ولما أمرهن بالعمل ، الذي هو فعل وترك ، أمرهن بالعلم ، وبين لهن طريقه ، فقال : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } والمراد بآيات اللّه ، القرآن . والحكمة ، أسراره . وسنة رسوله . وأمرهن بذكره ، يشمل ذكر لفظه ، بتلاوته ، وذكر معناه ، بتدبره والتفكر فيه ، واستخراج أحكامه وحكمه ، وذكر العمل به وتأويله . { إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا } يدرك أسرار{[706]} الأمور ، وخفايا الصدور ، وخبايا السماوات والأرض ، والأعمال التي تبين وتسر .
فلطفه وخبرته ، يقتضي حثهن على الإخلاص وإسرار الأعمال ، ومجازاة اللّه على تلك الأعمال .
ومن معاني { اللطيف } الذي يسوق عبده إلى الخير ، ويعصمه من الشر ، بطرق خفية لا يشعر بها ، ويسوق إليه من الرزق ، ما لا يدريه ، ويريه من الأسباب ، التي تكرهها النفوس ما يكون ذلك طريقا [ له ]{[707]} إلى أعلى الدرجات ، وأرفع المنازل .
ويختم هذه التوجيهات لنساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بمثل ما بدأها به . . بتذكيرهن بعلو مكانتهن ، وامتيازهن على النساء ، بمكانهن من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبما أنعم الله عليهن فجعل بيوتهن مهبط القرآن ومنزل الحكمة ، ومشرق النور والهدى والإيمان :
( واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة . إن الله كان لطيفا خبيرا ) . .
وإنه لحظ عظيم يكفي التذكير به ، لتحس النفس جلالة قدره ، ولطيف صنع الله فيه ، وجزالة النعمة التي لا يعدلها نعيم .
وهذا التذكير يجيء كذلك في ختام الخطاب الذي بدأ بتخيير نساء النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بين متاع الحياة الدنيا وزينتها ، وإيثار الله ورسوله والدار الآخرة . فتبدو جزالة النعمة التي ميزهن الله بها ؛ وضآلة الحياة الدنيا بمتاعها كله وزينتها . .
{ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ }أي : اعملن بما ينزل الله على رسوله في بيوتكن من الكتاب والسنة . قاله قتادة وغير واحد ، واذكرن هذه النعمة التي خصصتن{[23439]} بها من بين الناس ، أن الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس ، وعائشة [ الصديقة ]{[23440]} بنت الصديق أَوْلاهُنَّ بهذه النعمة ، وأحظاهن بهذه الغنيمة ، وأخصهن من هذه الرحمة العميمة ، فإنه لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحيُ في فراش امرأة سواها ، كما نص على ذلك صلوات الله وسلامه عليه{[23441]} . قال بعض العلماء ، رحمه الله : لأنه لم يتزوج بكرا سواها ، ولم ينم معها رجل في فراشها سواه ، فناسب أن تخصص بهذه المزية ، وأن تفرد بهذه الرتبة العلية . ولكن إذا كان أزواجه من أهل بيته ، فقرابته أحق بهذه التسمية ، كما تقدم في الحديث : " وأهل بيتي أحق " . وهذا يشبه ما ثبت في صحيح مسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ، فقال : " هو مسجدي هذا " {[23442]} . فهذا من هذا القبيل ؛ فإن الآية إنما نزلت في مسجد قُباء ، كما ورد في الأحاديث الأخر . ولكن إذا كان ذاك أسّسَ على التقوى من أول يوم ، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بِتَسمِيَته بذلك ، والله أعلم .
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن حُصَين بن عبد الرحمن ، عن أبي جميلة{[23443]} قال : إن الحسن بن علي استُخلفَ حين قُتِل علي ، رضي الله عنهما{[23444]} قال : فبينما هو يصلي إذ وثب عليه رجل فطعنه بخنجر وزعم حصين أنه بلغه أن الذي طعنه رجل من بني أسد ، وحسن ساجد قال : فيزعمون أن الطعنة وقعت في وركه ، فمرض منها أشهرا ، ثم بَرَأ فقعد على المنبر ، فقال : يا أهل العراق ، اتقوا الله فينا ، فإنا أمراؤكم وضيفانكم ، ونحن أهل البيت الذي قال الله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } قال : فما زال يقولها حتى ما بقي أحد من أهل المسجد إلا وهو يَحِنّ بكاء .
وقال السُّدِّي ، عن أبي الديلم قال : قال علي بن الحسين لرجل من أهل الشام : أما قرأت في الأحزاب : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } ؟ قال : نعم ، ولأنتم هم ؟ قال : نعم .
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا } أي : بلطفه بكن بلغتن هذه المنزلة ، وبخبرته{[23445]} بكن وأنكن أهل لذلك ، أعطاكن ذلك وخصكن بذلك .
قال ابن جرير ، رحمه الله : واذكرن نعمة الله عليكن بأن جعلكن في بيوت تتلى فيها آيات الله والحكمة ، فاشكرن الله على ذلك واحمدنه .
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا } أي : ذا لطف بكن ، إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آياته والحكمة . وهي السنة ، خبيرًا بكنَّ إذ اختاركن لرسوله أزواجًا .
وقال قتادة : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } قال : يمتنُّ عليهن بذلك . رواه ابن جرير .
وقال عطية العَوْفي في قوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا } يعني : لطيف باستخراجها ، خبير بموضعها . رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : وكذا روى الربيع بن أنس ، عن قتادة{[23446]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.