{ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ } أي : إنما منعناهم من الانتفاع عند سماع القرآن لأننا نعلم أن مقاصدهم سيئة يريدون أن يعثروا على أقل شيء ليقدحوا به ، وليس استماعهم لأجل الاسترشاد وقبول الحق وإنما هم متعمدون على عدم اتباعه ، ومن كان بهذه الحالة لم يفده الاستماع شيئا ولهذا قال : { إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى } أي : متناجين { إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ } في مناجاتهم : { إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا } فإذا كانت هذه مناجاتهم الظالمة فيما بينهم وقد بنوها على أنه مسحور فهم جازمون أنهم غير معتبرين لما قال ، وأنه يهذي لا يدري ما يقول .
ولقد كانت الفطرة تدفعهم إلى التسمع والتأثر ؛ والكبرياء تدفعهم عن التسليم والإذعان ؛ فيطلقون التهم على الرسول [ ص ] يعتذرون بها عن المكابرة والعناد :
( إذ يقول الظالمون : إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ) . .
وهذه الكلمة ذاتها تحمل في ثناياها دليل تأثرهم بالقرآن ؛ فهم يستكثرون في دخيلتهم أن يكون هذا قول بشر ؛ لأنهم يحسون فيه شيئا غير بشري . ويحسون دبيبه الخفي في مشاعرهم فينسبون قائله إلى السحر ، يرجعون إليه هذه الغرابة في قوله ، وهذا التميز في حديثه ، وهذا التفوق في نظمه . فمحمد إذن لا ينطق عن نفسه ، إنما ينطق عن السحر بقوة غير قوة البشر ! ولو أنصفوا لقالوا : إنه من عند الله ، فما يمكن أن يقول هذا إنسان ، ولا خلق آخر من خلق الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { نّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىَ إِذْ يَقُولُ الظّالِمُونَ إِن تَتّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مّسْحُوراً } .
يقول تعالى ذكره : نحن أعلم يا محمد بما يستمع به هؤلاء الذين لا يؤمنون بالاَخرة من مشركي قومك ، إذ يستمعون إليك وأنت تقرأ كتاب الله وَإذْ هُمْ نَجْوَى . وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : النجوى : فعلهم ، فجعلهم هم النجوى ، كما يقول : هم قوم رضا ، وإنما رضا : فعلهم . وقوله إذْ يَقُولُ الظّالِمُونَ إنْ تَتّبِعُونَ إلاّ رَجُلاً مَسْحُورا يقول : حين يقول المشركون بالله ما تتبعون إلا رجلاً مسحورا . وعنى فيما ذُكِر بالنجوى : الذين تشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار النّدوة . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد إذْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ قال : هي مثل قيل الوليد بن المُغيرة ومن معه في دار الندوة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة . قوله : إذْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ وَإذْ هُمْ نَجْوَى إذْ يَقُولُ الظّالِمُونَ . . . الاَية ، ونجواهم أن زعموا أنه مجنون . وأنه ساحر ، وقالوا : أساطِيرُ الأوّلِينَ .
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يذهب بقوله إنْ تَتّبِعُونَ إلاّ رَجُلاً مَسْحُورا إلى معنى : ما تتبعون إلا رجلاً له سَحْر : أي له رثة ، والعرب تسمي الرئة سَحْرا ، والمسحّر من قولهم للرجل إذا جبن : قد انتفخ سَحْره ، وكذلك يقال لكل ما أكَلَ أو شرب من آدميّ وغيره : مَسحور ومُسَحّر ، كما قال لبيد :
فإنْ تَسأَلَينا فِيم نَحْنُ فإنّنا *** عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الأنامِ المُسَحّر
*** ونُسْحَرُ بالطعام وبالشراب ***
أي نغذّي بهما . فكأن معناه عنده كان : إن تتبعون إلا رجلاً له رئة ، يأكل الطعام ، ويشرب الشراب ، لا مَلَكا لا حاجة به إلى الطعام والشراب ، والذي قال من ذلك غير بعيد من الصواب .
وقوله { نحن أعلم بما يستمعون به } الآية ، هذا كما تقول فلان يستمع بحرص وإقبال ، أو بإعراض وتغافل واستخفاف ، فالضمير في { به } عائد على { ما } ، وهي بمعنى الذي ، والمراد بالذي ما ذكرناه من الاستخفاف والإعراض ، فكأنه قال : نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به ، أي هو ملازمهم ، ففضح الله بهذه الآية سرهم ، والعامل في { إذ } الأولى وفي المعطوفة عليها { يستمعون } الأول ، وقوله { وإذ هم نجوى } وصفهم بالمصدر ، كما قالوا : قوم رضى وعدل ، وقيل المراد بقوله : { وإذ هم نجوى } اجتماعهم في دار الندوة ثم انتشرت عنهم ، وقوله { مسحوراً } الظاهر فيه أن يكون من السحر ، فشبهوا الخبال الذي عنده بزعمهم ، وأقواله الوخيمة برأيهم ، بما يكون من المسحور الذي قد خبل السحر عقله وأفسد كلامه ، وتكون الآية على هذا شبيهة بقول بعضهم { به جنة } [ المؤمنون : 25 ] ونحو هذا ، وقال أبو عبيدة : { مسحوراً } معناه ذا سحر ، وهي الرية يقال لها سحر وسُحر بضم السين ، ومنه قول عائشة رضي الله عنها : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري{[7585]} ومنه قولهم للجبان : انتفخ سحره ، لأن الفازع تنتفخ ريته ، فكأن مقصد الكفار بهذا التنبيه على أنه بشر أي ذا رية ، قال : ومن هذا يقال لكل من يأكل ويشرب من آدمي وغيره : مسحور ومسحر ، ومنه قول امرىء القيس : [ الوافر ]
ونسحر بالطعام وبالشراب{[7586]} . . . وقول لبيد : بالطويل ]
فإن تسألينا فيمَ نَحْنُ فإننا . . . عصافيرُ من هذا الأنام المسحَّر{[7587]}
ومنه السحور ، وهو إلى هذه اللفظة أقرب منه إلى السحر ، ويشبه أن يكون من السحر ، كالصبوح من الصباح ، والآية التي بعد هذا تقوي أن اللفظة التي في الآية من السِّحر ، بكسر السين ( . . . . . . ){[7588]} ، لأن حينئذ في قولهم ضرب مثل له وأما على أنها من السحر الذي هو الرية ومن التغذي وأن تكون الإشارة إلى أنه بشر فلم يضرب له في ذلك مثل بل هي صفة حقيقة له .