نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} (34)

ولما ذكر ذلك إلى أن ختم بالتطهير ، أتبعه التذكير بما أنعم سبحانه به مما أثره التطهير من التأهيل لمشاهدة{[55558]} ما يتكرر من تردد{[55559]} الملائكة بنزول الوحي الذي هو السبب في كل طهر ظاهر وباطن ، فقال مخصصاً من{[55560]} السياق لأجلهن رضي الله عنهن ، منبهاً لهن على أن بيوتهن مهابط الوحي ومعادن الأسرار : { واذكرن } أي في أنفسكن ذكراً دائماً ، واذكرنه لغيركن على جهة الوعظ والتعليم .

ولما كانت العناية بالمتلو ، بينها بإسناد الفعل إليه لبيان أنه عمدة الجملة فقال بانياً للمفعول : { ما يتلى } أي يتابع ويوالي ذكره والتخلق به ، وأشار لهن إلى ما خصهن منه من الشرف فقال : { في بيوتكن } أي بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم الذي خيركن { من آيات الله } الذي{[55561]} لا أعظم منه .

ولما كان المراد بذلك القرآن ، عطف عليه ما هو أعم منه ، فقال{[55562]} مبيناً لشدة الاهتمام به بإدخاله في جملة المتلو اعتماداً على أن العامل فيه معروف لأن{[55563]} التلاوة لا يقال في غير الكتاب : { والحكمة } أي ويبث وينشر من العلم المزين بالعمل والعمل المتقن بالعلم ، ولا تنسين شيئاً من ذلك .

ولما كان السياق للإعراض عن الدنيا ، وكانت{[55564]} الحكمة منفرة عنها ، أشار بختام الآية إلى أنها مع كونها محصلة لفوز الأخرى جالبة لخير الدنيا ، فقال مؤكداً ردعاً لمن يشك في أن الرفعة يوصل إليها بضدها ونحو ذلك مما تضمنه الخبر من جليل العبر : { إن الله } أي الذي له جميع العظمة { كان } أي لم يزل { لطيفاً } أي يوصل إلى المقاصد بوسائل الأضداد { خبيراً } أي يدق علمه عن إدراك الأفكار ، فهو يجعل الإعراض عن الدنيا جالباً لها{[55565]} على أجمل الطرائق وأكمل الخلائق وإن رغمت أنوف جميع الخلائق ، ويعلم من يصلح لبيت النبي صلى الله عليه وسلم ومن لا يصلح{[55566]} ، وما يصلح الناس دنيا وديناً وما لا يصلحهم ، والطرق الموصلة إلى كل ما قضاه وقدره وإن كانت على غير ما يألفه الناس " من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنة {[55567]}ورزقه{[55568]} من حيث لا يحتسب " رواه الطبراني في الصغير وابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب عن عمران بن حصين رضي الله عنه " من توكل على الله كفاه ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها " - رواه صاحب الفردوس وأبو الشيخ ابن حيان في كتاب الثواب عن عمران رضي الله عنه أيضاً ، ولقد صدق الله سبحانه وعده في لطفه وحقق بره في خبره بأن فتح على نبيه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك خيبر ، فأفاض بها ما شاء من{[55569]} رزقه الواسع ، ثم لما توفي نبيه صلى الله عليه وسلم ليحميه من زهرة الحياة الدنيا فتح الفتوحات الكبار من بلاد فارس والروم ومصر وما بقي من اليمن ، فعم الفتح جميع الأقطار{[55570]} : الشرق والغرب والجنوب والشمال ، ومكن أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من كنوز جميع تلك البلاد وذخائر أولئك الملوك حتى صار الصحابة رضوان الله عليهم يكيلون المال كيلاً ، وزاد الأمر حتى دون عمر الدواوين وفرض للناس عامة{[55571]} أرزاقهم حتى للرضعاء ، وكان أولاً لا يفرض للمولود حتى يفطم ، فكانوا يستعجلون بالفطام فنادى مناديه : لا تعجلوا أولادكم بالفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام ، وفاوت بين الناس في العطاء بحسب القرب من النبي صلى الله عليه وسلم والبعد منه ، وبحسب السابقة{[55572]} في الإسلام والهجرة ، ونزّل الناس منازلهم {[55573]}بحيث أرضى{[55574]} جميع الناس حتى قدم عليه خالد بن عرفطة فسأله عما وراءه فقال : تركتهم يسألون الله لك أن يزيد في عمرك من أعمارهم ، فقال{[55575]} عمر رضي الله عنه : إنما هو حقهم وأنا أسعد بأدائه إليهم ، لو كان من مال الخطاب ما أعطيتموه ، ولكن قد علمت أن فيه فضلاً ، فلو أنه إذا خرج عطاء أحدهم ابتاع منه غنماً ، فجعلها بسوادكم ، فإذا خرج عطاؤه ثانية{[55576]} ابتاع الرأس والرأسين فجعله فيها ، فإن بقي أحد من ولده كان لهم شيء قد اعتقدوه ، فإني لا أدري ما يكون بعدي ، وإني لأعم بنصيحتي كل من طوقني الله أمره ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

