ثم قال تعالى : { الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا } أي : جمعوا بين التخلف عن الجهاد ، وبين الاعتراض والتكذيب بقضاء الله وقدره ، قال الله ردًّا عليهم : { قل فادرءوا } أي : ادفعوا { عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } إنهم لو أطاعوكم ما قتلوا ، لا تقدرون على ذلك ولا تستطيعونه .
وفي هذه الآيات دليل على أن العبد قد يكون فيه خصلة كفر وخصلة إيمان ، وقد يكون إلى أحدهما أقرب منه إلى الأخرى .
ثم مضى يكشف بقية موقفهم في محاولة خلخلة الصفوف والنفوس :
( الذين قالوا لإخوانهم - وقعدوا - لو أطاعونا ما قتلوا ) . .
فهم لم يكتفوا بالتخلف - والمعركة على الأبواب - وما يحدثه هذا التخلف من رجة وزلزلة في الصفوف والنفوس ، وبخاصة أن عبد الله بن أبي ، كان ما يزال سيدا في قومه ، ولم يكشف لهم نفاقه بعد ، ولم يدمغه الله بهذا الوصف الذي يهز مقامه في نفوس المسلمين منهم . بل راحوا يثيرون الزلزلة والحسرة في قلوب أهل الشهداء وأصحابهم بعد المعركة ، وهم يقولون :
فيجعلون من تخلفهم حكمة ومصلحة ، ويجعلون من طاعة الرسول [ ص ] واتباعه مغرما ومضرة . وأكثر من هذا كله يفسدون التصور الإسلامي الناصع لقدر الله ، ولحتمية الأجل ، ولحقيقة الموت والحياة ، وتعلقهما بقدر الله وحده . . ومن ثم يبادرهم بالرد الحاسم الناصع ، الذي يرد كيدهم من ناحية ، ويصحح التصور الإسلامي ويجلو عنه الغبش من ناحية :
( قل : فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ) . .
فالموت يصيب المجاهد والقاعد ، والشجاع والجبان . ولا يرده حرص ولا حذر . ولا يؤجله جبن ولا قعود . . والواقع هو البرهان الذي لا يقبل المراء . . وهذا الوقاع هو الذي يجبههم به القرآن الكريم ، فيرد كيدهم اللئيم ، ويقر الحق في نصابه ، ويثبت قلوب المسلمين . ويسكب عليها الطمأنينة والراحة واليقين . .
ومما يلفت النظر في الاستعراض القرآني لأحداث المعركة ، تأخيره ذكر هذا الحادث - حادث نكول عبد الله ابن أبي ومن معه عن المعركة - وقد وقع في أول أحداثها وقبل ابتدائها . . تأخيره إلى هذا الموضع من السياق . .
وهذا التأخير يحمل سمة من سمات منهج التربية القرآنية . . فقد آخره حتى يقرر جملة القواعد الأساسية للتصور الإسلامي التي قررها ؛ وحتى يقر في الأخلاد جملة المشاعر الصحيحة التي أقرها ؛ وحتى يضع تلك الموازين الصادقة للقيم التي وضعها . . ثم يشير هذه الإشارة إلى " الذين نافقوا " . وفعلتهم وتصرفهم بعدها ، وقد تهيأت النفوس لإدراك ما في هذه الفعلة وما في هذا التصرف من انحراف عن التصور الصحيح ، وعن القيم الصحيحة في الميزان الصحيح . . وهكذا ينبغي أن تنشأ التصورات والقيم الإيمانية في النفس المسلمة ، وأن توضع لها الموازين الصحيحة التي تعود إليها لاختبار التصورات والقيم ، ووزن الأعمال والأشخاص ، ثم تعرض عليها الأعمال والأشخاص - بعد ذلك - فتحكم عليها الحكم المستنير الصحيح ، بذلك الحس الإيماني الصحيح . .
