{ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } أي : لينفق الغني من غناه ، فلا ينفق نفقة الفقراء .
{ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } أي : ضيق عليه { فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } من الرزق .
{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا } وهذا مناسب للحكمة والرحمة الإلهية حيث جعل كلا بحسبه ، وخفف عن المعسر ، وأنه لا يكلفه إلا ما آتاه ، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ، في باب النفقة وغيرها . { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } وهذه بشارة للمعسرين ، أن الله تعالى سيزيل عنهم الشدة ، ويرفع عنهم المشقة ، { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا }
ثم يفصل الأمر في قدر النفقة . فهو اليسر والتعاون والعدل . لا يجور هو ، ولا تتعنت هي . فمن وسع الله عليه رزقه فلينفق عن سعة . سواء في السكن أو في نفقة المعيشة أو في أجر الرضاعة . ومن ضيق عليه في الرزق ، فليس عليه من حرج ، فالله لا يطالب أحدا أن ينفق إلا في حدود ما آتاه . فهو المعطي ، ولا يملك أحد أن يحصل على غير ما أعطاه الله . فليس هناك مصدر آخر للعطاء غير هذا المصدر ، وليست هناك خزانة غير هذه الخزانة : ( لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ) . .
ثم لمسة الإرضاء ، وإفساح الرجاء ، للاثنين على السواء :
( سيجعل الله بعد عسر يسرا ) . .
فالأمر منوط بالله في الفرج بعد الضيق ، واليسر بعد العسر . فأولى لهما إذن أن يعقدا به الأمر كله ، وأن يتجها إليه بالأمر كله ، وأن يراقباه ويتقياه والأمر كله إليه . وهو المانح المانع . القابض الباسط . وبيده الضيق والفرج ، والعسر واليسر ، والشدة والرخاء .
وإلى هنا يكون قد تناول سائر أحكام الطلاق ومتخلفاته ، وتتبع كل أثر من آثاره حتى انتهى إلى حل واضح ؛ ولم يدع من البيت المتهدم أنقاضا ولا غبارا يملأ النفوس ويغشى القلوب ، ولم يترك بعده عقابيل غير مستريحة بعلاج ، ولا قلاقل تثير الاضطراب .
وكذلك يكون قد عالج جميع الوساوس والهواجس التي تثور في القلوب ، فتمنعها من السماحة والتيسير والتجمل للأمر . فأبعد أشباح الفقر والضيق وضياع الأموال من نفس الزوج إذا هو أسكن وأنفق ووسع على مطلقته أو مرضعة ولده . ومن نفس الزوجة التي تضيق بنفقة الإعسار ، أو تطمع في زيادة ما تصيب من مال زوجها السابق . فأكد اليسر بعد العسر لمن اتقى ، والضيق بعد الفرج ، والرزق من حيث لا يحتسب ، وفوق رزق الدنيا رزق الآخرة والأجر الكبير هناك بعد التكفير .
كما عالج ما تخلفه حالة الخلاف والشقاق التي أدت إلى الطلاق . من غيظ وحنق ومشادة وغبار في الشعور والضمير . . فمسح على هذا كله بيد الرفق والتجمل ، ونسم عليه من رحمة الله والرجاء فيه ؛ ومن ينابيع المودة والمعروف التي فجرها في القلوب بلمسات التقوى والأمل في الله وانتظار رضاه .
وهذا العلاج الشامل الكامل ، وهذه اللمسات المؤثرة العميقة ، وهذا التوكيد الوثيق المتكرر . . هذه كلها هي الضمانات الوحيدة في هذه المسألة لتنفيذ الشريعة المقررة . فليس هناك ضابط إلا حساسية الضمائر وتقوى القلوب . وإن كلا الزوجين ليملك مكايدة صاحبه حتى تنفقئ مرارته إذا كانت الحواجز هي فقط حواجز القانون ! ! وبعض الأوامر من المرونة بحيث تسع كل هذا . فالأمر بعدم المضارة : ولا تضاروهن يشمل النهي عن ألوان من العنت لا يحصرها نص قانوني مهما اتسع . والأمر فيه موكول إلى هذه المؤثرات الوجدانية ، وإلى استجاشة حاسة التقوى وخوف الله المطلع على السرائر ، المحيط بكل شيء علما . وإلى التعويض الذي يعده الله للمتقين في الدنيا والآخرة . وبخاصة في مسألة الرزق التي تكرر ذكرها في صور شتى ، لأنها عامل مهم في تيسير الموقف ، وتندية الجفاف الذي تنشئه حالة الطلاق . .
وإن الزوجين ليفارقان - في ظل تلك الأحكام والتوجيهات - وفي قلوبهما بذور للود لم تمت ، ونداوة قد تحيي هذه البذور فتنبت . . ذلك إلى الأدب الجميل الرفيع الذي يريد الإسلام أن يصبغ به حياة الجماعة المسلمة ، ويشيع فيها أرجه وشذاه .
وقوله : لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ : يقول تعالى ذكره : لينفق الذي بانت منه امرأته إذا كان ذا سعة من المال ، وغني من سعة ماله وغناه على امرأته البائنة في أجر رضاع ولده منها ، وعلى ولده الصغير وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ يقول : ومن ضيق عليه رزقه فلم يوسع عليه ، فلينفق مما أعطاه الله على قدر ماله ، وما أعطى منه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ قال : من سعة موجده ، قال : وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ قال : من قتر عليه رزقه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ يقول : من طاقته .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللّهُ قال : فرض لها من قدر ما يجد .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : ثني ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ قال : على المطلقة إذا أرضعت له .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن أبي سنان ، قال : سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، عن أبي عُبيدة ، فقيل له : إنه يلبس الغليظ من الثياب ، ويأكل أخشن الطعام ، فبعث إليه بألف دينار ، وقال للرسول : انظر ما يصنع إذا هو أخذها ، فما لبث أن لبس ألين الثياب ، وأكل أطيب الطعام ، فجاء الرسول فأخبره ، فقال رحمه الله : تأوّل هذه الاَية لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيَنْفِقْ مِمّا آتاه اللّهُ .
وقوله : لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ ما آتاها يقول : لا يكلف الله أحدا من النفقة على من تلزمه نفقته بالقرابة والرحم لا ما أعطاه ، إن كان ذا سعة فمن سعته ، وإن كان مقدورا عليه رزقه فمما رزقه الله على قدر طاقته ، لا يُكلف الفقير نفقة الغنيّ ، ولا أحدَ من خلقه إلا فرضه الذي أوجبه عليه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ ما آتاها قال : يقول : لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغنيّ .
حدثنا عبد الله بن محمد الزهري ، قال : حدثنا سفيان ، عن هشيم لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ ما آتاها قال : إلا ما افترض عليها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ ما آتاها يقول : إلا ما أطاقت .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ ما آتاها قال : لا يكلفه الله أن يتصدّق وليس عنده ما يتصدّق به ، ولا يكلفه الله أن يزكي وليس عنده ما يزكي .
يقول تعالى ذكره : سَيَجْعَل اللّهُ للمقلّ من المال المقدور عليه رزقه بَعْدَ عُسْر يُسْرا يقول : من بعد شدّة رخاء ، ومن بعد ضيق سعة ، ومن بعد فقر غنى . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان سَيَجْعَلُ اللّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرا بعد الشدة الرخاء .