الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَٱذۡكُرۡنَ مَا يُتۡلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱلۡحِكۡمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} (34)

فيه ثلاث مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة " هذه الألفاظ تعطي أن أهل البيت نساؤه . وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت ، من هم ؟ فقال عطاء وعكرمة وابن عباس : هم زوجاته خاصة ، لا رجل معهن . وذهبوا إلى أن البيت أريد به مسكن النبي صلى الله عليه وسلم ، لقوله تعالى : " واذكرن ما يتلى في بيوتكن " . وقالت فرقة منهم الكلبي : هم علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة ، وفي هذا أحاديث . عن النبي عليه السلام ، واحتجوا بقوله تعالى : " ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم " بالميم ولو كان للنساء خاصة لكان " عنكن ويطهركن " ، إلا أنه يحتمل أن يكون خرج على لفظ الأهل ، كما يقول الرجل لصاحبه : كيف أهلك ، أي امرأتك ونساؤك ، فيقول : هم بخير ، قال الله تعالى : " قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت " {[12819]} [ هود : 73 ] . والذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيرهم . وإنما قال : " ويطهركم " لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليا وحسنا وحسينا كان فيهم ، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر ، فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت ؛ لأن الآية فيهن ، والمخاطبة لهن يدل عليه سياق الكلام . والله أعلم . أما أن أم سلمة قالت : نزلت هذه الآية في بيتي ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسنا ، فدخل معهم تحت كساء خيبري وقال : ( هؤلاء أهل بيتي ) - وقرأ الآية - وقال : ( اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ) فقالت أم سلمة : وأنا معهم يا رسول الله ؟ قال : ( أنت على مكانك وأنت على خير ) أخرجه الترمذي وغيره وقال : هذا حديث غريب . وقال القشيري : وقالت أم سلمة أدخلت رأسي في الكساء وقلت : أنا منهم يا رسول الله ؟ قال : ( نعم ) . وقال الثعالبي : هم بنو هاشم ، فهذا يدل على أن البيت يراد به بيت النسب ، فيكون العباس وأعمامه وبنو أعمامه منهم . وروي نحوه عن زيد بن أرقم رضي الله عنهم أجمعين . وعلى قول الكلبي يكون قوله : " واذكرن " ابتداء مخاطبة الله تعالى ، أي مخاطبة أمر الله عز وجل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، على جهة الموعظة وتعديد النعمة بذكر ما يتلى في بيوتهن من آيات الله تعالى والحكمة . قال أهل العلم بالتأويل : " آيات الله " القرآن . " والحكمة " السنة . والصحيح أن قوله : " واذكرن " منسوق على ما قبله . وقال " عنكم " لقوله " أهل " فالأهل مذكر ، فسماهن وإن كن إناثا باسم التذكير فلذلك صار " عنكم " . ولا اعتبار بقول الكلبي وأشباهه ، فإنه توجد له أشياء في هذا التفسير ما لو كان في زمن السلف الصالح لمنعوه من ذلك وحجروا عليه . فالآيات كلها من قوله : " يا أيها النبي قل لأزواجك - إلى قوله - إن الله كان لطيفا خبيرا " منسوق بعضها على بعض ، فكيف صار في الوسط كلاما منفصلا لغيرهن ، وإنما هذا شيء جرى في الأخبار أن النبي عليه السلام لما نزلت عليه هذه الآية دعا عليا وفاطمة والحسن والحسين ، فعمد النبي صلى الله عليه وسلم إلى كساء فلفها عليهم ، ثم ألوى بيده إلى السماء فقال : ( اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ) . فهذه دعوة من النبي صلى الله عليه وسلم لهم بعد نزول الآية ، أحب أن يدخلهم في الآية التي خوطب بها الأزواج ، فذهب الكلبي ومن وافقه فصيرها لهم خاصة ، وهي دعوة لهم خارجة من التنزيل .

الثانية- لفظ الذكر يحتمل ثلاثة معان : أحدها : أي اذكرن موضع النعمة ، إذ صيركن الله في بيوت تتلى فيها آيات الله والحكمة . الثاني : اذكرن آيات الله واقدرن ، قدرها ، وفكرن فيها حتى تكون منكن على بال لتتعظن بمواعظ الله تعالى ، ومن كان هذا حال ينبغي أن تحسن أفعاله . الثالث : " اذكرن " بمعنى احفظن واقرأن والزمنه الألسنة ، فكأنه يقول : احفظن أوامر الله تعالى ، ونواهيه ، وذلك هو الذي يتلى في بيوتكن من آيات الله . فأمر الله سبحانه وتعالى أن يخبرن بما ينزل من القرآن في بيوتهن ، وما يرين من أفعال النبي عليه الصلاة والسلام ، ويسمعن من أقواله حتى يبلغن ذلك إلى الناس ، فيعملوا ويقتدوا . وهذا يدل على جواز قبول خبر الواحد من الرجال والنساء في الدين .

الثالثة- قال ابن العربي : في هذه الآية مسألة بديعة ، وهي أن الله تعالى أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بتبليغ ما أنزل عليه من القرآن ، وتعليم ما علمه من الدين ، فكان إذا قرأ على واحد أو ما اتفق سقط عنه الفرض ، وكان على من سمعه أن يبلغه إلى غيره ، ولا يلزمه أن يذكره لجميع أصحابة ، ولا كان عليه إذا علم ذلك أزواجه أن يخرج إلى الناس فيقول لهم نزل كذا ولا كان كذا ، ولهذا قلنا : يجوز العمل بخبر بسرة{[12820]} في إيجاب الوضوء من مس الذكر ، لأنها روت ما سمعت وبلغت ما وعت . ولا يلزم أن يبلغ ذلك الرجال ، كما قال أبو حنيفة ، على أنه قد نقل عن سعد بن أبي وقاص وابن عمر .


[12819]:راجع ج 9 ص 70.
[12820]:هي بسرة بنت صفوان بن نوفل، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم.