تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدۡ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبۡلُ فَأَمۡكَنَ مِنۡهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (71)

{ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ ْ } في السعي لحربك ومنابذتك ، { فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ْ } فليحذروا خيانتك ، فإنه تعالى قادر عليهم وهم تحت قبضته ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ْ } أي : عليم بكل شيء ، حكيم يضع الأشياء مواضعها ، ومن علمه وحكمته أن شرع لكم هذه الأحكام الجليلة الجميلة ، وأن تكفل{[358]}  بكفايتكم شأن الأسرى وشرهم إن أرادوا خيانة .


[358]:- في ب: وقد تكفل
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدۡ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبۡلُ فَأَمۡكَنَ مِنۡهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (71)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .

يقول تعالى ذكره لنبيه : وإن يرد هؤلاء الأسارى الذين في أيديكم خيانتك : أي الغدر بك والمكر والخداع ، بإظهارهم لك بالقول خلاف ما في نفوسهم ، فَقَدْ خَانُوا الله مِنْ قَبْلُ يقول : فقد خالفوا أمر الله ممن قبل وقعة بدر ، وأمكن منهم ببدر المؤمنين . والله عَلِيمٌ بما يقولون بألسنتهم ويضمرونه في نفوسهم ، حَكِيمٌ في تدبيرهم وتدبير أمور خلقه سواهم .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : وَإنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ يعني : العباس وأصحابه في قولهم : آمنا بما جئت به ، ونشهد أنك رسول الله ، لننصحن لك على قومنا يقول : إن كان قولهم خيانة فقد خانوا الله من قبل ، فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ يقول : قد كفروا وقاتلوك ، فأمكنك الله منهم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ . . . الاَية . قال : ذكر لنا أن رجلاً كتب لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم عمد فنافق ، فلحق بالمشركين بمكة ، ثم قال : ما كان محمد يكتب إلا ما شئتُ فلما سمع ذلك رجل من الأنصار ، نذر لئن أمكنه الله منه ليضربنه بالسيف . فلما كان يوم الفتح أمّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، ومقيس بن صُبابة ، وابن خطل ، وامرأة كانت تدعو على النبيّ صلى الله عليه وسلم كل صباح . فجاء عثمان بابن أبي سرح ، وكان رضيعه أو أخاه من الرضاعة ، فقال : يا رسول الله هذا فلان أقبل تائبا نادما ، فأعرض نبيّ الله صلى الله عليه وسلم . فلم سمع به الأنصاريّ أقبل متقلدا سيفه ، فأطاف به ، وجعل ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يومىء إليه . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم يده فبايعه ، فقال : «أَمَا والله لقد تَلَوّمْتُكَ فيه لتُوفي نَذْرَكَ » ، فقال : يا نبيّ الله إني هبتك ، فلولا أومضت إليّ فقال : «إنّه لا يَنْبَغي لِنَبيّ أنْ يُومِضَ » .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَإنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ فَأمْكَنْ مِنْهُمْ يقول : قد كفروا بالله ونقضوا عهده ، فأمكن منهم ببدر .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدۡ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبۡلُ فَأَمۡكَنَ مِنۡهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (71)

الضمير في { يريدوا } عائِد إلى من في أيديكم من الأسرى . وهذا كلام خاطب به اللَّهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم اطمئناناً لنفسه ، وليبلغ مضمونَه إلى الأسرى ، ليعلموا أنّهم لا يغلِبون الله ورسوله . وفيه تقرير للمنّة على المسلمين التي أفادها قوله : { فكلوا مما غنمتم حلالا طيباً } [ الأنفال : 69 ] ، فكل ذلك الإذنُ والتطييب بالتهنئة والطمأنة بأن ضمن لهم ، إنْ خانهم الأسرى بعدَ رجوعهم إلى قومهم ونكثوا عهدهم وعادوا إلى القتال ، بأنّ الله يمكّن المسلمين منهم مرةً أخرى ، كما أمكنهم منهم في هذه المرة ، أي : أن يَنووا من العهد بعدم العود إلى الغزو خيانتَك ، وإنّما وعدوا بذلك لينجَوا من القتل والرقّ ، فلا يضرّكم ذلك ، لأنّ الله ينصركم عليهم ثانيَ مرة . والخيانة نقض العهد وما في معنى العهد كالأمانة .

فالعَهد ، الذي أعطَوْه ، هو العهد بأن لا يعودوا إلى قتال المسلمين . وهذه عادة معروفة في أسرى الحرب إذا أطلقوهم فمن الأسرى من يخون العهد ويرجع إلى قتال من أطلقوه .

وخيانتهم الله ، التي ذُكرت في الآية ، يجوز أن يراد بها الشرك فإنّه خيانة للعهد الفطري الذي أخذه الله على بني آدم فيما حكاه بقوله : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم } [ الأعراف : 172 ] الآية فإنّ ذلك استقرّ في الفطرة ، وما من نفس إلاّ وهي تشعر به ، ولكنّها تغالبها ضلالات العادات واتّباع الكبراء من أهل الشرك كما تقدّم .

وأن يراد بها العهد المجمل المحكي في قوله : { دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما } [ الأعراف : 189 ، 190 ] .

ويجوز أن يراد بالعهد ما نكثوا من التزامهم للنبيء صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الإسلام من تصديقه إذا جاءهم ببيّنة ، فلمّا تحدّاهم بالقرآن كفروا به وكابروا .

وجواب الشرط محذوف دلّ عليه قوله : { فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم } . وتقديره : فلا تضرّك خيانتهم ، أو لا تهتمّ بها ، فإنّهم إن فعلوا أعادهم الله إلى يدك كما أمكنك منهم من قبل .

قوله : { فأمكن منهم } سكت معظم التفاسير وكتب اللغة عن تبيين حقيقة هذا التركيب ، وبيان اشتقاقه ، وألَمَّ به بعضهم إلماماً خفيفاً ؛ بأن فسروا ( أمكنَ ) بأقدَرَ ، فهل هو مشتقّ من المكان أو من الإمكان بمعنى الاستطاعة أو من المكانة بمعنى الظفر . ووقع في « الأساس » « أمكنني الأمرُ معناه أمكنني من نفسه » وفي « المصباح » « مكنته من الشيء تمكينا وأمكنته جعلت له عليه قدرة » .

والذي أفهَمه من تصاريف كلامهم أن هذا الفعل مشتقّ من المكان وأنّ الهمزة فيه للجعل ، وأن معنى أمكنه من كذا جعل له منه مكاناً أي مقراً ، وأنّ المكان مجاز أو كناية عن كونه في تصرفه كما يكون المكان مَجالاً للكائن فيه .

و« من » التي يتعدّى بها فعل أمكن اتّصالية مثل التي في قولهم : لستُ منك ولستَ منّي . فقوله تعالى : { فأمكن منهم } حذف مفعوله لدلالة السياق عليه ، أي أمكنك منهم يوم بدر ، أي لم ينفلتوا منك .

والمعنى : أنّه أتاكم بهم إلى بدر على غير ترقّب منكم فسلّطكم عليهم .

{ والله عليم حكيم } تذييل ، أي عليم بما في قلوبهم حكيم في معاملتهم على حسب ما يعلم منهم .