ولعل هنالك لفتة أخرى من لفتات المنهج الفريد . فعبد الله بن أبي كان إلى ذلك الحين ما يزال عظيما في قومه - كما أسلفنا - وقد ورم أنفه لأن النبي [ ص ] لم يأخذ برأيه - لأن إقرار مبدأ الشورى وإنفاذه اقتضى الأخذ بالرأي الآخر الذي بدا رجحان الاتجاه إليه في الجماعة - وقد أحدث تصرف هذا المنافق الكبير رجة في الصف المسلم ، وبلبلة في الأفكار ، كما أحدثت أقاويله بعد ذلك عن القتلى حسرات في القلوب وبلبلة في الخواطر . . فكان من حكمة المنهج إظهار الاستهانة به وبفعلته وبقوله ؛ وعدم تصدير الاستعراض القرآني لأحداث الغزوة بذلك الحادث الذي وقع في أولها ؛ وتأخيره إلى هذا الموضع المتأخر من السياق . مع وصف الفئة التي قامت به بوصفها الصحيح : " الذين نافقوا " والتعجيب من أمرهم في هذه الصيغة المجملة : ( ألم تر إلى الذين نافقوا ؟ ) ، وعدم إبراز اسم كبيرهم أو شخصه ، ليبقى نكره في : " الذين نافقوا " كما يستحق من يفعل فعلته ، وكما تساوي حقيقته في ميزان الإيمان . . ميزان الإيمان الذي أقامه فيما سبق من السياق . .
{ الّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
يعني تعالى ذكره بذلك : وليعلم الله الذين نافقوا ، الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا . فموضع «الذين » نصب على الإبدال من «الذين نافقوا » ، وقد يجوز أن يكون رفعا على الترجمة عما في قوله : { يَكْتُمُوْنَ } من ذكر «الذين نافقوا » فمعنى الاَية : وليعلم الله الذين قالوا لإخوانهم الذين أصيبوا مع المسلمين في حربهم المشركين بأُحد يوم أُحد ، فقتلوا هنالك من عشائرهم وقومهم ، { وقَعَدُوا } يعني : وقعد هؤلاء المنافقون القائلون ما قالوا مما أخبر الله عزّ وجلّ عنهم من قيلهم عن الجهاد مع إخوانهم وعشائرهم في سبيل الله : { لو أَطاعُونَا } يعني : لو أطاعنا من قتل بأُحد من إخواننا وعشائرنا { ما قُتِلُوا } يعني : ما قتلوا هنالك . قال الله عزّ وجلّ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء القائلين هذه المقالة من المنافقين : فادرءوا ، يعني : فادفعوا من قول القائل : درأت عن فلان القتل ، بمعنى : دفعت عنه ، أدرؤه درءا ، ومنه قول الشاعر :
تَقولُ وَقدْ دَرأْتُ لهَا وَضِيِني *** أهَذَا دِينُهُ أبَدا وَدِيِني
يقول تعالى ذكره : قل لهم : فادفعوا إن كنتم أيها المنافقون صادقين في قيلكم : لو أطاعنا إخواننا في ترك الجهاد في سبيل الله مع محمد صلى الله عليه وسلم وقتالهم أبا سفيان ومن معه من قريش ، ما قتلوا هنالك بالسيف ، ولكانوا أحياء بقعودهم معكم وتخلفهم عن محمد صلى الله عليه وسلم وشهود جهاد أعداء الله معه¹ الموت ، فإنكم قد قعدتم عن حربهم ، وقد تخلفتم عن جهادهم ، وأنتم لا محالة ميتون . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { الّذِينَ قالُوا لإخْوَانِهِمْ } الذين أصيبوا معكم من عشائرهم وقومهم : { لَوْ أطاعُونا ما قُتِلُوا } . . . الاَية : أي أنه لا بد من الموت ، فإن استطعتم أن تدفعوه عن أنفسكم فافعلوا ، وذلك أنهم إنما نافقوا وتركوا الجهاد في سبيل الله ، حرصا على البقاء في الدنيا وفرارا من الموت .
