ويمضي في تسلية الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وتأسيته على جموح القوم ولجاجهم في العناد وإصرارهم على الكفر بعد الجهد الشاق في النصح والبيان ، وبعد مخاطبتهم بهذا القرآن . . يمضي في تسليته والتسرية عنه من هذا كله ؛ فهو لم يقصر في دعوته . ولكنه إنما يسمع أحياء القلوب الذين تعي آذانهم فتتحرك قلوبهم ، فيقبلون على الناصح الأمين . فأما الذين ماتت قلوبهم ، وعميت أبصارهم عن دلائل الهدى والإيمان ، فما له فيهم حيلة ، وليس له إلى قلوبهم سبيل ؛ ولاضير عليه في ضلالهم وشرودهم الطويل :
( إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ، وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ) . .
والتعبير القرآني البديع يرسم صورة حية متحركة لحالة نفسية غير محسوسة . حالة جمود القلب ، وخمود الروح ، وبلادة الحس ، وهمود الشعور . فيخرجهم مرة في صورة الموتى ، والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يدعو ، وهم لا يسمعون الدعاء ، لأن الموتى لا يشعرون ! ويخرجهم مرة في هيئة الصم مدبرين عن الداعي ، لأنهم لا يسمعون !
وقوله : إنّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتَى يقول : إنك يا محمد لا تقدر أن تُفهِم الحقّ من طبع الله على قلبه فأماته ، لأن الله قد ختم عليه أن لا يفهمه ولاَ تُسْمِعَ الصّمّ الدّعاءَ يقول : ولا تقدر أن تسمع ذلك من أصمّ الله عن سماعه سمعه إذَا وَلّوْا مُدْبِرِينَ يقول : إذا هم أدبروا معرضين عنه ، لا يسمعون له لغلبة دين الكفر على قلوبهم ، ولا يُصغون للحقّ ، ولا يتدبرونه ، ولا ينصتون لقائله ، ولكنهم يعرضون عنه ، وينكرون القول به ، والاستماع له .
ثم سلاه عنهم وشبههم ب { الموتى } من حيث الفائدة في القول لهؤلاء وهؤلاء معدومة فشبههم مرة ب { الموتى } ومرة ب { الصم } ، قال العلماء : الميت من الأحياء هو الذي يلقى الله بكفره .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : واحتجت عائشة رضي الله عنها في إنكارها أن النبي صلى الله عليه وسلم أسمع موتى بدر بهذه الآية ، ونظرت هي في الأمر بقياس عقلي ووقفت مع هذه الآية وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما أنتم بأسمع منهم »{[1]} فيشبه أن قصة بدر هي خرق عادة لمحمد عليه السلام في أن رد الله إليهم إدراكاً سمعوا به مقاله ، ولولا إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بقي من الكفرة وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين منهم .
وقد عورضت هذه الآية بالسلام على القبور وبما روي في ذلك من أن الأرواح تكون على شفير القبور في أوقات قالوا : فلو لم يسمع الميت لم يسلم عليه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله غير معارض للآية لأن السلام على القبور إنما هو عبادة وعند الله الثواب عليها وهو تذكير للنفس بحالة الموت وبحالة الموتى في حياتهم ، وإن جوزنا مع هذا أن الأرواح في وقت على القبور فإن سمع فليس الروح بميت وإنما المراد بقوله { إنك لا تسمع الموتى } الأشخاص الموجودة مفارقة لأرواحها ، وفيها تقول خرفت العادة لمحمد عليه السلام في أهل القليب وذلك كنحو قوله صلى الله عليه وسلم في الموتى «إذا دخل عليهم الملكان إنهم يسمعون خفق النعال »{[1]} ، وقرأ ابن كثير «ولا يسمع » بالياء من تحت «الصمُّ » رفعاً ومثله في الروم{[2]} ، وقرأ الباقون «تُسمع » بالتاء «الصمَّ » نصباً .