" من مات غاشاً لرعيته لم يرح ريح الجنة{[55577]} " ، فكان فرضه لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألفاً لكل واحدة وهي نحو ألف دينار في كل سنة ، وأعطى عائشة رضي الله عنها خمسة{[55578]} وعشرين ألفاً لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها ، فأبت أن تأخذ إلا ما يأخذه صواحباتها ، وروى عن برزة بنت رافع قالت : لما خرج العطاء أرسل عمر رضي الله عنه إلى زينب بنت جحش رضي الله عنها بالذي لها فلما أدخل إليها قالت : غفر الله لعمر ! غيري{[55579]} من أخواتي أقوى على قسم هذا مني ، قالوا : هذا كله لك {[55580]}يا أم المؤمنين{[55581]} ، قالت : سبحان الله ! واستترت منه بثوب ، ثم قالت : صبوه واطرحوا عليه ثوباً ، ثم قالت لي : {[55582]}ادخلي يديك{[55583]} واقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان وبني فلان من ذوي رحمها وأيتام لها ، فقسمته حتى بقيت منه بقية تحت الثوب ، قالت برزة بنت رافع : فقلت : غفر الله لك يا أم{[55584]} المؤمنين ، والله لقد كان لنا في هذا المال حق ، قالت : فلكم ما تحت الثوب ، فوجدنا تحته خمسمائة وثمانين درهماً ، ثم رفعت يدها إلى السماء فقالت : اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا ، فماتت - ذكر ذلك البلاذري في كتاب فتوح البلاد .


[55558]:من ظ ومد، وفي الأصل: بمشاهدة.
[55559]:من ظ ومد، وفي الأصل: ترداد.
[55560]:زيد من ظ ومد.
[55561]:سقط من ظ.
[55562]:تأخر في الأصل عن "غير الكتاب"، والترتيب من ظ ومد.
[55563]:من ظ ومد، وفي الأصل: وأن.
[55564]:من ظ ومد، وفي الأصل: كان.
[55565]:زيد من ظ ومد.
[55566]:سقط من ظ ومد.
[55567]:تكرر في ظ ومد.
[55568]:تكرر في ظ ومد.
[55569]:زيد في ظ: بها.
[55570]:زيدت الواو في الأصل، ولم تكن في ظ ومد فحذفناها.
[55571]:زيد من ظ ومد.
[55572]:من ظ ومد، وفي الأصل: المسابقة.
[55573]:من ظ ومد، وفي الأصل: بحسب أراضي.
[55574]:من ظ ومد، وفي الأصل: بحسب أراضي.
[55575]:في ظ ومد: قال.
[55576]:من ظ ومد، وفي الأصل: ثانيا.
[55577]:أخرجه نحوه الإمام أحمد في مسنده 5/25 عن معقل بن يسار.
[55578]:من ظ ومد، وفي الأصل: خمسا.
[55579]:من ظ ومد، وفي الأصل: عرني ـ كذا.
[55580]:سقط ما بين الرقمين من ظ ومد.
[55581]:سقط ما بين الرقمين من ظ ومد.
[55582]:من ظ ومد، وفي الأصل: أدخل.
[55583]:من ظ ومد، وفي الأصل: أدخل.
[55584]:من ظ ومد، وفي الأصل: أمير.