ذكر من قال : الذين قالوا لإخوانهم هذا القول هم الذين قال الله فيهم : { وَلِيَعْلَمَ الّذِينَ نافَقُوا } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { الّذِينَ قالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أطاعُونا ما قُتِلُوا } . . . الاَية ، ذكر لنا أنها نزلت في عدوّ الله عبد الله بن أبيّ .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدّيّ ، قال : هم عبد الله بن أبيّ وأصحابه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : هو عبد الله بن أبيّ الذي قعد وقال لإخوانه الذين خرجوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أُحد : { لَوْ أطاعُونا ما قُتِلُوا } . . . الاَية . قال ابن جريج عن مجاهد ، قال : قال جابر بن عبد الله : هو عبد الله بن أبيّ ابن سلول .
حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { الّذِينَ قالُوا لإخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا } . . . الاَية ، قال : نزلت في عدوّ الله عبد الله بن أبيّ .
{ الذين } بدل من «الذين » المتقدم ، و «إخوانهم » المقتولون من الخزرج وهي أخوة نسب ومجاورة ، وقوله تعالى : { لإخوانهم } معناه لأجل إخوانهم وفي شأن إخوانهم ، ويحتمل أن يكون قوله : { لإخوانهم } للأحياء من المنافقين ، ويكون الضمير في { أطاعونا } هو للمقتولين ، وقوله : { وقعدوا } جملة في موضع الحال وهي حالة معترضة أثناء الكلام ، وقوله : { لو أطاعونا } يريد في أن لا يخرجوا إلى قريش ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «ما قتّلوا » بشد التاء ، وهذا هو القول بالأجلين ، فرد الله تعالى عليهم بقوله : { قل فادرؤوا } الآية ، والدرء الدفع ومنه قول دغفل النسابة{[3703]} : [ الرجز ]
صَادَفَ دَرْءُ السَّيْلِ درءاً يَدْفَعُهْ . . . وَالْعِبءُ لا تَعْرفُهُ أَوْ تَرْفَعُه
ولزوم هذه الحجة هو أنكم أيها القائلون : إن التوقي واستعمال النظر يدفع الموت ، فتوقوا وانظروا في الذي يغشاكم منه حتف أنوفكم ، فادفعوه إن كان قولكم صدقاً ، أي إنما هي آجال مضروبة عند الله .
قوله : { الذين قالوا لإخوانهم } بدل من { الذين نافقوا } ، أو صفة له ، إذا كان مضمون صلته أشهر عند السامعين ، إذ لعلّهم عُرفوا من قبل بقولهم فيما تقدّم { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } فذُكِر هنا وصفاً لهم ليتميّزُوا كمال تمييز . واللام في ( لإخوانهم ) للتعليل وليست للتعدية ، قالوا : كما هي في قوله : { وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض } [ آل عمران : 156 ] .
والمراد بالإخوان هنا عين المراد هناك ، وهم الخزرج الذين قتلوا يوم أُحُد ، وهم من جلّة المؤمنين .
وجملة { وقعدوا } حال معترَضة ، ومعنى لو أطاعونا أي امتثلوا إشارتنا في عدم الخروج إلى أُحُد ، وفعلوا كما فعلنا ، وقرأ الجمهور : ما قُتِلوا بتخفيف التاء من القتل . وقرأه هشام عن ابن عامر بتشديد التاء من التقتيل للمبالغة في القتل ، وهو يفيد معنى تفظيعهم ما أصاب إخوانهم من القتل طعناً في طاعتهم النبي صلى الله عليه وسلم
وقوله : { قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } أي ادرأوه عند حلوله ، فإنّ من لم يمت بالسيف مات بغيره أي : إن كنتم صادقين في أنّ سبب موت إخوانكم هو عصيان أمركم .