السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} (34)

ثم بين تعالى ما أنعم الله به عليهن من أن بيوتهن مهابط الوحي بقوله تعالى : { واذكرن } أي : في أنفسكن ذكراً دائماً ، واذكرنه لغيركن على جهة الوعظ والتعليم { ما يتلى } أي : يتابع ويوالى ذكره { في بيوتكن } أي : بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم الذي خيركن . وقوله تعالى : { من آيات الله } أي : القرآن بيان للموصول فيتعلق بأعني ، ويجوز أن يكون حالاً إما من الموصول ، وإما من عائده المقدر فيتعلق بمحذوف أيضاً ، واختلف في قوله تعالى : { والحكمة } فقال قتادة : يعني السنة ، وقال مقاتل : أحكام القرآن ومواعظه { إن الله } أي : الذي له جميع العظمة { كان } أي : ولم يزل { لطيفاً } أي : يوصل إلى المقاصد بلطائف الأضداد { خبيراً } أي : بجميع خلقه يعلم ما يسرون وما يعلنون لا تخفى عليه خافية ، فيعلم من يصلح لبيت النبي صلى الله عليه وسلم ومن لا ، وما يصلح الناس ديناً ودنيا ، وما لا يصلحهم . والطرق الموصلة لكل ما قضاه وقدره وإن كانت على غير ما يألفه الناس .

من انقطع إلى الله كفاه الله تعالى كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها ، ولقد صدق الله تعالى وعده في لطفه وحقق بره في خبره بأن فتح على نبيه صلى الله عليه وسلم خيبر ، فأفاض بها من رزقه الواسع .

ولما توفى نبيه صلى الله عليه وسلم ليحميه من زهرة الحياة الدنيا فتح الفتوحات الكبار من بلاد فارس والروم ومصر وما بقي من اليمن ، فعم الفتح جميع الأقطار ، الشرق والغرب والجنوب والشمال ، ومكن أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من كنوز تلك البلاد وذخائر أولئك الملوك حتى صار الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يكيلون المال كيلاً ، وزاد الأمر حتى دوّن عمر رضي الله تعالى عنه الدواوين .

وفرض للناس عامة أرزاقهم حتى للرضعاء ، وكان أولاً لا يفرض للمولود حتى يفطم ، فكانوا يستعجلون بالفطام فنادى مناديه لا تعجلوا أولادكم بالفطام فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام ، وفاوت بين الناس في العطاء بحسب القرب من النبي صلى الله عليه وسلم والبعد منه ، وبحسب السابقة في الإسلام والهجرة . ونزل الناس منازلهم بحيث أرضى جميع الناس ، حتى قدم عليه خالد بن عرفطة فسأله عما وراءه فقال : تركتهم يسألون الله تعالى أن يزيد في عمرك من أعمارهم ، قال عمر : إنما هو حقهم ، وأنا أسعى بأدائه إليهم وإني لأعم بنصيحتي كل من طوقني الله أمره ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «من مات غاشاً لرعيته لم يَرَ ريح الجنة » فكان فرضه لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألفاً لكل واحدة ، وهي نحو ألف دينار في كل سنة ، وأعطى عائشة خمسة وعشرين ألفاً لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها ، فأبت أن تأخذ إلا ما تأخذه صواحباتها .

وروي عن برزة بنت رافع قالت : لما خرج العطاء أرسل عمر إلى زينب بنت جحش بالذي لها ، فلما أدخل إليها قالت : غفر الله لعمر ، غيري من أخواتي أقوى على قسم هذا مني قالوا : هذا كله لك قالت : سبحان الله ثم قالت : صبوه واطرحوا عليه ثوباً ، ثم قالت لي : أدخلي يديك واقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان وبني فلان من ذوي رحمها وأيتام لها ، فقسمته حتى بقيت منه بقية تحت الثوب قالت برزة بنت رافع : نظر الله لك يا أم المؤمنين والله لقد كان لنا في هذا المال حق قالت : فلكم ما تحت الثوب قالت : فوجدنا تحته خمسمائة وثمانين درهماً ، ثم رفعت يديها إلى السماء وقالت : اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا فماتت ، قال البقاعي : ذكر ذلك البلاذري في كتاب «فتوح البلاد » انتهى .