ومع هذا { فرحين بما آتاهم الله من فضله } أي : مغتبطين بذلك ، قد قرت به عيونهم ، وفرحت به نفوسهم ، وذلك لحسنه وكثرته ، وعظمته ، وكمال اللذة في الوصول إليه ، وعدم المنغص ، فجمع الله لهم بين نعيم البدن بالرزق ، ونعيم القلب والروح بالفرح بما آتاهم من فضله : فتم لهم{[174]} النعيم والسرور ، وجعلوا { يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } أي : يبشر بعضهم بعضا ، بوصول إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم ، وأنهم سينالون ما نالوا ، { ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون } أي : يستبشرون بزوال المحذور عنهم وعن إخوانهم المستلزم كمال السرور
وفي نصب قوله : { فَرِحِين } وجهان : أحدهما : أن يكون منصوبا على الخروج من قوله : { عِنْدَ رَبّهِمْ } والاَخر من قوله : { يُرْزَقُون } . ولو كان رفعا بالردّ على قوله : «بل أحياء فرحون » كان جائزا .
القول في تأويل قوله : { ويَسْتَبْشِرُونَ بالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أنْ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } .
يعني بذلك تعالى ذكره : ويفرحون بمن لم يلحق بهم من إخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء في الدنيا على مناهجهمّ ، من جهاد أعداء الله مع رسوله ، لعلمهم بأنهم إن استشهدوا فلحقوا بهم ، صاروا من كرامة الله إلى مثل الذي صاروا هم إليه ، فهم لذلك مستبشرون بهم ، فرحون أنهم إذا صاروا كذلك ، { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } يعني بذلك : لا خوف عليهم لأنهم قد أمنوا عقاب الله ، وأيقنوا برضاه عنهم ، فقد أمنوا الخوف الذي كانوا يخافونه من ذلك في الدنيا ، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من أسباب الدنيا ، ونكد عيشها ، للخَفْض الذي صاروا إليه والدعة والزّلفة ، ونصب أن لا بمعنى : يستبشرون لهم بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { ويَسْتَبْشِرُونَ بالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ } . . . الاَية ، يقول : لإخوانهم الذين فارقوهم على دينهم وأمرهم لما قدموا عليه من الكرامة والفضل والنعيم الذي أعطاهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { ويَسْتَبْشِرُونَ بالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ } . . . الاَية ، قال يقول : إخواننا يقتلون كما قتلنا ، يلحقون فيصيبون من كرامة الله تعالى ما أصبنا .
حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : ذكر لنا عن بعضهم في قوله : { وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أمْواتا بَلْ أحيْاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ } قال : هم قتلى بدر وأُحد ، زعموا أن الله تبارك وتعالى لما قبض أرواحهم ، وأدخلهم الجنة ، جعلت أرواحهم في طير خضر ترعى في الجنة ، وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش . فلما رأوا ما أعطاهم الله من الكرامة ، قالوا : ليت إخواننا الذين بعدنا يعلمون ما نحن فيه ! فإذا شهدوا قتالاً تعجلوا إلى ما نحن فيه ! فقال الله تعالى : إني منزل على نبيكم ومخبر إخوانكم بالذي أنتم فيه ! ففرحوا به واستبشروا ، وقالوا : يخبر الله نبيكم وإخوانكم بالذي أنتم فيه ، فإذا شهدوا قتالاً أتوكم . قال : فذلك قوله : { فَرِحِينَ بمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } . . . إلى قول : { أجْرَ المُؤْمِنِينَ } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { ويَسْتَبْشِرُونَ بالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ } : أي ويُسَرّون بلحوق من لحق بهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم ، ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم ، وأذهب الله عنهم الخوف والحزن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { ويَسْتَبْشِرُونَ بالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ } قال : هم إخوانهم من الشهداء ممن يستشهد من بعدهم ، { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } حتى بلغ : { وأنّ اللّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُؤْمِنِينَ } .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أما { يَسْتَبْشِرُونَ بالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ } ، فإن الشهيد يؤتى بكتاب فيه من يقدم عليه من إخوانه وأهله ، فيقال : يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا ، ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا ! فيستبشر حين يقدم عليه ، كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في ما الدنيا .
{ يستبشرون } معناه : يسرون ويفرحون ، وليست استفعل في هذا الموضع بمعنى طلب البشارة ، بل هي بمعنى ا ستغنى الله واستمجد المرخ والعفار{[3713]} ، وذهب قتادة والربيع وابن جريج وغيرهم : إلى أن هذا الاستبشار إنما هو بأنهم يقولون : إخواننا الذين تركناهم خلفنا في الدنيا يقاتلون في سبيل الله مع نبيهم فيستشهدون فينالون من الكرامة مثل ما نحن فيه فيسرون لهم بذلك ، إذ يحصلون{[3714]} لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وذهب فريق من العلماء وأشار إليه الزجّاج وابن فورك : إلى أن الإشارة في قوله : { بالذين لم يلحقوا } إلى جميع المؤمنين ، أي لم يلحقوا بهم في فضل الشهادة لكن الشهداء لما عاينوا ثواب الله ، وقع اليقين بأن دين الإسلام هو الحق الذي يثيب الله عليه ، فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله ، { ويستبشرون } للمؤمنين بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون « ، و { ألا } مفعول من أجله ، التقدير ، بأن لا خوف ، ويجوز أن يكون في موضع خفض بدل اشتمال .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.