استئناف بياني جواباً عما يخطر في بال السامع عقب قوله { إنك على الحق المبين } [ النمل : 79 ] من التساؤل عن إعراض أهل الشرك لما عليه الرسول من الحق المبين . وهو أيضاً تعليل آخر للأمر بالتوكل على الله بالنظر إلى مدلوله الكنائي ، فموقع حرف التوكيد فيه كموقعه في التعليل بالجملة التي قبله . وهذا عذر للرسول صلى الله عليه وسلم وتسلية له ، ولكونه تعليلاً لجانب من التركيب وهو الجانب الكنائي غير الذي علل بجملة { إنك على الحق المبين } [ النمل : 79 ] لم تعطف هذه الجملة على التي قبلها تنبيهاً على استقلالها بالتعليل .
والإسماع : إبلاغ الكلام إلى المسامع .
و { الموتى } و { الصم } : مستعاران للقوم الذين لا يقبلون القول الحق ويكابرون من يقوله لهم . شبهوا بالموتى على طريقة الاستعارة في انتفاء فهمهم معاني القرآن ، وشبهوا بالصم كذلك في انتفاء أثر بلاغة ألفاظه عن نفوسهم . وللقرآن أثران :
أحدهما : ما يشتمل عليه من المعاني المقبولة لدى أهل العقول السليمة وهي المعاني التي يدركها ويسلم لها من تبلغ إليه ولو بطريق الترجمة بحيث يستوي في إدراكها العربي والعجمي وهذا أثر عقلي .
والأثر الثاني : دلالة نظمه وبلاغته على أنه خارج عن مقدرة بلغاء العرب . وهذا أثر لفظي وهو دليل الإعجاز وهو خاص بالعرب مباشرة ، وحاصل لغيرهم من أهل النظر والتأمل إذا تدبروا في عجز البلغاء من أهل اللسان الذي جاء به القرآن ، فهؤلاء يوقنون بأن عجز بلغاء أهل ذلك اللسان عن معارضته دال على أنه فوق مقدرتهم ؛ فالمشركون شبهوا بالموتى بالنظر إلى الأثر الأول ، وشبهوا بالصم بالنظر إلى الأثر الثاني ، فحصلت استعارتان . ونفي الإسماع فيهما ترشيحان للاستعارتين وهما مستعاران لانتفاء معالجة إبلاغهم .
ولأجل اعتبار كلا الأثرين المبنيّ عليه ورود تشبيهين كرر ذكر الترشيحين فعطف { ولا تسمع الصم } على { لا تسمع الموتى } ، ولم يكتف بأن يقال : إنك لا تسمع الموتى ولا الصم .
وتقييد الصم بزمان توليهم مدبرين لأن تلك الحالة أوغل في انتفاء إسماعهم لأن الأصم إذا كان مواجهاً للمتكلم قد يسمع بعض الكلام بالصراخ ويستفيد بقيته بحركة الشفتين ، فأما إذا ولى مدبراً فقد ابتعد عن الصوت ولم يلاحظ حركة الشفتين فذلك أبعد له عن السمع .
واستدلت عائشة رضي الله عنها بهذه الآية على رد ظاهر حديث ابن عمر : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر وفيه قتلى المشركين فناداهم بأسمائهم وقال : هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً ، قال ابن عمر : فقيل له : يا رسول الله أتنادي أمواتنا فقال : إنهم الآن يسمعون ما أقول لهم » . فقالت عائشة : إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق ثم قرأت { إنك لا تسمع الموتى } حتى قرأت الآية .
وهذا من الاستدلال بظاهر الدلالة من القرآن ولو باحتمال مرجوح كما بيناه في المقدمة التاسعة . وإلا فإن الموتى هنا استعارة وليس بحقيقة .
وضميرا { ولوا مدبرين } عائدان إلى الصم ، وهو تتميم للتشبيه حيث شبهوا في عدم بلوغ الأقوال إلى عقولهم بصم ولوا مدبرين ، فإن المدبر يبعد عن مكان من يكلمه فكان أبعد عن الاستماع كما تقدم آنفاً .