أشُدّهُ قال : ثلاثا وثلاثين .

وقال آخرون : هو بلوغ الحلم . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مجالد ، عن الشعبيّ ، قال : الأشدّ : الحلم إذا كتبت له الحسنات ، وكتبت عليه السيئات .

وقد بيّنا فيما مضى الأشدّ جمع شدّ ، وأنه تناهي قوّته واستوائه . وإذا كان ذلك كذلك ، كان الثلاث والثلاثون به أشبه من الحلم ، لأن المرء لا يبلغ في حال حُلمه كمال قواه ، ونهاية شدّته ، فإن العرب إذا ذكرت مثل هذا من الكلام ، فعطفت ببعض على بعض جعلت كلا الوقتين قريبا أحدهما من صاحبه ، كما قال جلّ ثناؤه : إنّ رَبّكَ يَعْلَمُ أنّكَ تَقُومُ أدنى مِنْ ثُلُثَي اللّيْل وَنِصْفَهُ ولا تكاد تقول أنا أعلم أنك تقوم قريبا من ساعة من الليل وكله ، ولا أخذت قليلاً من مال أو كله ، ولكن تقول : أخذت عامة مالي أو كله ، فكذلك ذلك في قوله : حتى إذَا بَلَغَ أشُدّهُ وَبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً لا شكّ أن نسق الأربعين على الثلاث والثلاثين أحسن وأشبه ، إذ كان يُراد بذلك تقريب أحدهما من الاَخر من النسق على الخمس عشرة أو الثمان عشرة .

وقوله : وَبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً ذلك حين تكاملت حجة الله عليه ، وسير عنه جهالة شبابه وعرف الواجب لله من الحقّ في برّ والديه . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً وقد مضى من سيء عمله .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَبَلَغَ أرْبَعِينَ سَنَةً ، قالَ رَبّ أوْزِعْنِي حتى بلغ مِنَ المُسْلِمِينَ وقد مضى من سيء عمله ما مضى .

وقوله : قالَ رَبّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ الّتِي أنْعَمْتَ عَليّ وَعَلى وَالِدَيّ يقول تعالى ذكره : قال هذا الإنسان الذي هداه الله لرشده ، وعرف حقّ الله عليه فيما ألزمه من برّ والديه رَبّ أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ يقول : أغرني بشكر نعمتك التي أنعمت عليّ في تعريفك إياي توحيدك وهدايتك لي للإقرار بذلك ، والعمل بطاعتك وَعَلىَ وَالِدَيّ من قبلي ، وغير ذلك من نعمك علينا ، وألهمني ذلك . وأصله من وزعت الرجل على كذا : إذا دفعته عليه . وكان ابن زيد يقول في ذلك ما :

حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أوْزِعْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ قال : اجعلني أشكر نعمتك ، وهذا الذي قاله ابن زيد في قوله : ربّ أوْزِعْنِي وإن كان يؤول إليه معنى الكلمة ، فليس بمعنى الإيزاع على الصحة .

وقوله : وأنْ أعمَلَ صَالِحا تَرْضَاهُ يقول تعالى ذكره : أوزعني أن أعمل صالحا من الأعمال التي ترضاها ، وذلك العمل بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم .

وقوله : وأصْلِحْ لي في ذُرّيّتِي يقول : وأصلح لي أموري في ذرّيتي الذين وهبتهم ، بأن تجعلهم هداة للإيمان بك ، واتباع مرضاتك ، والعمل بطاعتك ، فوصاه جلّ ثناؤه بالبرّ بالاَباء والأمهات والبنين والبنات . وذُكر أن هذه الاَية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه .

وقوله : إنّي تُبْتُ إلَيْكَ وَإنّي مِنَ المُسْلِمِينَ يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هذا الإنسان : إنّي تُبْتُ إلَيْكَ يقول : تبت من ذنوبي التي سلفت مني في سالف أيامي إليك وَإنّي مِنَ المُسْلِمِينَ يقول : وإني من الخاضعين لك بالطاعة ، المستسلمين لأمرك ونهيك ، المنقادين لحكمك .